ناقوس خطر يرن في مختبرات علوم الإدراك وقياس الذكاء أيامنا هذه، وقد رصدت الاختبارات بشكل مطرد وعبر دراسة عينات الأذكياء والألمعيين في العالم أن معدل الذكاء (آي-كيو) في توقف وربما هو على أهبة التنازل حسب قانون من ليس في زيادة فهو إلى نقصان. إن ما اصطلح عليه ب"مفعول فلاين*" المشهور في قياس الذكاء المطرد منذ الثمانينات، هو الان في مَضِيق. لنفترض أن الإحصاء ينسحب على جميع جغرافيا الذكاء، ولو أنه أجري خصيصا على الدول الأكثر تقدما ورفاها ماديا (الدنمارك والسكنديناف) فهل تكون النتيجة ثقبا أصاب المادة الرمادية لكوكب الأرض كما أصاب أوزونها. أو بلغة المعلوميات، أصاب البرمجيات (الصوفت-وير) بعد ما أصاب الأجهزة (الهارد-وير). ماذا لو توالت الثقوب حتى انهار السد. الأسباب التي تسوقها الدراسات ترجع بالأساس إلى الوسائط التكنولوجية التي عمَّت بها البلوى فلا تفتأ تكرِّس خمول الإنسان واعتماده على الآلة حتى في تذكر أشياء كان يستغني بعقله كي يعقلها، منعشا كل حين ذاكرته. تواكل العقلانية. هذا إن فرضنا أن الوسائط تستعمل فقط للجد فما بالك إن صح إحصاء يقرر أن استعمالها مصبوب في المقام الأول على الإبحار في المواقع الإباحية تليها مواقع الألعاب تليها في المقام الآخِر الأخير البحث عن المعلومة. لكن الجواب يأتى دائما من جنس الإشكال لأنه لم يطرح أصلا بشكل صحيح. جواب علموي محض لإشكال علموي محض. عمى العقلانية. علموي من حيث أن مراصد الذكاء الدولية تعتمد عادة قياس الذكاء من زاوية واحدة. رياضية صورية بحتة هي وحدها في نظرها الكفيلة بفتح آفاق الفهم في كل شيء. كأن الذكاء ما يخرج من كنفها ويبقى في كنفها فقط. تماما كمنافسات ملكات جمال "الكون". وكم من جميلة في أعالي جبال الريف أو في شاهق الأنديز لا يلقي لها أحد بالا لو غسلت عن وجهها عرق وتراب الكد والشظف لتبدى منها ما يرجح بكفة جميع المتوجات تبعا لمقاييس لا تفهم. استعلاء العقلانية. حتى في مقاييس الجمال. وكم من ذكاء مرَكَّب لم يلغ الفطرة الإنسانية لو غُسِل عنه تراب الغمط والاستعلاء الغربي لكان قاد الإنسانية إلى بر أمانها. فهل في بشرية اليوم استعداد للإنصات للحكماء وقد ملأت قولانيتها، وهي رديف عقلانيتها، الأسماع. قولانية إعلامها الذي حجب العلم والمعرفة بل كان وبالا على المعرفة الرصينة** إلا النزر اليسير الذي يخدم أهدافا محددة طفت على السطح أم خفيت تحت البرامج المغرضة. أسباب أخرى سيقت لتفسير الظاهرة. من قبيل أن العقل البشري وصل أعلى غاياته، والعلو يطلب الانحدار طبق جدلية الأشياء. ولكن ماذا كانت مقومات هذا العلو. المعيار مادي. فالعقل الحاضر تربع على عرش دماغ تحققت له أحسن وأنجع تغذية منذ صار الانسان مفكرا (هومو سابيينس) وذلك حسب تطور علم التغذية وطبقا للمعادة: أنجع تغذية للدماغ = أنجع عقل = لا مستوى أعلى في نجاعة التغذية = توقف الذكاء. نهاية تاريخ الذكاء الانساني؟ ربما لو سحبنا نظرية فوكوياما الاختزالية رغم منطقها الداخلي الفريد في السياسة على علوم الادراك. لعل السبب أعمق من ذلك بكثير. لعله يكمن في فقد العقل البشري لعلم الغاية وانشغاله بعلم الوسيلة. بل بالوسائل والوسائط. ودون اكتراث بنفع تلك الوسائل حتى لو فرضنا حسن نية استعمالها. ناداني يوما في اندهاش مني شخص علماني عقلاني حتى النخاع كي نلتقي ونتبادل الحديث كما درجنا منذ زمن غير يسير. كان مكسورا محبطا مقهورا. السبب ليس تعثر الانتقال الديمقراطي، وتوقف المسلسل الديمقراطي وتراجع التداول الديمقراطي ومفردات اللسان الخشبي. كان سبب إحباطه أن ابن أخ له كان يود لو كان ولده، من حبه له وإعجابه بذكائه الرياضي وألمعيته التي فتحت له باب جامعات أوربا، بمجرد ما عاد إلى المغرب اشتغل في شركة كبيرة بمبلغ كبير لم يقتنع به فقرر أن يصير "قمارا محترفا" وضع ذكاءه الرياضي في خدمة أحد الكازينوهات، يسترد لها بالشمال ما أخِذ منها باليمين. صار يجني في الليلة الواحدة من أصحاب رؤوس الأموال الذين شغلوه بأجر لم يقنعه أضعاف أضعاف أجره. هم، هم كانت تجمعه بهم المائدة الخضراء. قلت للأستاذ العلماني الليبرالي لو كنت عقلانيا علمانيا بالمعنى الغربي لقبلت ابن أخيك كما هو، لكن تربية تلقيتها في الصغر من أبيك الحاج وكم اشتكيت منها ونددت بقسوتها المزعومة ورجعيتها قد رسخت فيك وأنت لا تدري، قيما رافقتك بموازاة علمانيتك التي ظننتها سبب تميزك، حتى إذا رأيت ما تنادي به قولا من عقلانية محضة معقمة مبسترة من كل "دين" ماثلة في ابن أخيك أفقت ورفضت وتزلزلت. ورب حرية انقلبت عبودية، ورب علم ثمرته الجهل... ولعل التراجع في نسبة الذكاء حسب معايير علوم الإدراك إيذان باستنفاذ العقل المجرد وهو المرتبة الدنيا على سلم قانون مراتب العقلانية***. عقل مجرد من القيم ومن الدين ومن الأخلاق وقد انقلبت محصلته العلمية إلى جهل. جهل بالخالق يستتبع جهلا على المخلوق وأنين في دياره تحت وطأته الآلية العمياء الصماء التي فككت الإنسان. فهل تكفي صرخات بعض المفكرين هناك لجمع شتات العلوم ودرأ اختزالها للإنسان. بنفس الطريق العقلانية المجردة المنقحة. رجاء. ربما تؤتي المحاولات أكلها في لقاء غير منتظر بين جميع عقلانيات العالم المهضومة المجحَفَة، على نفس بساط الإنصاف في التعبير عن نفسها بالبرهان وليس بالسلطان. ولعلها تكتشف ما يقدمه لها الدين من تبريز لعقل مسدد. سدده الدخول في العمل، على اعتبار أن نموذج العمل الأمثل هو العبادة إذ في العبادة تنجلي آية الإنسان الذي لطالما اختزل في آليته. ثم عقل مؤيد بالتجربة الروحية التي هي ثمرة التغلغل في العبادة وصدق التوجه فيها حتى تكتسب بدون تكلف. نموذجُها الأمثل الوصول إلى المشاهدة، "كأنك تراه"، وإن لا فإلى المراقبة. "فهو يراك". إحسان. عامل آخر حاسم في تراجع نسبة الذكاء. صنمٌ هذه المرة. إنه لهو الحديث الصاد عن سبيل