يعتبر قانون الأجانب و الهجرة بإسبانيا من بين الأدوات القانونية التي أصدرها المشرّع الإسباني بهدف تسيير و التحكم, و كذا التعامل المتساوي مع المهاجرين من خارج الاتحاد الأوربي, و كذا بهدف تحديد الشروط المتعلقة بدخول و استقرار المهاجرين بالديار الإسبانية و ذلك تزامنا مع التحولات الاجتماعية و الاقتصادية العميقة التي عرفتها إسبانيا منذ انضمامها إلى الاتحاد الأوربي و تحوّلها بفضل النمو الاقتصادي المضطرد الذي عرفته منذ ذلك الحين إلى بلد استقطاب لليد العاملة المهاجرة, نظرا لفرص العمل التي أتاحها هذا النمو, و التي جعلت سوق العمل تستوعب شيئا فشيئا أعدادا متزايدة من الأجانب بحثا عن حياة أفضل, فكان من الضروري و من الواجب مواكبة هذا التدفق بكل ما يحمله من تحديات ثقافية و حاجيات اجتماعية, اقتصادية و إنسانية, و ذلك بإحداث آليات تشريعية و قانونية تعمل على حماية و ضمان حقوق و حريات هؤلاء الأجانب باعتبارهم جزءا لا يتجزأ من المجتمع الإسباني الحديث المتعدد الثقافات و الجنسيات. و منذ استصدار قانون الأجانب و الهجرة بإسبانيا خلال عقد الثمانينات من القرن الماضي, عرف العديد من التعديلات و الإصلاحات تماشيا مع التطورات الاجتماعية و الاقتصادية التي عرفها المجتمع الإسباني و ما تمليه من شروط و تحديات جديدة, و تماشيا كذلك مع فلسفة و إيديولوجية الحزب الحاكم في كل فترة, و سنحاول في هذا المقال الوقوف على أهم هاته التعديلات و استعراض الخطوط العريضة لهذه الإصلاحات التي طالت هذا القانون منذ إصداره لأول مرة. يعود أول قانون تنظيمي حول حقوق و حريات الأجانب بإسبانيا إلى سنة 1985 والتي شهدت صدور القانون التنظيمي رقم 1985/7, و الذي استمر العمل به إلى حدود سنة 1999, و قد وصل عدد الأجانب في ظل هذا القانون الأول ما يناهز 801.332 أجنبي, منهم400.000 من جنسيات أوربية مختلفة, و الباقي من جنسيات خارج الاتحاد الأوربي, إلا أن هذا التوجه سرعان ما سينقلب ابتداء من سنة 2000, بحيث أصبح الأجانب من جنسيات خارج الاتحاد الأوربي يشكّلون أكثر من %50 من مجموع الأجانب المقيمين بإسبانيا, و لم يسلم قانون الأجانب و الهجرة في صيغته الأولى من انتقادات كثيرة من طرف العديد من المهتمين بشؤون الهجرة و حقوق الإنسان على اعتبار تعاطيه الأمني الصرف مع هذه الظاهرة على حساب تغليب حقوق المهاجرين و ذلك في إطار تخوف إسبانيا من تحوّلها إلى باب مفتوح لدخول و تدفق المهاجرين إلى أوربا عبر التراب الإسباني و ذلك في أفق انضمامها إلى الاتحاد الأوربي سنة 1986, و قد تم تقديم طعون بعدم دستورية هذا القانون, و هو الطعن الذي بثت فيه المحكمة الدستورية الإسبانية بموجب القرار القضائي رقم 1987/115 و الذي ألغى العديد من مقتضيات هذا القانون, و قد أرغم هذا الإلغاء و كذلك تطورات ظاهرة الهجرة و تزايد أعداد المهاجرين, الحكومة الإسبانية على إصدار قانون جديد للأجانب يتماشى و الظرفية الجديدة التي أصبح يعيشها المجتمع الإسباني, و هو ما سيجد ترجمته في القانون التنظيمي 2000/4 و الذي حمل في طياته تعديلات مهمة جدا فيما يخص سياسات الادماج, و توسيع رقعة حقوق و حريات الأجانب, كما سمح هذا القانون لعشرات الآلاف من الأجانب المقيمين في إسبانيا بصورة غير قانونية تصحيح وضعهم و الحصول على بطاقات الإقامة, و لعل أهم تعديل جاء به القانون الجديد هو إعطاءه ضمانات لمنع السلطات الأمنية من طرد المهاجرين الذين يتسللون إلى إسبانيا و يخوّل القضاء البث في وضعهم القانوني بموجب معاملة قضائية على قدم المساواة مع