تتنامى هنا وهناك دعوات تتحول في أحايين كثيرة إلى ضجيج غير منظم، وصراخ داع إلى توحيد الأمة وخلق مشاكلة بين أطيافها ومجانسة بين أوزاعها. ولا شك أنها دعوات في دائرة إحسان الظن في غير تكلف فراسة وتمحيص كانت ولا تزال تروم تحقيق هدف كبير ومقصد عظيم، وذلك بالنظر إلى ما ينتظر الأمة من مواجهة تضعها في حساب حتمي عنوانه «نكون أو لا نكون» تلك هي مواجهة العدو الخارجي الذي مهما اختلفت لغاته وأدبيات عيشه ونمط تفكيره وحدود أمصاره فإن كل هذا ينصهر في حوجلة مصلحة مواجهة الإسلام والمسلمين، بل وتتحد النظرة والنظر في اعتبار الإسلام الخطر الأخضر الذي بات يتهدد أمن واقتصاد وقوانين الكيان الغربي بل الإنساني على وجه هذه الأرض وفي هذه الحياة الدنيا وما أضخمها من تهمة. ولا شك أن أي لهت وراء هدف توحيد صف الأمة في مواجهة الآخر لا يراعي الاختلاف الكائن في أمور العقيدة وأصول الدين هو مجهود يدخلنا في مخصوص منطوق قول الله تعالى «تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى»، وهو توحيد هب أنه تحصل ووقع مع تسليمنا استشرافا باستحالة تحصله ووقوعه لن يؤتي الثمرة المرجوة منه؛ ولن يحقق المقاصد التي أثثت أركان العقد التأسيسي لميثاقه الغليظ. وكيف لمجهود ودعوات تجاهلت وأسقطت من أدبياتها واجب تصحيح المعتقد والانتصار للمنهج النبوي القائم على الاستقامة على وفق الأمر، الذي كان وسيبقى أكبر معين على تحقيق منقبة التوحد وخصيصة الاتفاق والارتفاق الذي يحول الأطراف والأطياف في سياق ضرب المثال النبوي إلى جسد واحد إذا اشتكى منه العراق تداعى له المغرب بالحمى والسهر وهكذا. ولا شك أن هذا المقام النفيس والمنزلة العليا لن تتحقق بتزييف الحقائق والتدليس بالفرقة في ثوب الوحدة ومداهنة الصادين عن الحق الواحد الذي لا يتعدد، ومن ثم وضع المخالف في مكانة ليست له والتماهي مع طرحه الحائف وركزه الزائف دون واجب مناقشته بالحكمة والموعظة الحسنة وجداله بالتي هي أحسن؛ طمعا في ترك إقعاده وإخلاده إلى العقل زعم دون النقل وكذا مطارحته بالحق في غير تبديل أو تورية أو مداهنة بإحساس ملؤه الوهن؛ وكأن الإسلام أصابه إفلاس عددي! مع أن العدل يذهب في صوب اعتبار الفرد الذي اصطف إلى جانب الإخلاص والصواب ولزم حياضهما أمة قائمة بنفسها يجري الله على يدها من البركات والفتوحات ما تنوء بفعله العصبة من أولي القوة في العدة والعدد. وقد يقول قائل إن الحق تشابه علينا وحال بيننا وبين حقيقته المتاح المعروض من الملل والنحل ودعوى كل طيف وصنف بالانتساب إلى أهل السنة والجماعة والاستئثار بحمل تأشيرة ركوب سفينة النجاة. والجواب أن النبي لم يترك الأمر فضفاض ولم يدعه لمحض الاجتهاد وإعمال الرأي والنظر وإنما أعطى عليه الصلاة والسلام الضابط وحجر به واسع الاشتباه ونص على هذا وهو يحدث الأمة بحديث الافتراق بقوله إجابة على من سأل من الصحابة عن ماهية النجاة وطوق الخلاص «هم الذين يكونون على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي». ولربما لو كان الاختلاف في الفروع والافتراق في السنن لساغ العذر وبلغ نصاب القبول لدى الرافضين لمشروع الوحدة في غير تجانس، ولكن الاختلاف جاء في التوحيد والصفات والأصول التي تواطأ على إقرارها لسان السلف الصالح والتي لا يمكن لنبي أن يطلع عليها إلا من جهة الوحي من الله سبحانه، ولا يمكن أن تقوم بها الحجة إلا بما يحصل به العلم وهو البيان والتبليغ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل الواحد من أصحابه ليبلغ عنه فتقوم الحجة بهذا الإرسال على المصر الكبير من الأمصار كاليمن مثلا. ولأهمية التبليغ عن الله ورسوله تناول القرآن الكريم قضية الأمانة فوصف جبريل بالأمانة باعتباره المبلغ عن الله لرسوله فقال سبحانه: «نزل به الروح الأمين»، ولازم النبي عليه الصلاة والسلام وصف الأمانة قبل البعثة وبعدها كما هو الشأن بالنسبة لكل الأنبياء والمرسلين بضابط أن الله يعلم أين يضع رسالاته، فهذا