ذ: عبد المجيد بن الشاوية لا يخلو زمن من الأزمنة من دجل و دجالين، و لا امة من الأمم، و لا شعب من الشعوب من افتراء و مفترين ، و تجني على الحقيقة و الحكمة و العقل و العدالة، و الأخلاق ، والسياسة و الإنسانية ... وهلم جرا من المقولات الجوهرية التي اشتغل علبها العقل الإنساني الفلسفي و العلمي معا، عبر مر التاريخ و الحضارات، و هو ما أصيبت به الأمة العربية/ الإسلامية، في هذا الزمن المعاصر، بشكل أكثر حدة، و أكثر شيوعا، في كل المجالات الحياتية عامة، و هو المعطى المشاعي كذلك، لكل فرد من أفراد مجتمعاتنا و شعوبنا، من المحيط إلى الخليج . وكأن أقدارنا لم تكن من نصيبها إلا هذا الدجل و الافتراء و التجني، لما استشرى الفساد و الإفساد و الطغيان و التسلط و شيوع قيم الرذيلة و النذالة. إنها حقيقة الصراع الدائر بين قيم الخير و قيم الشر، وبين قوى الفضيلة و قوى الرذيلة. الدجل وتعدد ممارساته بجغرافية العالم العربي: الدجل هو مجانبة الصواب و الحقيقة ، و احترافه يتطلب آليات يفترض في محترفيه أن يتقنوها ، و انم يمتلكوا أدواته الخاصة ، الخاضعة و الإيهامية ، و مادام أن كل فرد بداخل كل مجتمع ، يحدوه السعي إلى الانوجاد بداخل كل مجموعة ، و حسب معطيات تم إنتاجها ، وفق آليات الاشتغال الذاتي و الموضوعي ، تشرعن هذا الوجود الكياني ، ليبلغ ما يمكن أن يحقق له ذاته بشكل فعلي وملموس ، طبعا ، في سيرورة متزامنة مع طموحات وأمال أخرى لدى بني مجموعته أو معاصريه ، و ذلك سواء أكان في إطار قبلي و عشائري ، او كان في إطار مجتمعي ، آو في إطار اعم و اشمل إقليمي و أممي بداخل دائرة تصارع و تدافع المصالح والاستراتيجيات الإقليمية و الدولية . ففي خضم تسارع الذوات للحلول في فضاءات العام ، و نيل الأسبقية و الحظوة الاجتماعية و الوجاهة ، و تحويل الذات من موقعها الخاص و المحدود إلى موقع تحتل مكانا أرحب في ما هو عام ، لتنشغل به الذوات الأخرى في جانب كبير من اهتماماتها ، و تفكيراتها ،يتم إيجاد وسائل لبلوغ هذا الانوجاد و هذا الحلول المراد تحقيقهما ، وهنا تكمن مسوغات الأسئلة المشروعة حول طبيعة الطموحات الفردية و الجماعية ، و مدى نوعية الوسائل و الأدوات و الطرق المؤدية إلى كل المبتغيات و المرامي و المساعي و علاقتها بما ينفع الناس و المواطنين و الإنسانية ، إنها الأسئلة المؤرقة ، كيف؟ و لماذا؟ و ماذا نريد؟ و نحن نفكر و نجهد أنفسنا و عقولنا ، حتى نصبوا إلى أهدافنا سواء ذات الطابع الفردي أو الجماعي . و لعل أبرز ما هو معطى في خريطة العالم العربي و الإسلامي ، هو هذا الصراع القائم بين مفهومي الصالح الخاص و الصالح العام ، و محاولات كل منا للاستحواذ على أكثر حصة من المنافع ، و احتلال أوسع و أرحب فسحة في الفضاء العام بدون موجب حق أو شرع ، و هو ما يخلق و ينوجد مع هذا كله كل الأساليب اللا مشروعة ، وكل الافتراءات و الأقنعة ، و كل وجوه المكر و الخداع و النفاق ، إنها صيغ الدجل المعتمدة في كل انساق الحياة الفردية و الاجتماعية بداخل الأوطان العربية/الإسلامية ، و التي تم غرسها و زرعها في كل التصورات الثقافية و التربوية و الاجتماعية و السياسية و الدينية و الإيديولوجية ، من قبل من كان لهم المصلحة في تأبيد واقع الحال و تأزيله قدر الإمكان ، و جعل كل التمثلات منصبة حول هذه الصيغ في محاولات إثبات الذات و تحقيق النجاحات الفردية و الجماعية على حساب مفاهيم القيم البناءة و الصالح العام الوطني و