المواطنين الإسبان, و جاءت المصادقة على هذا القانون وسط جدل سياسي احتدم بين حكومة الحزب الشعبي اليميني المحافظ و أحزاب المعارضة اليسارية و على رأسها الحزب الاشتراكي حول حقوق الأجانب المقيمين بإسبانيا و الذين بلغ تعدادهم قرابة المليون شخص, و جاءت الصيغة النهائية لهذا القانون الذي يلغي قانون الأجانب و الهجرة المبرم سنة 1985, لتميل بشكل واضح إلى موقف المعارضة اليسارية, إذ تمنح للأجانب المقيمين في إسبانيا بصفة قانونية أو غير قانونية حريات و حقوقا واسعة النطاق, و لأول مرة في تاريخ إسبانيا منح القانون الجديد هؤلاء الأجانب حقوق تشكيل الجمعيات و حق التجمع و التظاهر, كما منحهم حق الالتحاق بالمدارس و الجامعات و كذا بنظام الضمان الاجتماعي و الصحي بنفس ما يتمتع به المواطن الإسباني من حقوق و واجبات تجاه هذه المؤسسات, و أعطى القانون الجديد للأجانب حق جلب أقربائهم المباشرين بموجب بند لم الشمل, و شكّل المغاربة الفئة الأكثر استفادة من هذا القانون, حيث تمت تسوية أوضاع ما يقارب 200.000 مهاجر غير شرعي, و كانت الحكومة اليمينية بزعامة خوسيه ماريا أثنار قد وعدت بالعمل على تقليص كل هذه الميزات في الفترة التشريعية المقبلة في حالة فوز الحزب الشعبي مرة أخرى بالانتخابات, و هو ما تأتى له بعد الاستحقاق الانتخابي ل 12 مارس 2000 حيث استطاع الحصول على الأغلبية المطلقة, و ابتداء من هذا التاريخ عرفت إسبانيا نوعا من الفوضى التشريعية كنتيجة للتعديلات المتتالية لقانون الأجانب و الهجرة, فبعد فوز الحزب الشعبي المحافظ بالأغلبية المطلقة سنة 2000, أدخل تعديلات هامة على القانون السالف الذكر, و هي التعديلات التي اعتبرتها العديد من مؤسسات و هيئات المجتمع المدني تراجعا عن المكتسبات التي تم تحقيقها في السابق بحيث تم تغليب الهاجس الأمني في مقاربة ظاهرة الهجرة و تقييد العديد من الحقوق و الحريات بدعوى ملائمتها لاتفاقية شنغن الأوربية, و هكذا تم إصدار قانون جديد للهجرة و الأجانب بمرسوم ملكي رقم 2001/864, و كنتيجة للانتقادات الواسعة التي عبّر عنها العديد من المختصين و الفاعلين, ألغى المجلس الأعلى للقضاء بإسبانيا في حكمه الصادر بتاريخ 20 مارس 2003, حوالي 13 بندا في القانون المذكور نظرا لخرقها للعديد من المبادئ القانونية, و قد عرف قانون الأجانب تعديلين أساسيين في غضون سنة 2003, الأول بموجب القانون التنظيمي 2003/11 بتاريخ 29 شتنمبر 2003, و الذي همّ مسألة طرد الأجانب, و الثاني بموجب القانون التنظيمي رقم 2003/14 بتاريخ 20 نوفمبر 2003, و الذي استرجع بعض البنود الملغاة في القانون القديم بحجة مواكبة تغيرات ظاهرة الهجرة و التحكم في موجات المهاجرين, و كذلك تضمين القانون الجديد كل القرارات المتخذة من طرف الاتحاد الأوربي في هذا الشأن و قد تمت المصادقة و إصدار القانون المعدّل الجديد بموجب مرسوم ملكي رقم 2004/2393. و لم يسلم هذا القانون من تعديلات جديدة, و في هذا الصدد أقرت الحكومة الإسبانية الاشتراكية في يونيو من سنة 2009, قانونا جديدا للأجانب على أساس أن يكون تعديلا للقانون الأصلي الصادر في سنة 2000, و قد كان الهدف من وراء هذا التعديل التقليل من مخاوف الرأي العام الإسباني الذي أصبح يصنّف الهجرة في استطلاعات الرأي كثاني مشكلة في البلاد بعد البطالة, بعدما كانت في الماضي تحتل مراكز متأخرة, كما جاء إقرار هذا التعديل بعد الانتقادات الشديدة التي بدأت تتعرض لها الحكومة الاشتراكية من طرف باقي الدول الاوربية مثل فرنسا و ألمانيا, اللتين تتهمان