الدستور ينص على حرية المعتقد.... أو على الأقل يضمن حرية ممارسة العقائد... معنى ذلك أنه لا يمكن منع مواطن مسلم من الصلاة مثلا ولا من الصيام، ولا يعني إجبار من لا يريد الصلاة، سواء كان مسلما أو غير مسلم، من أداءها، وطبعا لا يمكن إجبار المواطن، المسلم أو غيره، على الصيام،... طبعا، سيردون عليك، أنه ما من أحد يجبر الآخر على الصوم، لكن من عليه الإفطار فليفعل ذلك مستترا، مختبئاً في بيته... مع أن الأصل في الأشياء هو الحرية والإباحة، وممارسة عادات الحياة في صورتها المألوفة، فالمفروض أن الذي يتناول وجبة غذاءه خارج منزله أن توفر له الظروف في رمضان ليستمر في ذلك بشكل عادي، والذي يدخن سجارته في السيارة، عليه أن يكون مطمئناً وهو يفعل ذلك كما ألف فعله من قبل.... عند حلول شهر رمضان، يثارالنقاش حول العلنية من عدمها في الإفطار، لا يثار حول حق الإفطار من عدمه، لأن ذلك محسوم لصالح الحرية الفردية، بمعنى أن منطق الجدال مع أو ضد هؤلاء الذين يحللون ويحرمون يصطدم بقوة الاعتقاد في الحرية الفردية المتأصلة في الانسان، فيسحبون النقاش إلى مضمار العلنية: ليس لك حق الافطار في الفضاء العام لأنه مملوك بقوة غير مفهومة للذين يصومون في شهر رمضان.... ملكيتهم لهذا الفضاء لا تستند إلا إلى منطق القوة البدائي، فهم أغلبية والآخرون أقلية.... والحكم هنا للأغلبية.... يتذرعون باحتمال زعزعة عقيدتهم، باستفزاز مشاعرهم، وهي ذات المشاعر والعقائد التي لا تستفزها مظاهر البؤس العامة في هذا الفضاء الذي يتبجحون بتملكه، ولا تستفزها ممارسات الاستبداد والقهر والظلم الذي يعيشونه... هم ليسوا على حق، ويعرفون ذلك بشكل صريح وواضح... إذ لا يمكن للتاريخ أن يعود إلى الوراء، فمظاهر تحديثه، رغم كل العوائق المحافظة، بادية للعيان.... سلوك المحافظة الظاهر، وهذا النكوص الفكري الذي يتجلى في ما يطغى من حوارات في الفضاء العام، ورغم حدته التي تشبه في الكثير من الاحيان حشرجة الموت، تبطن خطا تصاعديا للحداثة مقترن بقوة الدفع الذي تمنحها له العلوم والاختراعات التكنولوجية الكبيرة، وهذه الثورة العارمة لتقنيات التواصل والميديا... كل هذا جعل النقاش حول هذه العلنية ينتصر سنة بعد سنة لفائدة حرية ممارسة الحياة بشكل عام، والعقائد بشكل خاص... كان لا بد لمظاهر المحافظة هذه أن تجد لها سندا في قطبين أساسيين في المجتمع.... في الدولة أولا، وهو ما تجلى في هذه المقاومة العنيدة ضد مطالب إلغاء الفصل 222 من القانون الجنائي، وتجلى أيضاً في إشاعة خلق فرق المطاوعة في إدارة الشرطة بالمغرب، والتي أوكل لها مهمة تعقب المفطرين، إشاعة كذبتها الإدارة العامة للأمن الوطني، لأنها لا تستقيم لا قانونيا ولا دستوريا، فمنطق هذين الأخيرين، القانون والدستور، يفيد ضرورة إنشاء فرقة أمنية لحماية المواطنين الذين يمارسون حياتهم بشكل طبيعي في الفضاء العام، ومنها ما يتعلق بأكلهم وشربهم وتدخينهم، ضد عنف أغلبية تحتاج إلى تمرين ثقافي واجتماعي لقبول الآخر المختلف معها وعنها... وهي رغم كونها إشاعة، إلا أنه لا يستبعد أن يكون وراءها جهات رسمية، ترى في وأد هذا النقاش عبر الضرب بيد من حديد وتخويف المواطنين طريقا لتجنب صداع الرأس، والابتعاد عن سجال سيكون محكوما عليها الحسم فيه بما ينص عليه الدستور، وهو أمر سيحرجها، ظرفياً، أمام حلفاءها من المتأسلمين الذين لا زالوا يؤدون أدوارهم الاطفائية بنجاح.... القطب الثاني هو قطب المثقفين، الذي فضل الاستقالة من النقاش العمومي بشكل عام، ونقاش الحريات الفردية بشكل خاص، فاستكانوا إلى الصمت، وفي بعض الأحيان إلى تبريرات لا علمية وتفتقد إلى المنطق السليم، وذلك بالتنظير لمشاعر الأغلبية، واحترام التقاليد وما إلى ذلك من تبريرات واهية لا تزيدهم سوى بؤسا وعزلة عن هذا المجتمع الذي يتبجحون بكونهم روحه ووعيه الجمعي.... هذا مع تسجيل ضربهم لطقس الصوم عرض الحائط، وممارسة حياتهم بشكل عادي، خارج الطقوس الدينية، لكن بخضوع للقمع اليومي المتجلي في عدم استفادتهم من ممارسة حياتهم في الفضاء العمومي.... لعل الوقت كفيل بتراكم شجاعة مجتمعية قادرة على فرض ممارسة حياتية دستورية وعادية في هذا البلد....