بقلم الدكتور محمد الأمين المؤدب* لا أحد ينكر صلة الفكر المغاربي بالمشرق أو يشكك فيه، فهي صلة قديمة، تمتد عبر التاريخ العربي الإسلامي، وتسري في تراثه الغني والمتنوع، بكل ملابساته الثقافية وأنماطه الفكرية. ولا أحد ينكر أ ن هذا الفكر ظل يمتاح في رؤاه وتصوراته من موروثه المشرقي الأصيل، وإن انفتح على الثقافات المستحدثة والوافدة، متفاعلا معها ومنفعلا بها. يتجلى ذلك – أكثر ما يتجلى- في العلوم الإسلامية والشرعية، والنصوص الأدبية والنقدية، والدراسات الفلسفية والكلامية. وأسباب تلك الصلة، بما لها من صلات وذيول، كثيرة ومتعددة، لم تزدها الأيام والسنون إلا رسوخا وتفاعلا وتكاملا، وإن لم تخل أحيانا من تدافع وتراشق وتوتر، إذ لم تكن العلاقة بينهما دائما علاقة تماه وتبعية واحتذاء. غير أن العلاقة الفكرية والثقافية بخاصة، ظلت في الأغلب الأعم علاقة قائمة على ثوابت مشتركة ومتماثلة، تلتقي في الأصول والكليات، وإن اختلفت وهذا بدهي في الفروع والجزئيات، اختلافا يسيرا أحيانا، وغير يسير أحيانا أخرى، تبعا لسياقات تاريخية ومعرفية، تمليها الأحداث وتستدعيها التطورات . وفي كتب الرحلات المغاربية والفهارس والبرامج، وكتب التدريس والإقراء، وسواها، ما يؤكد – لمن أراد مزيد تأكيد – قوة هذه الصلة، وشدة هذا التفاعل، حتى ليبدو لبعض الدارسين قديما وحديثا أن الفكر المغاربي، بكل أنماطه وتنويعاته، يعيش على البضاعة المشرقية ويستمد منها القوة والحضور، استناداً إلى هذا التفاعل والتكامل، وبناء على ثنائية الأصل والفرع، ولا يكاد يتجاوزها إلا في حدود ضيقة لا يكاد يُلتفت إليها. ومع أن هذا الفرع – الفرع المغاربي – كان يقوى أحيانا، وَفق شروط تاريخية معينة، قوة الأصل وربما زاد عليه، كما في الجانب الفلسفي، على نحو ما ذهب إليه د محمد عابد الجابري، ومع ما في كلام ابن حزم وابن بسام، وفي إشارات ابن رشيد السبتي وأبي سالم العياشي، وفي بعض النتاجات الأدبية والفكرية، من نزوع إلى إثبات الذات المغاربية، وإن في إطار التنوع والاختلاف، ومحاولات الخروج عن سَنن المشارقة والتخلص من قيود الاحتذاء، مع ما في ذلك كله تظل ‘تبعية' المغاربة سمة بارزة في تاريخ الثقافة العربية، ويظل إشعاعهم مُعْشيا أمام نور المشرق الواضح الوهاج، أو هكذا يبدو لدارس تاريخ الفكر المغربي في صلته بالفكر المشرقي. فهل الأمر كذلك ؟ لعل ابن خلدون، وهو مغاربي بحق، كان من أوائل من نبه إلى تبعية الفكر المغاربي وخصوصيته، في سياق حديثه عن البلاغة العربية، مؤكدا عناية المشارقة بعلم البيان، وولوع أهل المغرب بعلم البديع، ومبيّنا الأسباب الكامنة وراء ذلك. قال : ‘و العناية به – يقصد البيان – لهذا العهد عند أهل المشرق في الشرح والتعليم منه أكثر من غيره. وبالجملة فالمشارقة على هذا الفن أقوم من المغاربة. وسببه والله أعلم أنه كمالي في العلوم اللسانية. والصنائعُ الكمالية توجد في العمران، والمشرقُ أوفر عمرانا من المغرب ... أو نقول لعناية العجم، وهم معظم أهل المشرق، كتفسير الزمخشري، وهو كله مبني على هذا الفن، وهو أصله. وإنما اختص بأهل المغرب من أصنافه علم البديع خاصة، وجعلوه من جملة علوم الأدب الشعرية، وفرّعوا له ألقابا، وعدّدوا أبوابا، ونوعوا أنواعا ... وإنما حملهم على ذلك الوَلوع بتزيين