إسبانيا بتشجيعها للهجرة السرية من خلال تسوية وضعية الآلاف من المهاجرين السريين, و هو ما شجّع حسب هؤلاء مزيدا من المهاجرين السريين على القدوم إلى إسبانيا و باقي الدول الاوربية, و قد أثار مشروع القانون الجديد جدلا واسعا و تعرّض لانتقادات شديدة من طرف العديد من منظمات و هيئات المجتمع المدني المدافعة عن حقوق المهاجرين من بينها منظمة العفو الدولية, و التي عبّرت عن رفضها التام لمجموعة من البنود التي تضمنها مشروع القانون الجديد باعتبارها بنودا مجحفة في حق المهاجرين و نقط سوداء تجعل المهاجرين كبش فداء للأزمة الاقتصادية التي تعيشها إسبانيا و التي أصبحت ترسل إشارات عديدة في مجال تشديد سياستها المتعلقة بالهجرة لتكون مشابهة بشكل كبير لسياسات الهجرة الفرنسية مثلا, و من بين أهم التعديلات التي جاء بها القانون الجديد, منع و تجريم المساعدات المقدمة للمهاجرين غير الشرعيين, تمديد فترة توقيف المهاجرين في وضعية غير قانونية بمراكز الاحتجاز من 40 إلى 60 يوما, التقليص من الحق في التجمع العائلي ليشمل فقط القاصرين أقل من 18 سنة, و الأبناء البالغين أزيد من 18 سنة الذين يعانون من إعاقة, أو في حالة بلوغ الوالدين سن 65 سنة, فضلا عن وجود أسباب تبرر الإقامة بإسبانيا, و يتضمن القانون الجديد عقوبات مشددة في حق الشركات و المقاولات التي تمنح عقود عمل للمهاجرين الذين لا يملكون وثائق الإقامة بإسبانيا, بحيث رفع من الغرامة على المخالفات البسيطة من 300 إلى 500 يورو, و المخالفات الخطيرة من 6000 إلى 10.000 يورو, و الخطيرة جدا من 60.000 إلى 100.000 يورو, و بالموازاة مع تسديد هذه الغرامات, فرض القانون الجديد على المخالفين تسديد مصاريف عملية ترحيل هؤلاء المهاجرين, كما فرض القانون عقوبات على ما يسمى بالزواج الأبيض بغرض تسوية الوضع القانوني لمهاجر ما, و قد تصل الغرامة إلى 100.000 يورو ضد كل من سهّل إجراءات هذا الصنف من الزواج, و جدير بالذكر أن القانون القديم لم يكن يعاقب على ذلك, و يسمح هذا القانون كذلك للجمعيات و المنظمات المدنية تولي الوصاية على القاصرين الغير مصحوبين, كما يمنح لبلديات مناطق الحكم الذاتي صلاحية إصدار تصاريح عمل و الإقامة المؤقتة داخل حدودها السياسية و الجغرافية, كما تضمّن القانون كذلك بنودا عديدة لحماية الأجنبيات ضحايا العنف الأسري و أخرى كثيرة لتعزيز عملية الاندماج و التكامل التي يتعين على المهاجرين الذين يتطلعون لتجديد تصاريح الإقامة أو العمل الالتزام بها, و منها الالتحاق بدورات تأهيل حول القيم الدستورية و حقوق الإنسان, و قيم التسامح و المساواة, فضلا عن تعلم اللغات الرسمية, و قد برر وزير العمل الإسباني كل هذه الإجراءات بالوضع الصعب الذي تجتازه إسبانيا و الذي دفعها إلى اتخاذ مثل هذه القرارات لتكييف مستويات الهجرة مع سوق العمل, و هو ما انتقدته هيئات المجتمع المدني مثل منظمة العفو الدولية, اللجنة الإسبانية لمساعدة اللاجئين و شبكة "الايواء" الحقوقية, على أساس أنه يراعي أبعاد أخرى ذات صلة بالأمن القومي و بالعائد الاقتصادي, بدلا من التركيز على ضمان حق المهاجرين في العمل, كما وصف نواب برلمانيون من الحزب الشعبي هذا التعديل بكونه إصلاح جزئي و منقوص. و بعد فوز الحزب الشعبي اليميني بالانتخابات التشريعية لسنة 2011 و تشكيله لحكومة جديدة بأغلبية مطلقة, بادر إلى إدخال تعديل جديد على قانون الأجانب و خاصة البندين 31 و 59, و يهدف هذا التعديل حسب الحكومة الإسبانية إلى إرساء قواعد هجرة شرعية منظمة و مرتبطة بمتطلبات سوق