نبي الله هود يخبر قومه في مقام التبليغ والإرسال كما جاء في الذكر الحكيم: «أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين». وعندما انتقلت مهمة التبليغ إلى الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان نجد أن هذه الأمة انفردت دون غيرها بعلم الرجال ومن ثم تعضدت صفة الأمانة بلازمها من صفتي الثقة والعدالة فتحصل النقل بالتواتر المحمود وقامت الحجة في تعاقب و ترادف في كل عصر وعلى كل مصر. وهنا وجب التنبيه على أن مصدر المعلومة بقي عند علماء الحديث هو التعلم عبر آلية الطلب والتعليم، ومدار هذين على الأمانة والثقة والعدالة ولا شك أن هذا على عكس ما نجده في منهج المتكلمين وعلى رأسهم الأشاعرة، منهج يقوم على أساس النظر والمناظرة والجدال البزنطي العقيم الذي تجد في الشريعة ما يرد غوائله من مثل النهي عن رفع الصوت فوق صوت النبي عليه الصلاة والسلام والنهي عن الاسترسال مع الأسئلة وترك الخصومات والمراء في القرآن والسنة مصداقا لقوله تعالى: «ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا»، وقول السلف الصالح كمالك وأحمد: «أو كلما جاء رجل أجدل من آخر رد ما أنزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم». وهنا نرجع لنستحضر تلك الدعاوي والضجيج والصراخ الداعي إلى الوحدة في غير مشاكلة ولا تجانس، وذلك للتنصيص على أنه من المستحيل والعسير خلق وحدة داخل «مشترك» مسمى أهل السنة والجماعة بين أهل الحديث والأشاعرة مثلا، ذلك أن التنافر الشديد من جهة اختلاف مطالع الفكر ورؤية المعرفة في الأصول يحول لا محالة دون وقوع أي مهادنة وتوحد ومجانسة بين منهج أصيل وآخر مستنبت، اللهم إن كان هذا في ثوب مصانعة ومداهنة فلا اعتبار لهذا من جهة الشرع وما تعارفت عليه الفطر السوية. وربما وجدنا المسوغ والتبرير لهذا التسليم بالاستفسار استشرافا لما يمكن أن نجنيه إذا نحن استبدلنا الذي هو أدنى بالذي هو خير فأعرضنا عن منهج أهل الحديث وارتمينا في أحضان منهج الكلام وأصحابه، فنكون قد انتقلنا من حال الاجتماع إلى حال التشتت؛ ومن حالة النظام والانتظام إلى أحوال الفوضى والاضطراب؛ ومن طيب الأنس بالنقل إلى ضنك وحشة استعباد الرأي والعقل. وهي على أيٍّ أمورٌ بَلا خبرَها من تنحني لهم هاماتنا توقيرا وتأدبا وشكرا لهم على ما أبلوه من بلاء حسن فلا نحيد عن كلامهم وهم ورثة الأنبياء والمرسلين إلى كلام ورثة الفلاسفة والزنادقة والمشركين، ومن كلام بعضهم في هذا المقام وهو الإمام بن قتيبة رحمه الله إذ قال في كتابه تأويل مختلف الحديث: «وقد تدبرت مقالة أهل الكلام فوجدتهم يقولون على الله ما لا يعلمون، ويفتنون الناس بما يأتون، ويبصرون القذى في أعين الناس وعيونهم تطرف على الأجذاع، ويتهمون غيرهم في النقل ولا يتهمون آرائهم في التأويل ومعاني الكتاب والحديث وما أودعاه من لطائف الحكمة وغرائب اللغة مما لا يدرك بالطفرة والتولد والعرض والجوهر والكيفية والكمية والأينية». وفي مقابل هذا يقول الإمام الأصبهاني في كتابه الحجة في بيان المحجة معرفا بأهل السنة والجماعة أهل الحديث: «مما يدل على أن أهل الحديث أهل السنة والجماعة هم أهل الحق أنك لو طالعت جميع كتبهم المصنفة من أولهم إلى آخرهم قديمهم وحديثهم مع اختلاف بلدانهم وزمانهم وتباعد ما بينهم في الديار وسكون كل واحد منهم قطرا من الأقطار وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرة وحيدة ونمط واحد؛ يجرون على طريقة لا يحيدون عنها ولا يميلون فيها، قولهم في ذلك واحد، ونقلهم واحد، لا ترى فيهم اختلافا ولا تفرقا في شيء وإن قل… كأنه جاء عن قلب واحد وجرى على لسان واحد وهل على الحق دليل أبين من هذا؟؟؟». وهل من معين بعد الله تعالى على الوحدة والتآلف وعودة التمكين أبين ولا أوضح ولا أجدى وأنفع من الانتساب إلى أهل الحديث وطريقتهم في العلم والعمل والتعلم والتعليم والقدوة الحسنة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.