جاءت فواجع موسم الحج هذا العام بعد سنوات تسع من آخر حادثة موت جماعي مأساوية في مواسم حج سابقة، عندما لم تكن تقنيات الإعلام متاحة كما هي عليه اليوم. يتضخّم الوعي الجمعي بالفواجع في زمن الصور والمقاطع. فمن المؤكد أنّ كوارث موسم الحج، بدءاً من حادثة الرافعة في المسجد الحرام ثم فاجعة مشعر منى ستتجاوز في الوعي الجمعي للجماهير الأبعاد التي اتخذتها كوارث سابقة. جاءت فواجع هذا الموسم بعد سنوات تسع من آخر حادثة موت جماعي مأساوية في مواسم حج سابقة، عندما لم تكن تقنيات الالتقاط والبث باستعمال الهواتف الذكية والشبكات الاجتماعية متاحة كما هي عليه اليوم. انتقلت المجتمعات خلال ذلك من زمن البلاغات والكم العددي، إلى زمن الصورة والمشهد، بما يتيحه هذا الامتياز من إدراك الوجوه والتفاصيل ومعايشة الكيفيات التي تتفاعل الفاجعة بموجبها. من الأعداد إلى الوجوه كان التعامل مع مآسي الموت الجماعي في مواسم الحج السابقة يجري بمنطق البيانات العددية للضحايا، مع غياب عامل الصورة تقريباً. لا تستثير الإحصاءات المجرّدة انفعالات وجدانية بالقدر الذي تفعله المشاهد التي تُبث من ميدان الحدث مباشرة بأيدي الحجاج أنفسهم، وهو ما يزيد من قدرة الجمهور في أي مكان على معايشة المآسي والإدراك الوجداني لعمق الفواجع لحظة بلحظة. كانت روايات شهود العيان من الحجيج السابقين تنتشر بطيئة بعد عودتهم إلى مجتمعاتهم غالباً، ويبقى نطاقها محدوداً للغاية، لكنّ أجزاء مستلّة من المشهد المفزع تنتقل اليوم بالصوت والصورة والحركة إلى ملايين المشاهدين بنقرات معدودة بعد التقاطها مباشرة. إنّه فعل تضخيمي للصراخ وتعبيرات الألم وألوان الفواجع المرئية، تضع المشاهدين في قلب الحدث تقريباً مع التزامن، بما يستثير إحساساً متعاظماً في المجتمعات عبر الجغرافيا الفسيحة، فيعيد تعريف نطاق الفُرجة المعتاد على واقعة مأساوية تجري في ميدان عام. الجديد في الموقف أنّ بعض التفاصيل المستلّة مما جرى في موسم الحج الحالي ستبقى عالقة في أذهان الجماهير حول العالم في هيئة مصوّرة، وستظلّ على هذه الحال آماداً طويلة، بينما تغيب عن الأذهان مشاهد مما جرى في مواسم سابقة؛ مثل كارثة النفق التي أودت في موسم الحج قبل ربع قرن تحديداً بحياة 1500 حاج تقريباً، أو حتى كوارث التدافع وحرائق مخيمات الحجيج التي وقع آخرها عام 2006م. تجرّ التأثيرات المترتبة على مشاهد كهذه انعكاسات سلبية للغاية، خاصة عندما ترتبط بعض المعالم المقدسة في وعي الجمهور عبر العالم بمشاهد فاجعة كالتي وردت بعد سقوط الرافعة ثم الموت الجماعي في منى، أو أن يلتصق مشهد الطهر والإحرام بانطباعات مفزعة تستثيرها أفواج بشرية هالكة وصفوف الملتاعين الباحثين عن ذويهم المفقودين. لن تبدو الحالة معزولة عن سياق أعمق فائق التعقيد والحساسية، فالمآسي الآتية من مشعر منى يوم العيد مألوفة تقريباً لقطاعات واسعة من الجمهور، فهي تتماثل نسبياً مع مشاهد الضحايا الذين يتساقطون بالجملة في المساجد والأسواق والساحات في بلدان عربية وإسلامية مأزومة. تستثير هذه المشاهد حالة غائرة من الربط الوجداني بين أكوام البشر التي أجهز عليها اعتداء مسلح من جانب، وحصيلة ضحايا تساقطوا بفعل تدافع أو سقوط رافعة أثناء أداء المناسك من جانب آخر. يتفاعل هذا الإيحاء القاتم في الوعي الجمعي بتأثير مشاهد الفواجع المصوّرة، ومن شأنه تغذية الانطباع الزاهد بأرواح البشر الذين يتساقطون بالجملة على مرأى من الجميع، وهم مسلمون في الغالب. ما يتطلب الاحتراس واليقظة أن تغري هذه المشاهد أولئك الذين يحملون