البوهالي على يقين أن أوَّلَ وزيرٍ أولْ في حكومة التناوب التوافقي، السيد "عبد الإله اليوسفي" قد سُرَّ أيما سرور يوم إزاحته غداة تشريعيات 2002 رغم فوز حزبه بنسبة تؤهله للعبور بنا إلى مستقبل مشروط، وسواء أبدى سرورَه لمن حوله أم طواه عنهم رفقا بهم أم غمز به خاصة خاصته. كم راج حينها أن أوَّلَ وزيرٍ أولْ في حكومة التناوب التوافقي يضع المشروع المجتمعي الحداثي المَهْدَوي المنتظر على السكة. لكنه منذ توليه حقيبة الحقائب الحكومية في ملتقى الألفية الثانية والألفية الثالثة لم يفتأ المسكين يشكو من ألفية رابعة من جيوب مقاومةٍ تحُول دون ممارستِه صلاحياتِه كما ينبغي للحظة مغربية قوية فارقة كما تخيل اليسار، وكما تخيل أيضا أنه هو من يضع لبناتها، فإذا اللبنات بيض في سلة واحدة. خلاصة: لا تضع لبناتك في جدار واحد. جيوب المقاومة؟ أم جراباتها الداكنة وقبعاتها السحرية السوداء التي تخرج تارة ذئبا أو عنزة أو قرنبيطا ولغزا: أيهم يعبر النهر على قارب أوَّلِ وزير أولْ دون أن يفترس أحدُهم الآخر في الضفة الغربية. الضفة الغربية؟ يبدو أن البوهالي اختلط مزاجه باختلاط مظالم أمته وتناسُلِها وعُقمها عن كل حل. كان يقصد الضفة المغربية. خلاصة أخرى: العمل السياسي في المغرب من فصيلة الجرابيات أو الجيبيات. ودستور الدولة العميقة ينص أنه ليس منا من شَقَّ الجيوب. رغم الحراك والثورات. الدولة العميقة إذن كنغر يحضن جيبه مخلوقات لم يكتمل نمو جشعها ولا يكتمل أبدا. ونسبة النمو المرتقبة سبع نقاط في آخر ولاية الحكومة. نقطة في كل أذن على حدة وكل عين على حدة وكل مِنخر. والسابعة في الفم كما تقول الوصفة الانتخابية. لكن الجيوب في كل مكان. العمل السياسي بذلة قناص كذلك قد وضع احتمال كل شيء فكثَّر جيوبه وملأها. المقاومة؟ البوهالي يظن أن السيد "عبد الإله اليوسفي" كان مهذبا ومستعجلا الرحيل حين سماها كذلك لأنه لم يدرك زمن الربيع العربي الذي أثل مفهوم الدولة العميقة في مقابل الدولة الضَّحْلة التي نراها في الحكومة والبرلمان. الحاجة أمُّ الاختراع والتأثيل. وهل يكفي أن نقيم عقيقة عن ظاهرة؟ لكنهم أزاحوا أول وزير أول وأيَّ فتى أزاحوا، لكنه فرح أيما فرح. في صمت. كل ولايته كان في صمت العارف إلا قليلا من كلام وزيارات للصين وأمريكا اللاتينية البوليفارية. ما الذي أصمت السيد اليوسفي منذئذ فصار كأن لم يكن؟ وما الذي أنطق السياسي المحنك حين قال "لقد خدِعنا" ثم صار بعدها وزيرا للعلاقات مع البرلمان. مجلس الضمير. من عرف الله كلّ لسانه. وكذلك من عرف الناس. من عرف الله أصْمَتَه الجلال. ومن عرف الناس أصمته اليأس من أي خير يأتي منهم إلا أن يشاء الله. والسيد "عبد الرحمن بن كيران"؟ إنه لم يصمت صمتا يجدي، لا ولم يتكلم كلاما يشفي. لحد الآن. السيد اليوسفي اكتفى بالتحدث عن جيوب، وهي فراغات، ماهيتها في آخر المطاف ظل أو ظلام أو هلام في تجويفات الثياب أو في بطن كنغر، لذلك ربما استحالت الرؤية لتعدد المطالع. لم يستطع المسكين أن يصف شيئا مما رأى. رأى أشياء تتحرك بسرعة تستحيل معها الرؤية على أولِ وزير أولٍ شائخ ذي بصر حسير. الحاصول، وهو من أوزان الآلة، كانت تلك الجيوب تشتغل بمفعول الثقوب السوداء في السماء. تجذب كل شيء وتبتلع القرارت والمجرات إلى غير قرار، دون أن يعلم كنهها أحد. في كوكب الأرض. أما السيد "عبد الرحمن بن كيران" فقد رأى شيئا على الأقل. تقدم ملموس. صف لنا يا أخي! رأى فيما يرى الرائي اليقظ عفاريتَ ورأى تماسيح. ربما لم ير حتى ذواتها بل فقط ظل مرورها بسرعة بإزاء نقطة العمى البصري. أم أنه رأى فعلا وهاله العدد والنوع. السؤال المطروح الآن هو هل سننتظر رئيس حكومة جديد كي يتقدم في التمييز والوصف خطوة. الأول يرى جيوبا، وآخر يرى عفاريت وتماسيح، والذي يليه يرى لنا تنين ثم رابع يرى لنا عنقاء وخامس يرى فنيق وهكذا تتوالى الرموز والدوال دون دلالة واضحة؟ عشر سنوات بعد انزياح السيد اليوسفي فيزيقيا واعتكافه كما يعتكف اليائسون من أمر الناس، هاهو السيد بن كيران يزاح ميتافيزيقيا مع استمرار ظهوره الفيزيقي وكلامه. وهل كان أصلا؟ هل كان ظاهرا أم ظاهرة؟ المهم لنقل إنها إزاحة معنوية... وانزياح معنى. وإلا كيف تفسر لنا يا بوهالي مد اليد لعدو حميم لدود محبوب خصيم مقبول مزوار. مزوار بالأمازيغية تعني الأول. ربما كان السيد مزوار من حيثية اسمه أولى بإوالية الحكومة لذلك صار عدوا حميما. على أيٍّ يُحسَب له أنه لم يجيش جبهة إنقاذ ولا بلاك بلوك ولا تمرد رغم ماضيه اليساري العتيد. "لا ننكر أن السيد مزوار فيه نجدة ولا يسأل من استصرخ به فيما استصرخه وعلى ما!" ابتسامات مغربية عريضة وعناق وتباوُسٌ في الخدود وعفا الله عما تقدم وتأخر وسلف وخلف في السياسة كما عفا عما تقدم وتأخر وسلف وخلف في الاقتصاد والمال. العداوة ثابتة والصواب يكون من أجل المصلحة العليا للوطن العميق. ومصلحة الوطن الضحل؟ ترى لو أزيح السيد "عبد الرحمن بن كيران" هل سيُسَر في خويصة نفسه كما سُرَّ السيد "عبد الإله اليوسفي"؟ أم سيمضي في صراخ المُطَلَّق. خشية الطلاق ربما سارع إلى مزوار وإن في ذلك لسرا مغربيا عتيقا. إنه طقس من طقوس الزواج المغربي يسمى "حنة المزوارات"! خلطة حناء تهيئها للعروس نخبة من النساء يُلقبْنَ مزوارات. إنهن قيدومات نساء العائلة اللائي تزوجن زيجة واحدة ناجحة مستمرة مع نفس الرجل لمدة قد تصل ستين سنة أو أكثر من العشرة المسترسلة كزواج كَنسي. وتلك الحناء بما هي من تركيبهن وتبْريكِهِن أيضا فيُعتقد أنهن يشْحَنَّها بطاقةً من طاقات استقرار بيوتهن الزوجية ويمَرِّرْنها إلى العروس الجديدة كيما يدومَ عشها حتى يفضه الموت. وكل آت قريب. والبعيد ما ليس بآت. وهل تغني الحناء إذا كان الزواج زواج عرفيا أو زواج متعة. لنحاول... لكن ريثما يُكتب العقد ويفض، تذكر البوهالي السيد بن كيران القديم يوم كان خطيب جمعة "بْلا ورقة" في مسجد الحي الجامعي السويسي. "ليتنا مكثنا كذلك قبل أن تقسو قلوبنا*". كان خطيبا مفوها يُذكر بالله واليوم الآخر حتى ترك المنبر وكسر عصا الخطابة يوما وحاول أن يمسك الصولجان. هل سيعود؟ نعذر السيد اليوسفي إن لم يجد شيئا بعد تقاعده يستحق الخطابة. الدعوة الاشتراكية بادَتْ ولم تعد في حاجة لخطباء. أما الجُمُعات تلو الجمعاتِ فماضية إلى يوم يبعثون... فهل نرى السيد بن كيران يعود يوما للمِنبر يعلم الناس دينهم وقد صام عن الحديث فيه طيلة عمله السياسي العلني إلا آية واحدة ذكرها بالفم الملآن في بداية ولايته "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"؟ هل يناوله من جديد عصا الخطابة وزيرُ أوقافه الكاتب المؤرخ المفكر الأديب اللبيب صِنو لسان الدين بن الخطيب وقد نظم الحقل الديني ولم يستثن حتى ترتيبَ المِبخرات ولا نوعَ البَخور؟ قد يصادف السيد بن كيران السيد التوفيق يومها وقد استبدَّت بهما نفس الرغبة الملحة في الانزياح والعودة إلى الذات وهيهات. هذا يريد أن يعود لمنبره وذاك يريد أن يعود لقلمه ولوحه في ظل "شجيرة حناء وقمرْ"** لو أن كلاهما استقبلَ من أمره ما استدبرْ! * قولة سيدنا أبي بكر حين دخل المسجد فوجد رجلا يبكي في صلاته. ** رواية لأحمد التوفيق تتحدث عن قائد اسمه همو ذي طموح سيادي قضى عليه.