الإنساني و الحضاري . و تأسيسا على هذا الإطار ، فالدجل تعددت استعمالاته و توظيفا ته في المجال العربي/الإسلامي ، سواء سياسيا او اجتماعيا ، ثقافيا او تربويا ، إعلاميا او ايدولوجيا ، أخلاقيا او دينيا ، و بذلك أضحى هو المتحكم في كل أنماط و سلوكات الحياة عموما ، و في واقع الحياة الخاصة و العامة ، إذ لا يمكن لنا الا نرى و نشاهد بأم أعيننا ، غير مشاهده و ممارساته ، و مقالب تزخر بها الحياة ، في صورة حقائق و بديهيات ، في علاقة الحاكمين بالمحكومين من جهة ،و في علاقة الأدنى درجة يبعضهم البعض من جهة أخرى ، عاصفة بكل القوى الممانعة في مواجهاتها لهذا المد الدجلي الطوفاني ،إلى الهامش و أحيانا قبرها ، و كسر أحلامها على صخر من فولاذ و حديد وغير ذلك ، وكيف لا وقد تم استنبات وتبيئة كل الطحالب الفاسدة ، وخلق القوى المارقة في وجه كل قيم الفضيلة و الكرامة و المواطنة و العدالة و الحرية و الالتزام و المسؤولية. و ها هو الربيع العربي الثوري، يفضح بأزهاره كل قوى الدجل و المروق والافتراء و التجني، وعلى صهوات شهدائه و جياده وأبطاله ، ترفرف أعلام الحقيقة و الصواب والمعقول العقلي ، و بداية العد العكسي في عملية القلب التاريخي ، بعد ان مورس الدجل بكافة أشكاله السياسية و المدنية على السواء ، فعلى المستوى الرسمي ، أصبحنا لا نرى إلا بأم عين الحاكم العربي ، ولما لا هو الأول في كل الميادين ، و له الأفضلية الميتافيزيقية المتعالية في حركاته و سكناته ، و في تصوراته و استيهاماته ، حيث لا احد سواه وزبانيته ، فظلنا من ظله ، و عقلنا من عقله ، و فكرنا من فكره ، و سلامنا – او بالأحرى استسلامنا – من سلامه ، و نظرنا للأشياء و العوالم والحياة ، و الكون و الانسان ، والحيوان والجماد و القبح و الجمال ولكل القيم ، كيف ما كان من نظره ، وهو ما تماهى معه المدني في كل تجلياته ، فتم إلغاء كل طروحات الاختلاف والمباينة ، و كل الجدليات في مستويات الحياة عموما ، و بذلك تحققت نبوءة المسيح الدجال مع الحاكم العربي ، الذي لا يملك إلا عينا واحدة و وحيدة على محياه ، و أراد أن يسيد كل رؤيته المطلقة انطلاقا من ذاته في إتجاه كل العوالم الأخرى ، فخلق أحزابه ، و أسس نواديه ، وهيكل وزاراته و دواوينه ، فلا يأتمر تابعوه إلا بإذنه ، و لا يقررون إلا بإشارته ، هو أيديهم التي يبطشون بها و أرجلهم التي يركلون بها ، هو مانحهم النعمة التي يسبحون بحمدها ، هو دجلهم الذي به يسحرون العباد في كل المنتديات الإعلامية والمؤسساتية ، إنه الحاكم الإله ، ربهم المعبود الذي أعطاهم كل شئ ، وانعم عليهم بكل النعم والخيرات ، يحييهم بجوده و كرمه و قدرته ، يغنيهم عن الفقر و العوز ، يفقرهم في حالة التمرد عليه و الخروج عن دائرته ، يسلط عليهم القمل و الجراد إذا لم يوحدوه ، يرميهم بالرجس إذا لم يؤلهوه و يعبدوه ، وإّذا لم يسبحوه بكرة و عشية ، يصيبهم بشلالات السيل العرم ، ويرسل عليهم حاصبا من سمائه لينكل بهم تنكيلا ، و إذا لم يمارسوا طقوس الوهيته ، يقذفهم بحجارة من سجيل ، و يبعث عليهم الطير الأبابيل ، يلتف حوله سحرته ودجالوه ، يقدمون البيعة اللالاهية ، يركعون ويسجدون ، أ إذا كانت لهم الغلبة ، فلهم النعمة والبركة ، و هم من المقربين المقبوحين ، وإذا ما خرج عليه خوارجوه في مملكته الربانية ، يدمرهم براجماته الشبيحية و البلطجية و المدفعية ، و يسقط عليهم كسفه من سماء مملكته ، و ينزل عليهم جنوده وحواريوه ليهشموا الاضلع