بين جنباتهم أحقادا وضغائن فيندفعون إلى إطلاق تعبيرات شامتة بالضحايا، فمن المألوف أن يذهب بعضهم إلى نزع الصفة الإنسانية عنهم أو دفعهم إلى خانات من التصنيفات المغايرة، لقد بلغ الأمر بسياسيين عنصريين في إيطاليا أن أطلقوا أوصافاً شائنة على ما جرى من هلاك جماعي في المشاعر المقدسة يوم العيد، ومنهم من جاسر بالقول إنّ الموقف يشبه "حديقة حيوانات"! الضحايا مادة للفرجة يتولى بعضهم في موقع الكارثة إشراك العالم في تقاليد الفرجة. كانوا في السابق يتحلّقون حول مسرح الواقعة المأساوية لتتابع أبصارهم بشغف ما يجري مع الإحجام عن التصرف. لكنّ المحظوظ منهم اليوم من تسعفه الذاكرة الكافية في هاتفه الذكي لالتقاط المشهد وتسجيل السبق الإعلامي ومباشرة فعل البث الذي سيتخطى القارات في برهة. تُذكي هذه الحالة استجابات سلبية، لأن الجمهور يتلقى الفواجع المصوّرة دون أن يرى لديه القدرة على التصرف نحو الضحايا. إنه في موقع الحدث افتراضياً وليس واقعياً؛ فلا يتأتى له مثلاً التدخل لإسعاف الضحايا أو التخفيف عن المكلومين. ستتفاقم الحسرة لدى بعضهم، ومنهم من سينخرط في هواية تمرير المقاطع وتناقلها حتى يبلغ بها الآفاق. إنه الجمهور ذاته الذي تراهن عليه تكتيكات "التوحش" التي تقترف الفظائع في حضرة الكاميرا وتبث المقاطع بعد إخضاعها لمونتاج بمعايير سينمائية. سينهمك بعضهم في استقبال المقاطع المرعبة وتمريرها مشفوعة بتعليقات شتى، وقد تحمل على الشبكة مع عبارات من قبيل "شاهد قبل الحذف!". احترفت "داعش" وأخواتها لعبة إلقاء كرة الثلج، لتتدحرج بتأثير تفاعلات الجماهير وليتعاظم تأثير مقاطعها التي تحمل إلى "المشاهدين" أفلام الرعب المتجددة عن حزّ الرؤوس وإحراق الأحياء أو إغراقهم في الأقفاص. تغوي مشاهد الهلاك الجماعي باختزال القيمة المعنوية للفرد، فتستسهل الجمهرة ما يقع لأحدهم إذ تهون مأساته إزاء هذه الوفرة من البشر الذين تكدسوا أكواماً بعضهم فوق بعض. وما يزيد من وطأة الاستهانة بالكرامة الإنسانية أن بواعثها تتحوّل إلى ممارسة منهجية، كأن تحرص تقنية "داعش" على اقتراف فعل النحر بحق البشر بصفة متماثلة مع الممارسة المألوفة مع النعاج. تتداخل بواعث التعاطف مع الضحايا مع محرِّضات الفرجة والتلصّص على ما يجري، ومن المألوف أن يلجأ الإنسان إلى مناورته النفسية الاعتيادية بتحاشي التماثل المعنوي مع الضحايا حتى يطمئن قلبه، فيعزل المأساة في نطاق بعيد عنه وجدانياً، فالضحايا "هم" أولئك الذين واجهوا قدرهم المحتوم، أما "نحن" فما زلنا في مأمن. إنها مناورة الطمأنة الذاتية التي تتفاعل مثلاً لدى قائد سيارة وهو يشاهد مركبة مماثلة وقد تدحرجت بمن فيها إلى جانب الطريق، فالمسلك الأقصر للطمأنة يأتي عبر ربط الواقعة بضحيتها المباشرة الذي "لاقى مصيره" أو "دفع ثمن استهتاره" أو نحو ذلك من التأويلات النفسية. وبهذا فإنّ أكوام البشر "الآخرين" الذين نشاهدهم في الميادين والأسواق ودور العبادة وقد انقطعت أنفاسهم بأثر اعتداء أو كارثة هم ليسوا "نحن" على أي حال! وما يفاقم من نزع التعاطف بالكامل إلى حدّ الاحتفاء أحياناً بما يجري هو وضع أولئك الضحايا ضمن تصنيفات مغايرة تماماً لفهمنا "نحن" لأنفسنا، باستشعار خصائص التبايُن المترتبة على المسلك أو الإثنية أو الدين أو الطائفة أو لون البشرة أو حتى النسَب العائلي. وكلما بدت الضحية قادمة من إقليم "نقيض" أو تصنيف "معادٍ" أو انتماء أبعد عن الوعي أو مصنّف ضمن بيئات الفقر والفاقة مثلاً اتسعت فجوة التماثل الشعوري مع مأساته، وهو ما يفسر إلى حد ما ضعف الإحساس