يرى عدد من الباحثين في حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية أن مستقبل الصراع في العالم سيكون حول منظومة القيم. لقد أًصبح للقيم أهمية كبرى لدرجة أن الصراع انتقل من الحروب واستعمال القوة إلى الصراع بين من يملك قيم مجتمع معين من خلال التأثير على هذا المجتمع ومن خلال صناعة أجيال تابعة لثقافة معينة كما يوضح الدكتور رشيد جرموني، الأستاذ والباحث في علم الاجتماع، الذي يؤكد أن امتلاك المعرفة ومنظومة القيم اليوم هو الذي يحدد من يملك السلطة ومن يملك الثروة، ويضيف أن الصراع يحصل حتى داخل نفس المجتمع لأن مرجعيات القيم لم تعد واضحة ولم يعد عليها إجماع. فما الذي نقصده بالقيم؟ وكيف تنشأ هذه القيم التي من شأنها الحفاظ على تماسك المجتمع؟ وهل يمكن أن نتحدث عن أزمة قيم في المجتمع المغربي؟ هذه الأسئلة وغيرها يجيب عليها الأستاذ جرموني في الحوار التالي: 2m.ma: ما الذي نقصده عندما نتحدث عن القيم؟ مفهوم القيم هو من المفاهيم التي يصعب تعريفها، ويمكن أن نعرفها على أنها مجموعة من التفضيلات الجماعية التي لا نحكم عليها بكونها جيدة ام لا، وهي تفضيلات يختارها الناس وتكتسب شرعية داخل المجتمع. 2m.ma: هل القيم كونية أم أن كل مجتمع ينتج قيمه الخاصة؟ هناك قيم كونية مثل حقوق الإنسان، فلا أحد ينكر هذه الحقوق، هي قيم عالمية، وهي التي أعطت للمرأة حقوقها، ولكن عندما نتحدث عنها في المجتمعات العربية المسلمة، فهي تعترف بحقوق المرأة، ولكنها ترجع في بعض الأحيان إلى المرجعية الدينية وأحيانا إلى العادات والتقاليد، وكمثال على ذلك شهادة المرأة التي لا تكون صحيحة إلى بحضور امرأة أخرى. 2m.ma: هل هناك فرق بين القيم وبين العادات والتقاليد؟ هناك علاقة وطيدة بين القيم وبين العادات والتقاليد. فعندما نقول بأن القيم هي مجموعة من الخيارات والتفضيلات التي تصبح لها شرعية في المجتمع، فإن العادات والتقاليد هي الأخرى لها مشروعية وتصبح جزءا من ثقافة من المجتمع. مثلا تقاليد العرس المغربي وطريقة الاحتفال بالأعياد هي تقاليد. بطبيعة الحال هناك من يختلف حول هذه التقاليد وينتقدها، ولكنها تبقى جزءا من منظومة القيم. إذن القيم تشمل الدين والعادات والتقاليد. 2m.ma: هل نعيش اليوم أزمة قيم؟ يصعب الحديث عن أزمة مع أن هذا المصطلح يستعمل بشكل كبير. من الصعب أن نقول أزمة، لأنه ليست لدينا ما يكفي من الأبحاث، وأنا أفضل الحديث عن تحولات في القيم حيث يمكن أن نميز بين ثلاثة مصطلحات: التحول Transformation والانتقال Mutation والتغير Changement. الفرق بين هذه المصطلحات هي أن التحول يكون جذريا، يعني أن قيما تكون في مرحلة معينة وتتحول بشكل جذري. مثلا الطاعة كما كانت في المجتمع المغربي في علاقة الأب بأبنائه، حيث كانوا يقبلون يده، وكان ما يقرره الأب غير قابل للنقاش، وقد يختار الفتاة التي تكون زوجة ابنه، فلا يعترض هذا الأخير على قرار والده. هذه القيمة لم تعد موجودة مؤخرا وحل محلها الحوار والنقاش، فلم يعد بإمكان الأب أن يفرض رأيا على ابنه أو ابنته في