الألفاظ، وأن علم البديع سهل المأخذ. وصعبت عليهم مآخذ البلاغة والبيان لدقة أنظارهما وغموض معانيها فتجافوا عنهما' (مقدمة ابن خلدون مكتبة الأسرة 2006. دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع 3/1137- 1138). فالمشارقة – كما يرى ابن خلدون- أقوم على البيان من المغاربة، لكون هذا الفن كماليا في العلوم اللسانية، والصنائعُ الكمالية توجد في العمران، والمشرقُ أوفر عمرانا من المغرب. والمغاربة أشد تجافيا عن البيان والمعاني، وأقوم على البديع، لولوعهم بتزيين الألفاظ، وعلمُ البديع سهل المأخذ، ولصعوبة مآخذ المعاني والبيان ودقة أنظارهما و غموض معانيها. والأمر عند ابن خلدون لا يتعلق ‘بطبيعة التفكير وكمال العقل، ولا بشدة النباهة وعظم الكيس'، عند أولئك وهؤلاء، وهو ما قد يظنه كثير من رحالة أهل المغرب وإنما يتعلق بأسباب موضوعية وعلمية وتربوية، على نحو ما بيّن هو وغيره ممن جاء بعده، في غير ما موضع، مستحضرا ما كتبه علماء المغرب والمشرق في هذا الباب، وموازنا بينه، ومستخلصا أطروحته الوجيهة التي تحاول أن تنظر في إحدى المشكلات الكبرى المتعلقة بالتأسيس الفكري والثقافي للعقلية المغربية. وما من شك في أن استخلاصات ابن خلدون القائمة على استحضار التراث الفكري والثقافي للأمة العربية في المشرق والمغرب، وعلى جدلية الثقافة والتاريخ بالمعنى الخلدوني في بعديهما المعرفي والحضاري، على نحو ما أشرنا، وعلى نحو ما أوضح الجابري في دراسته ‘نحن والتراث' (ص 292)، تمتلك من القوة والمصداقية ما تمتلك، على الرغم مما قد يبدو عليها من غلو أو تعميم أو تحيف. وربما أحس بعض الباحثين المغاربة من المعاصرين خاصة، بشيء من ذلك الغلو والتعميم والتحيف عند عالم العمران ابن خلدون، فأخذوا في فحص مقولاته، وتقييد استخلاصاته، ليخففوا من تلك الغلواء والتعميمات، التي لا تقوم على الاستقراء الدقيق – حسب رأيهم – مستندين إلى بعض التآليف في الموضوع، مما أغفله نسيانا أو تناسيا، منذ البدايات الأولى حتى أوائل القرن الثامن الهجري، ليدلل بها على ازدهار الدراسات البلاغية في الأندلس والمغرب، ولا سيما خلال الحقبة المذكورة ( التنبيهات على ما في العلوم من التمويهات، تحقيق د محمد بن شريفة مقدمة المحقق 5-9). غير أن ما أورده هذا الباحث الحصيف، المطلع بعمق عن التراث العربي في الغرب الإسلامي- على أهميته وأهمية الاعتراض عنده- لا يكاد يثبت أمام أطروحة ابن خلدون، بله أن ينال من شموخه وعبقريته، للأسباب التي أشرنا إليها، ولاعتماده كليات الأمور وخاصة منها ما يتعلق بالنظر العقلي، بدل الذاكرة والمروي. والحق أن المغاربة في المراحل التاريخية الأولى، وفي المرحلة المشار إليها وربما كانت هي المرحلة الأساسية في تاريخنا الثقافي لم يكونوا يُعنون بالعلوم النظرية إلا لماما، لما تستلزم من دقة وتأمل ونظر، وإنما كانوا أشد تجافيا لها، كما قرر ابن خلدون، وهو الشاهد على هذه المرحلة والمؤرخ لها، بداية وتطورا وانهيارا. أما في المرحلة التالية والمستمرة إلى عصر النهضة، فقد استوى فيها المشرق والمغرب، وغاب فيها الفكر أو كاد، وتحول الناس من الإبداع إلى النقل، فعاشوا مرحلة الشروح والحواشي والمختصرات وإعادة ما أُبدع من قبل، على حدّ تعبير حسن حنفي، ولله الأمر من قبل ومن بعد.