الوجداني مع بعض الأزمات والكوارث التي تجتاح أقاليم أفريقية أحياناً، علاوة على أنماط التفاعلات الوجدانية مع مآسي القتل الجماعي المتبادل للأبرياء في الصراعات الطائفية. إنّ منطق المشهد الذي يلتفت إلى الكمّ ويتجاهل الفرد بوجهه وانفعالاته يتولى تحريض الجمهور على حجب التفاعل الوجداني الذي يستحقه ضحايا الفواجع. ألم تحرِّك صورة الطفل الغريق على الشاطئ ما لم تستفزّه مشاهد وفيرة عجّت بالذاهلين في قوارب الموت والغابات الموحشة وكان بينهم وفرة من الأطفال والصبية والأمهات؟! مفعول المقاطع المشوّشة تضطرب معايير الصنعة الإعلامية، لأن المَشاهد المشوّشة باتت تكتسب قيمة إخبارية أعلى أحياناً من نظيرتها الاحترافية. فالمقطع الذي تهتز به الكاميرا وتتمايل فيه زوايا الالتقاط يبقى الأقدر على انتزاع الأحقية بتمثيل الواقع والتعبير عن الحدث. لكنه لا يبقى محايداً أو منصفاً بالكامل؛ لأنّ وراءه شخصا هو الذي قرّر الأجزاء التي يجدر تصويرها دون غيرها. تحظى مقاطع الأنفاس الأخيرة وصرخات المفجوعين بأفضليات خاصة، مع ضعف الوازع الجماهيري في مقاومة هذا الاستشراء المصوّر. يقتحم الجمهور عالم البث ويباشر التأثير في صميم التفاعل الإعلامي، دون الحصول على إرشادات كافية أو التزوّد بالمعايير والضوابط اللازمة التي تستدعي مراجعة الفحوى قبل الالتقاط والبث والتناقل، خاصة مع وفرة المشاهد التي تنتهك الكرامة الإنسانية للضحايا، فكيف إن قضوا نحبهم أثناء المناسك؟ تفرض هذه التحولات صياغة مقاربات إرشادية مكثفة تعين على توعية الجمهور بأخلاقيات التقاط الصور والمشاهد وبثها وتمريرها. فها هي ثقافة تمرير مشاهد الضحايا والأشلاء تترسّخ رغم تأثيراتها الصادمة والعميقة على نفسيات الأفراد حتى وإن لم تكن ملحوظة. والأدهى من ذلك أنّ الصور والمقاطع باتت موضوعة في متناول الأطفال والناشئة بلا ضوابط، لتفعل فعلها في أعماقهم ونفسياتهم بما ينعكس على استجاباتهم وتصرفاتهم في الحاضر والمستقبل، وتؤثر على تقديرهم لقيمة الحياة الإنسانية ولكرامة مجتمعاتهم من حولهم. زمن الحج المصوّر المؤكد أنّ ما جرى في موسم الحج لسنة 1436ه /2015 م قضم من تأثيرات إعلامية وتواصلية تراكمت إيجابياً في مواسم الحج الماضية. فقد شهدت المواسم الأخيرة توسعاً في تمكين القنوات التلفزية التي تخاطب البلدان الإسلامية والعالم أجمع من مواكبة المناسك والاقتراب من الحجيج وإنجاز وثائقيات للشاشات بعدد من اللغات. كما جاءت الهواتف الذكية لتحقق معايشة غير مسبوقة مع تفاصيل الموسم وأداء المناسك خطوة خطوة، مع تمرير هذه المواد حول العالم عبر الإعلام الاجتماعي وتطبيقات الأجهزة المحمولة. تحققت عبر ذلك حالة معايشة إنسانية غير مسبوقة مع مواسم الحج، خاصة مع الاقتراب المباشر من وجوه الحجيج الذي عززته ظاهرة التقاط الصور الذاتية (حج سيلفي) التي انتشرت بدرجة هائلة في السنتين الماضيتين. لكنّ تقاليد التصوير والبث وتدوير الصور والمقاطع لا تعمل في اتجاه واحد، فهي تساهم أيضاً في تضخيم الأثر الوجداني لكوارث الموت الجماعي، وستترك بعد موسم الحج الحالي انعكاسات معنوية قد لا تكون مسبوقة على الجمهور بالمقارنة مع فواجع شهدتها مواسم سابقة. ومع الأحداث الأليمة يتدهور الصدى الإعلامي لموسم الحج من فضاء المعايشة الفسيح إلى زاوية التقاليد الإخبارية التي تبحث عن الاستثناء والتفاصيل المأساوية والتطورات الخارجة عن المألوف، فتتقدم هذه الأخيرة على المواكبة الإعلامية التي يستحقها مليونا حاج أثناء المناسك، في رحلة العمر التي لا تكون آمنة دوماً.