و الجماجم ، يكسروا العظام و الأيدي و الأرجل ، ويزهقوا الأرواح الأبية ، و يغتصبوا الحرمات الإنسانية ، و ينتهكوا المحرمات المقدسة و غيرها . و من الدجل ما قتل : ما انفك ينفضح افك ودجل وكذب الدجالين على ساحة العالم العربي/الإسلامي ، بعد ان انشعل فتيل الثورات و اندلع لهيبها في هشيم زبد افتراءاتهم و نفاقهم ، "وضل عنهم ما كانوا يفترون" ، وما كانوا يأفكون ، و ماكانوا ينافقون به شعوبهم ، وهم على كراسي عروشهم الوثيرة ، و صالوناتهم المكيفة بأحدث المكيفات ،و بأقلامهم الذهبية و ما هي بذهبية ، وبأوراقهم وكراساتهم المرقونة بمداد النفاق و المير و الإفك و البهتان ، و بمقالبهم الطغيانية و التسلطية الشيطانية ، و بمناوراتهم وتخريجاتهم الوهمية ، سواء منها المؤسساتية او الإيديولوجية في كل مناحي الحياة عامة ، حتى تخالهم أنهم يحسنون صنعا ، وما هم من الإحسان من شئ و لا من أعمال البر من ذرة خير من شئ . لقد قامت ثورات الربيع العربي بتعرية زيف هؤلاء الدجالين وتوابعهم و أزلامهم ، لينقلب السحر على ساحريه في واضحة النهار ، و ان ما كان يسحرون به شعوبهم إنفضح أمره ، وهو ما أكدته و تؤكده خطاباتهم وعنجهياتهم الإعلامية و الإستخباراتية و العسكرية و السياسية ، و اتهاماتهم لبواسل الثورات و شجعانها و شرفائها بالعمالة لتنظيمات ما او تبعيتهم لأنظمة دولتية ما و استخباراتها ، قبل ان كانوا عملاء لأسيادهم وسماسرة و وكلاء أعمال بالنيابة لكيانات ، في السياسة و الاقتصاد و الأعمال ، و الإيديولوجية و الثقافة ، و الموضة العالمية ، و الرساميل العالمية للشركات المتعددة الجنسية ، ولمخططات التجهيل و الرجعية و التخلف و الغزو و الاستلاب الحضاري الغربي و الصهيوني . إنها بداية لحظة من لحظات الحسم إبان فتوحات أولية للثورات العربية ، و إنكشاف أمر عورات الدجالين و المفترين ، و نواياهم الثاوية خلف اجساد من خشب ، وهناك من قضى نحبه وصار في خبر كان ، بنهاية مأساوية تراجيدية بشعة ، فتن أيما افتنان في أخر لحظة من رمق حياته ، مغادرا دار الفناء غير مالك و لو ذرة من شهامة وعزة وكبرياء و انفة كما كان يدعي و يتوهم ، وهناك من ينتظر و هو في نوبات هستيرية بمهجره الاضطراري فارا من مقصلة محكمة التاريخ ، وهناك من هو على سرير الإنعاش الطبي ، منخور القوى ، و هو في طريقه إلى أقسى العقوبات بعد ان فضل ان يكون بين مخالب قوانين الثورة لمحاكمته ، عوض ان كان بإمكانه النهل من حكمة يوسف النبوية بمصر موسى ، بدل نهج عنترية فرعون الاله ، و نجي ببدنه كعبرة ، سالما بروحه من موت محقق برصاصة قاتلة ، وهناك من لازال يزبد و يرغد ، بالرغم من انه نجا من عملية قاتلة استهدفته هو و مواليه ، و خرج منها كعفريت من قمقمه ، مشوها غير عابئ بما تعرض له ، و لازال لم ينته من دجله و افتراءاته ، و آخرها ما يشهده العالم العربي من ثورات ليست بثورات و لكنها فوضى على أرضه ، وهناك من لازال يقتل و يدبح النساء و الرجال و الأطفال ، وينكل بالعباد أيما تنكيل ، و يعذب أيما تعذيب من تم إيقافه و جره الى مخافره العلنية والسرية ، وهناك من يحبس انفاس مواطنيه ، ويعلم الله ما يخطط في حالة ما إذا ثارت فرائس وهمم و عزائم من يريدون التغيير و قلب الطاولة رأسا على عقب ، و لا ينفى مع هذا بعض من سلوكات أمنية و ممارسات استخباراتية ، و شن حملة اعتقالات في حالات ما و مواقع ما ، في مواجهة حركات تطالب بمحاربة الفساد و الإفساد و الاستبداد .