العمل, و يستجيب هذا التعديل كذلك لحاجيات و تطورات عديدة, منها تدني نسبة المهاجرين الذين يقصدون إسبانيا من أجل العمل, و بالمقابل تزايد عدد طلبات تجديد بطاقات الإقامة من طرف المهاجرين المتواجدين فوق التراب الإسباني, كما يهدف إلى تبسيط و توضيح المساطر الإدارية, و كذلك تضمينه مقتضيات تشريعية أوربية في مجال الهجرة, و يطمح هذا القانون إلى تشجيع اندماج المهاجرين و تحقيق المساواة في الحقوق و الواجبات, كما يسعى إلى تشجيع العودة الطوعية للمهاجرين إلى بلدانهم الأصلية لتخفيف الضغط على سوق العمل المحلي خاصة في ظل ارتفاع معدلات البطالة و مناخ الأزمة الاقتصادية الذي دفع الحكومة الإسبانية إلى التعجيل بالمصادقة على تعديلات جديدة تطال القانون الخاص بالأجانب تمت المصادقة عليها يوم 15 أبريل من سنة 2011 من طرف مجلس الوزراء, و جاءت العديد من هذه التعديلات لتشدد الخناق على المهاجرين الراغبين في استقدام زوجاتهم و أبناءهم بعدما بات شرط توفر المهاجر او المهاجرة على راتب شهري عال و منزل يتوفر على الأقل على غرفتي نوم, و شملت التعديلات الجديدة جل فصول قانون الهجرة بعدما مست قضايا هامة مثل التجمع العائلي و التسوية القانونية من خلال قانون الاندماج الاجتماعي و العملي و العائلي, إلى جانب شروط جديدة لتجديد تراخيص الإقامة و العمل و الدراسة و تشجيع العودة الطوعية للمهاجرين الراغبين في الالتحاق ببلدانهم الأصلية بحيث يضمن لطالب العودة جميع حقوقه في ما يتعلق ببطاقة الإقامة و العمل بعد عودته بعد ثلاث سنوات و هي المدة التي حددتها الحكومة الإسبانية, و ارتباطا بالموضوع اعتبرت وزارة الشغل و الهجرة الإسبانية أن التعديلات الجديدة للقوانين الخاصة بالمهاجرين تعد بمثابة قاعدة صلبة لبناء هجرة منظمة و أكثر قانونية ترتبط مباشرة بمتطلبات سوق الشغل و تتماشى مع المستجدات الحالية, كما ترسي دعائم أرضية لضمان اندماجهم في الوسط الإسباني في أجواء سليمة و كذلك لمحاربة الهجرة الغير الشرعية, كما تمنح القوانين الجديدة ضمانات عديدة في ما يخص النساء المعنّفات اللواتي يتعرضن للعنف الرجولي, خاصة المهاجرات غير الشرعيات بحيث تلغي قرار ترحيلهن إلى غاية صدور حكم القضاء, مع وضع ميكانيزمات لجلب يد عاملة مؤهلة وفق حاجيات سوق العمل. و يبقى التعديل الأخير الذي تعتزم الحكومة الإسبانية الحالية إدخاله على قانون الأجانب, الأكثر ارتباطا بواقع الأزمة الاقتصادية التي تعيشها إسبانيا خاصة في ميدان العقار, حيث تعتزم السلطات الإسبانية منح الأجانب بطاقات الإقامة مقابل اقتناءهم لعقارات بإسبانيا تفوق قيمتها 160 ألف يورو و ذلك بهدف إنعاش سوق العقارات الذي يعرف ركودا شديدا منذ بداية الأزمة الاقتصادية سنة 2008, و كذلك بهدف جذب السيولة لبلاد, و قد انتقدت العديد من جمعيات المهاجرين و النقابات هذا الإجراء باعتباره غير عادل و غير منصف, كما وصفه الحزب الاشتراكي المعارض بالمتاجرة بتصاريح الإقامة, و جدير بالذكر أن هذه التصاريح لا تمنح لصاحبها الحق في التمتع بالعديد من الخدمات الاجتماعية مثل التربية, الصحة كما لا تمنحه الحق في التجمع العائلي نظرا لارتباطها فقط بشرط اقتناء عقار بإسبانيا, و ينتظر أن يستفيد من هذا الإجراء أشخاص من جنسيات صينية و روسية. ختاما, تعكس كل هذه التعديلات التي طالت قانون الهجرة و الأجانب في العقد الأخير تطورات ظاهرة الهجرة و استقرار الأجانب بإسبانيا, كما تعكس التحديات الاقتصادية و الاجتماعية التي أصبحت مفروضة على المجتمع الإسباني بفعل الأزمة الاقتصادية