الزواج. بالنسبة للتغير، فهو لا يكون جذريا، بل شكليا يشمل بعض المكونات، وكمثال على ذلك التضامن الذي كان ولا يزال حاضرا في المجتمع المغربي، فإذا كان التضامن في السابق مرتبطا بما هو قبلي ومجالي، فإنه اتخذ اليوم أشكالا أخرى، حيث أصبحت له صبغة وطنية، فالجمعيات تقدم مساعدات للمحتاجين دون أن تكون لها معرفة سابقة بهم أو تربطها بهم صلة قرابة. أما الانتقال فهو عندما تكون قيم سائدة وتظهر معها قيم أخرى محايثة. مثلا في السابق كان الرجل يتقدم لخطبة المرأة وهو أمر مازال قائما إلى اليوم، غير أن المرأة هي الأخرى أًصبح بإمكانها أن تقترح على الرجل الزواج منها، أًصبحت تعبر عن مشاعر الحب وعن رغباتها. 2m.ma: كيف تنشأ القيم داخل مجتمع ما؟ هناك قيم تكون ضاربة في الزمن والتاريخ، مثلا الإسلام، قيم الصدق، العمل... هذه قيم عامة في المجتمع تبقى معنا، ومع تحول عميق جدا، تظهر قيم جديدة في المجتمع. مثلا في الدستور المغربي، نجد الإسلام كمبدأ وكقيم، هذا إلى جانب الهوية المغربية المتعددة وقيم حقوق الإنسان... هذه مرجعيات المجتمع المغربي في منظومة قيم تبقى إلى حد ما ثابتة في المبادئ الكبرى، ولكنها متحولة في بعض التفاصيل. فإذا كان الإسلام هو دين الدولة، فلا أحد سيلزمنا أن نتبع أمورا محددة إذا أردنا أن نكون "مسلمين حقيقيين"، إذن، هنا تفاعلات المجتمع هي التي تحدد قيمة معينة. أؤكد مرة أخرى أن هناك قيما في المجتمع المغربي نجدها في الوثيقة الدستورية كقيم حقوق الإنسان والثقافة المغربية... ولكن في ظلها تحدث تحولات ينبغي مراعاتها وتغيير القوانين لتساير التحول الذي يحصل في هذه القيم.
2m.ma: هل هذا التحول يحصل لأن الأفراد والجماعات ترى أن هذه القيم لم تعد "تخدمها" وبالتالي يمكن أن نقول إنها "تثور" عليها؟ يمكن القول بأنه يتم استبدال هذه القيم حيث تحدث تحولات وفق شروط موضوعية. فهناك دينامية الثابت والمتحول، وهي دينامية تعيشها جميع المجتمعات. مثلا المرأة كانت تبقى في المنزل وكانت قيم الأسرة مرتبطة بهذا العنصر، ثم وقعت تحولات موضوعية فوق أي اختيارات فردية، وخرجت المرأة للعمل وأصبحت أفضل من الرجل في التحصيل الدراسي ووصلت إلى مواقع المسؤولية وحققت استقلالية مادية عن الرجل، وهذا ما انعكس على تحول القيم، وتمت إعادة النظر في هذه القيم. إذن برزت المرأة كفاعل في المجتمع وأصبحت استقلالية المرأة قيمة لها مشروعية في المجتمع. وبالتالي ما كان ينظر إليه على أنه سلبي في السابق، أصبح هو ما ينبغي أن يكون، وسواء استوعب المجتمع التحول أم لم يستوعبه، فالواقع يُفهمه من خلال ثقل التحول العميق الذي يحصل. جدير بالذكر أنه في خضم كل تحول، تحدث توترات وصراعات في المجتمع، ثم تأتي مرحلة التوافق على القيم الجديدة والاقتناع بأنها أًصبحت موجودة، وتظهر ضرورة تغيير القوانين والمواقف، وأحيانا قد تتغير القوانين دون أن يواكبها تغيير في القناعات، فتتم المناداة بالعودة إلى "قيمنا" فيتم الحديث عن "أزمة قيم". 