الله. بعض علماء التفسير قال أن لهو الحديث في الآية هو الغناء. ذلك أنها نزلت في معشر من قريش كانوا يأتون بالقينات والمغنيات ويقيمون "مهرجانات" على مقاس تلك الفترة كي يعرقلوا استجابة الشباب للدعوة الجديدة. "فجور سياسي****". ولقد كنتُ أنأى عن هذا التفسير ربما لأنني أحب سماع الموسيقى في خويصة نفسي وآخذ بالرخصة فيها لعدم ورود نصوص قطعية الورود قطعية الدلالة تنتصب كافية لتحريمها ولأنني أعتبرها لهوا من اللهو، حلالها حلال وحرامها حرام كما قال ابن حزم. لكن اكتشفت، وهو غير خاف، أيامنا هاته أن الغناء والموسيقى قد تجاوز عتبة الترويح ودخل باحة العقيدة الفنية. الغناء اليوم دين أرضي صارف عن الدين السماوي وحتى عن الدين العقلي. وكلاهما سبيل الله لو صح التوجه. من استعمل عقله بطريق صحيح أوصله إلى عتبة الوحي. ومن أخذ بهما من أول وهلة طويت له المسافة فلا يدري إلا وقد وصل. الفرق في سرعة الوصول فقط أو عدم الوصول. العقل وحي باطني والدين وحي خارجي. أما عقل الإنسانية اليوم فهو بالهوى الصاد عن غاية الوجود الإنساني ووظيفته أشبه. ولعل من أكبر تجليات الهوى في زماننا المهرجان تلو المهرجان تلو المهرجان وبينهما مهرجان وخلالهما مهرجان. ليس زمنَ العطل فقط، بل في عز أيام الامتحان... إنها حرب على مواقع الرمزية الفنونية اليونانية الوثنية، تطرد رمزية العلم والمعرفة والإبداع من الساحة وتركنها في باحات داخلية. تصيرها مُنكرا بالمعنى اللغوي. نكرةً، غير معرفة. تمهيدا لكي تصير منكرا. المنكر هو الشيء الذي لا تعرفه النفس ولا تعرف فضله وأهميته فطرةً أو تحت سطوة التجهيل. وقد صار الغناء المهرجاني معروفا والمعرفة والنبوغ منكرا. وصارت غاية الغايات رمزية مغنية أحيانا كثيرة لا تطرب، بجوارها لاعب يسرح ويمرح ويسجل الأهداف في مرمى الخصوم كل مرة بطريقة فريدة والمحصلة هي، هي. كرة في شباك وتصفيق وعويل واصطفافات ذات البارصا، وذات الريال. إنه انقلاب. قال فيلسوف الأدباء الفرنسيين***** في النصف الآخر من القرن العشرين يائسا من قرنه وعاقدا الأمل على القرن الذي يليه: "إن القرن الواحد والعشرين إما أن يكون روحانيا أو لا يكون" القرن الواحد والعشرين يصادف قرننا الخامس عشر في مجمله. فهل تقوم لنا قائمة نحن أصحاب الرسالة الخاتمة ما دمنا في طورها الخاتم إلى يوم القيامة. رسالة القرآن. اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا. * مفعول فلاين باسم الخبير في ميدان الذكاء الإنساني جيم فلاين. المفعول يعني اطراد الذكاء الإنساني بشكل تصاعدي. ** شهادة بيير بورديو في نموذج برنار هنري ليفي الذي انتقل صدفة أو بمفعول سري من مقام صحفي مشاغب إلى مقام فيلسوف. هكذا فجأة. *** قانون مراتب العقلانية انظر ملخص القانون في كتاب "العمل الديني وتجديد العقل" د.طه عبد الرحمن ص: 221. طبعة المركز الثقافي العربي. **** عنوان كتاب لمرحوم "فريد الأنصاري"