بورسعيد – مصر يكتب : شرور المدنية الحديثة ليس من شك أن لكل مدنية جانبان ، جانب نسميه ” الجانب المادى” ، و جانب آخر نسميه إن جازت التسميه ” الجانب الروحى ” . فالجانب المادى ما نعنى به القوة الحسية ، من قوة التسليح و المخترعات الحديثة ، و المبانى و البواخر و القطارات و الطائرات و ما تم إختراعه من صنوف الترف و إستخدام التقنيات الحديثة فى تنظيم الاعمال و كل ما نشهده من مدارس و جامعات و مستشفيات و إستخدامات للوسائل التكنولوجيه الحديثه فى الاتصالات و إستخدامات الانترنت و العلوم المتطورة فى المجالات المختلفه ، فكل هذا ما رسمه الجانب المادى على المدنية و أضفى عليها شكلا من النعيم و الترف و هو ما نعبر عنه بالقوة المادية . أما الجانب الأخر و هو الجانب الروحى ، فتحركة ايضا قوة تتجلى فى رسم المثل الأعلى للإنسان ، و السعى فى الوصل اليه ، و العمل على إصلاح النوع الإنسانى من الناحية الفردية و الاجتماعيه و السياسية , وكيفية تعويد الإنسان أن يفكر و يشعر و يعمل لخير الانسانية ، و كيف يخفق قلب الإنسان بحب الناس جميعا ، و يحب الخير العام لهم ، لذلك و ضعت نظم و طرق التربية و القوانين و المعاهدات ما يحقق هذه الغاية أو على الاقل الاقتراب منها ، و بما يعنى بالمجمل تغذية الروح بحب الخير للإنسانية . ولا أظن أن تعد المدنية مدنية راقية إلا إذا وجد فيها الجانبان ، و كانا معا راقيين متوازيين . لقد نجحت المدنية فى الجانب المادى نجاحا فاق ما كان منتظر ، و فشلت فى الجانب الروحى فشلا أبعد ما كان ينتظر ؟ فقد تبدى أمام كل من يهمهم حسن الشكل و المتعه المادية ما جعلهم يصفقوا للمدنية الحديثة حتى تعبت أيديهم من التصفيق ، و بحت أصواتهم من نداء الاستحسان ، أما الذين يهمهم من الإنسان روحه لا جسده ، و من المادية روحها لا مادتها ، فنالهم شئ غير قليل من اليأس . فإن تحدثت عن المدنية فحدث عنها ولا حرج ، فكل المظاهر البراقه التى نراها و ما أتى به التقدم العلمى و المخترعات التى لا تحصى و لا تعد ، و العجب منها لا ينتهى أبدا ، و لكن لا تخدعنك هذه المظاهر، فالمثل العامى يقول :” لا يعجبنك البيت و تزويقه ، فساكنه قد جف ريقه “، لا تنظر إلى المكان و أنظر إلى السكان . هؤلاء الافراد العاطلين ، و هذه الملايين من البائسين ، و هذه الحروب الطاحنه ، و هذه الدول التى تتسلح لتقذف بأبنائها فى أتون من نار مساحته الارض كلها ، و الكثير مما لا يعد من ضروب الشقاء ، سر هذا كله يعزى فى مجمله إلى طغيان جانب المادة على جانب الروح ، حتى عجزت المدنية الحديثة أن تنظر إلى الإنسان كوحدة على الرغم من أنها قربت بطرق الاتصالات و المواصلات و المعاملات بين أجزاء العالم حتى اصبح قرية صغيرة . فقربت فى المكان و باعدت بين السكان ، تقدمت فى علم الجغرافيا و لم تتقدم فى علم الاجتماع ، استكشفت الانهار و البحار و الوديان و الجبال و الصحارى ، و لم تستكشف قلب الإنسان ، عملت على وحدة الانسان جغرافيا ، و عملت على تفريقه اجتماعيا ، فما أعجب ما صنعته المدنية ..!! لقد منحتنا المدنية كيف نعيش , و حسنت فى ذلك ، و لكن لم تمنحنا كيف يجب أن نعيش و ما الغاية التى لأجلها نعيش ، فكان العلم و تقدمه وسيلة لتحسين كيف نعيش ، فالأخلاق اساسها هذه المادية ، و مالية الدولة مشلولة بالأغراض الحربية ، و الألات المخترعه جعلت أصحاب المال و الحكومات ينظرون إلى الانسان نظرتهم إلى ترس فى آلة ، حتى استغرقت المادة تفكير المفكرين من اقتصاديين و ماليين و علماء و حكوميين ، و أى من اتسع تفكيره لإصلاح روحى أو إصلاح إجتماعى صدم بميزانية الدولة التى تأسست على النظرة المادية ، و صدم بالحالة العالمية العامه على الرغم من الطلاء الكاذب من المناداة بالحرية ، فالاوضاع الاقتصادية المادية سلبت الناس حريتهم ، و جعلتهم يعانون أشد المعانة فى سبيل العيش ، و كلما زادت المدنية زادت مطالب الحياة ، و تعقدت سبل الحصول عليها وشعر الناس بضيق و شدة الضغط ، حتى يساورنى الظن بأنه قد ظهرت موجة علت نفوس الناس تشعرهم بأنهم لم يكونوا بعد العلم و تقدمه أسعد مما كانوا قبله ، و قد اشعرتهم المدنية بأنها ينقصا شئ كبير . هذا الشئ هو الذى أشرت اليه فى البداية بالجانب الروحى ، و لست أتنكر لمميزات العلم و فضله و لكن أعتقد أنه وحده لا يكفى ، خاصه و أننى أفهم من المدنية معنى خاصا هو أنها ” التقدم الذى يقوم به الناس فى كل جانب من جوانب الحياة ، و فى كل وجهة من وجهات النظر المختلفة “، فإذا انحصر التقدم فى المادة وحدها و العلم وحده ، كانت المدنية ناقصه ، كما إذا انحصر التقدم فى الروحانيه وحدها . و ما من شك أنه قد رجحت فى المدنية كفة المادية ، فعلينا أن نضع فى الكفه الثانية الجانب الروحانى لتتوازن الحياة عن طريق أن يخفق القلب بحب الإنسانية كلها ، فليس هناك عبد و مستعبد ، و لا اسود و ابيض ، و أن يتجه من بيدهم زمام الامور إلى الخير العام لا الخير الخاص . تعالوا نلغى الحدود الجغرافيه إعتباريا و الحدود الجنسيه ، و الحدود الماليه و الدينية ، و ما نحوها من حدود ، ليكون المبدأ العام ” الإنسان أخو الإنسان يكد و يعمل لخيره ” ، حتى يكون مبدأ الإنسانيه دينا يبشر به و يعمل من أجله ، و تنشط فى ذلك مناهج التعليم و قواعد الاخلاق . لو فعلنا ذلك لزالت أكثر شرور المدنية الحديثة و لتعاون الناس جميعا بإختلاف مذاهبهم و أوطانهم ، ولشعر الإنسان بأن أفق تفكيره قد أتسع ، و شعر أن الارض كلها وطنه ، وكل الناس اخوانه ، و لشاع الحب ارجاء الارض و عم السلام على ربوعه فإن لم نصل إلى هذا فأننا نعيش أكذوبة الحياة . [email protected]