2m.ma: أعتقد أن الحديث عن "أزمة قيم" يعود إلى الواجهة كلما ارتبط الموضوع بالعنف في المجتمع العنف ليس جديدا في المجتمع، بل كان موجودا. فقط لم يكن يتحدث عنه بالشكل الذي يتم الآن والذي ساهمت فيه وسائل الإعلام بشكل كبير. أعتقد أنه يمكن أن نتحدث عن غياب المرجعيات "Les repères" التي تحدد بعض السلوكات. فبعض التحولات التي حصلت لم تساعد الجيل الحالي على التشبع بالقيم التي تساعده ليعيش في المجتمع، فقد وقع تصدع في المجتمع والاسرة والمدرسة والمحيط الذي يعيش فيه الطفل الذي يجد نفسه أحيانا دون أي مرجعية توجهه. 2m.ma: ألم يكن المحيط الذي كان ينشأ فيه الطفل في السابق بدوره متصدعا؟ ليس بنفس الشكل الذي نعيشه اليوم، في السابق كانت المرأة تصبر وتتدخل العائلة لرأب الصدع ولمّ شمل الأسرة. اليوم الأطفال والمراهقون يعيشون بمعزل عن مصادر التوجيه التي غابت أو تراجعت، وهذا ليس أمرا عاما ولكننا نعيشه في المجتمع. اليوم هناك النزعة الفردانية التي غيرت نمط الحياة وأصبحنا نلاحظ أن أبناءنا يعيشون وكأنهم معزولين، وحتى الأحزاب السياسية والمجتمع المدني التي كانت تقوم بدور التنشئة وغرس قيم المواطنة والتربية على المسؤولية تراجع حضورها، وهذه المؤسسات إلى جانب الأسرة والمدرسة والإعلام مسؤولة على هذه الفئة من الأطفال والشباب التي تأخذ قيما أما من الانترنت أو جهة أخرى. 2m.ma: كيف يمكن أن ينعكس غياب المرجعيات على مستقبل أبنائنا؟ الأمر خطير جدا، لأن الانسان عندما يكون بدون مرجعيات توجهه، يعيش التيه والضياع، وهذا حال جزء من الشباب المغربي التي يعيش الضياع في غياب المرجعيات، وينضاف إلى ذلك شروط موضوعية كالفقر والهشاشة. 2m.ma: هذا الضياع والتيه نجده حتى عند الفئات "الميسورة"؟ نعم، لكنه يظهر بتأثير أقل من الفئات الهشة والفقيرة، لأن الأسرة تتدخل في نهاية المطاف، وتجد حلا لابنها إما من خلال إرساله للدراسة في الخارج أو العمل ضمن مشاريع العائلة وغيرها من الحلول. ولكن عندما نتحدث على غالبية المجتمع، فهناك حالات تعيش ضياعا كبيرا، تعيش توترا بين ما هو قيمي وبين واقع المجتمع، ولا تكون لديها رؤيا للمستقبل، يمكن أن نتحدث عن مليوني ونصف مليون من الشباب غير المؤهلين دراسيا، وبدون عمل ويعيشون في غياب بوصلة أو أطر قيمية يمكنها أن تساعدهم للخروج من هذا الوضع 2m.ma: نتحدث اليوم عن "مجتمع الاستهلاك" حيث ظهر الاستهلاك المفرط كقيمة لم تكن في السابق. ما هو تأثير هذا الاستهلاك على المجتمع؟ دخلت المجتمعات بصفة عامة الموجة الثالثة للتحديث تقريبا في الثمانينيات من القرن الماضي، فبدأ الباحثون يتحدثون عن مجتمع الاستهلاك، وهوما يعني أن قيم المجتمع تغيرت في نظرتها الى الاستهلاك. فالاستهلاك السائد في الماضي كان بهدف تلبية الحاجيات الضرورية والأساسية، واليوم أصبح صناعة تسهر عليها الشركات الكبرى التي تسعى إلى إقناع الناس باستهلاك منتوجاتها. لقد أصبح الاستهلاك في حد ذاته قيمة كبيرة عند المجتمع، وهو استهلاك بدون هدف أو معنى ساهم فيه التدفق الكثيف لوسائل الإعلام والإشهار، فنشأ جيل لا يريد أن يتعب من أجل الوصول إلى تحقيق طموحاته.