بطريقة خفية ومرتبكة شيئا ما، يطرح رئيس الحكومة من جديد إشكالية المقاصة، حيث يعتزم، دون تأكيد أو نفي ذلك، إلغاء الدعم على غاز البوتان الذي تمثل كلفته لميزانية الدولة 13 إلى 14 مليار درهم في السنة. لكنه يعلن بوضوح أن هذا الإلغاء سيحدث حالما يتم إيجاد آلية فعالة لمساعدة الشرائح المستهدفة. إنه اعتراف بليغ : فالقرار السياسي مرهون بقدرة موظفي الإدارة على اقتراح إجراء عملي مُرضٍ. يعلن جهاز التواصل الحكومي بهدوء أن الدراسات لا زالت جارية، وذلك على بعد أقل من سنتين على نهاية الولاية التشريعية، حيث يتم الترويج لهذه الخطوة للتواصلية المُمَوهة الموجهة للرأي العام من قبل بعض الوزراء ونواب الأغلبية. في الواقع، الفريق المسير يسعى لاختبار رد فعل المواطنين، وأحزاب المعارضة والنقابات العمالية. ما الذي يجب استخلاصه من كل هذا ؟ ثلاث أجوبة تفرض نفسها. أولا، يجب ألا نتبرَّم من اكتمال إصلاح نظام المقاصة، فروح المسؤولية تستوجب على كل سياسي، من الأغلبية كان أممن المعارضة، أن يساند مثل هذه المبادرة الهادفة لعقلنة المالية العمومية. لكن من المفترض أن يساهم كل المواطنين في هذا المجهود الوطني، لا أكثر ولا أقل. فمبدأ التقاسم العادل للتكاليف العمومية ذو طبيعة دستورية (المادة 39 و40 من الدستور). إذ أن قرار الموازنة التدريجية لأسعار المنتجات البترولية لم يُواكَب بتدابير تعويضية بالنسبة للمواطنين ذوي الدخل المحدود. هذا خطأ سياسي للحكومة أو على الأقل، تهور كبير من طرفها. حمدا لله على بلدنا، إذ ترافق دخول الموازنة حيز التنفيذ في شتنبر 2013، بضعة أشهر بعد ذلك (ابتدءا من يونيو 2014)، بانخفاض متواصل لسعر البترول في الأسواق العالمية، بحيث لم يحصل التأثير المفزع على القدرة الشرائية للأسر وعلى معدل التضخم. لكن الألطاف الإلهية لن تستمر إلى الأبد. فمن الطبيعي أن نشعر اليوم بالقلق بشأن انعكاس محتمل للاتجاه في حالة تسارع النمو الاقتصادي العالمي، مما سيؤدي إلى عودة أسعار النفط إلى 100 دولار للبرميل. وفي حالة تواصل ارتفاع سعر الدولار تحت تأثير التيسير الكمي (Quantitative Easing) الذي يَتَّبعه البنك المركزي الأوروبي، هل ستطبق الحكومة - بشكل كامل - الزيادة في أسعار النفط إذا تجاوز ذلك طاقة المواطنين وشركات النقل العمومي، أم ستتخلى عن جزء من مداخيلها الضريبية (الضرائب الداخلية على الاستهلاك والضريبة على القيمة المضافة) لتَحُد من هذا التأثير؟ ماذا ستكون انعكاسات ذلك على عجز الميزانية والمديونية العمومية ؟ كان من المفترض أن نتوفر على هاته الأجوبة لو عرف القانون التنظيمي لقانون المالية، الذي صوَّت عليه البرلمان بعد الكثير من الصعوبات، بداية التطبيق . ثانيا، إن حذف صندوق المقاصة أمر حتمي على المدى البعيد، لأن استمراره لا يخدم مصالح أولائك الذين يفترض أنه يحميهم. فدول أخرى كالبرازيل، أندونيسيا، الهند أو إيران أدركت قبلنا بكثير الأثر العكسي للدعم الشامل، معوضة إياه بأنظمة تحويلات مالية دقيقة الهدف، دعم مباشر للدخل أو توزيع القسيمات. فالطبقات الاجتماعية الأكثر ثراء هي المستفيدة أكثر من الدعم، نظرا لارتفاع مستوى دخلها واستهلاكها. بعض المقاولات، خاصة في مجال الزراعة، تستعمل بإسراف غاز البوتان كمصدر للطاقة لأدواتها الإنتاجية. إن دعم الطاقة يخلق اختلالات ضارة بالاقتصاد من خلال تشجيع أنشطة ذات قوة رأسمالية كثيفة، جد مستهلكة للطاقة في الغالب، على حساب تلك التي تعتمد بكثرة على اليد العاملة. ثالثا، لا ينبغي أن تصبح قضية حذف دعم صندوق المقاصة فخا يحوِّل انتباه المواطنين عن مواضيع أكثر أهمية بالنسبة لحياتهم اليومية، رفاهيتهم ومستقبل أبنائهم. فحجم المبالغ المالية لصندوق المقاصة قد تقلَّص الآن إلى 25 مليار درهم سنويا، منها 6 إلى 7 مليار درهم للمواد الغذائية. إن الرهانات الكبرى للاقتصاد المغربي تتواجد في أماكن أخرى! توجد أولا، في إصلاح الدولة والإدارات العمومية التي تستهلك 195 مليار درهم من نفقات التسيير، منها أزيد من 105 مليار درهم (12% من الناتج الداخلي الخام) برسم الأجور، على الرغم من ضعف مستوى الكفاءة والأمانة كما يعلم الجميع. ثم في الإصلاح الجبائي الذي سيمكن من تحسين مردود الضريبة : ضغط ضريبي بنسبة 35% إلى 40% من الناتج الداخلي الخام مقابل 21% حاليا، وهو ما يشكل مصدرا هائلا لموارد ضريبية إضافية تصل ما بين 125 و 170 مليار درهم سنويا. وأخيرا وليس آخرا، في قطاع المؤسسات والمقاولات العمومية المعروف بسوء التدبير والذي وصلت كلفته المالية المستخلصة من المنح الصافية من الأرباح الموزعة المخصصة من قبل الدولة، وصلت مبلغا خياليا هو 100 مليار درهم خلال عقد واحد. على بعد عامين من انتهاء ولاية الحكومة الحالية، لا زالت القضايا المعقدة لتدبير المالية العمومية لم تعالج بعد. فهل سيكون الرأي العام قادرا على إدراك هذا الأمر عندما يحين الوقت ؟