بعد عقد من توليه عرش المملكة المغربية خلفا لوالده، يبقى الملك محمد السادس لغزا لدى غالبية رعاياه الذين يقدِّمون حصيلة مُتباينة لسنوات حكمه التي تميزت بانجاز إصلاحات هامة مع استمرار نقاط سوداء. فمحمد السادس، هو من الملوك الذي يذهب بالمرونة نحو الإيحاء بالخروج عن الأسرة الحاكمة، لكنه سُرعان ما يُعيد للأذهان عهد أسلافه وحكمهم للبلاد الأقصى جغرافيا، في ذلك العالم الذي يُطلق عليه العالم الإسلامي أو بشكل أضيق جغرافيا، العالم العربي، وإنه حتى ولو شعر الآخر أنه خارج سياق هذا العالم، فإنه يظل جزءا منه بل جزء متميزا في بعض الأحيان. كان الرّاحل الحسن الثاني يقول دائما “الرجل أسلوب”، وعن ولي عهده (الملك محمد السادس فيما بعد) قال: “أنا أنا.. وهو هو”. وحرص محمد السادس بُعيد تولِّيه العرش على تِرداد هذه العبارة، التي تأكّدت ملامح دقّتها منذ أدائه صلاة الجمعة يوم 30 يوليو 1999 ليكون ملكا وأميرا للمؤمنين، وِفقا للدستور، حين أعلن عن مفهومه الجديد للسّلطة، وأبعد عن المسرح السياسي إدريس البصري، أبرز رموز عهد والِده، وفتح صفحة جديدة مع خصوم ذلك العهد، بسماحه لابراهام السرفاتي، المعارض اليساري المتشدّد بالعودة إلى البلاد كمُواطن مغربي، ورفع الإقامة الجبرية عن الشيخ عبد السلام ياسين، مرشد جماعة العدل والإحسان الأصولية المتشدّدة والرافضة لقبول الملك أميرا للمؤمنين. الصحراء.. وحقوق الإنسان الخطوة الأبرز ليكون “هو”، هي اهتمامه المُلفت بمناطق شمال البلاد (التي كانت على خِصام مع والده) ولاء مشكوكا من قبل سكانها وإهمالا واضحا من قِبل الدولة، وخصّ المنطقة بجولته الأولى وتشدّد في الإسراع في تنفيذ المخطّطات التنموية المخصّصة للشمال، التي كانت آخر حكومات والده قد برمجتها، وأيضا في وضع برامج جديدة تعوّض المنطقة عمّا فاتها أثناء مرحلة الخصام مع الدولة، والتي زادت عن أربعة عقود. إدريس البصري وابراهام السرفاتي وعبد السلام ياسين ومعهما شمال المغرب، ترمز في مملكة محمد السادس، إلى القطيعة مع مملكة الحسن الثاني في الميادين السياسية والحريات العامة والتنمية وملامح العهد الجديد، لكن ماذا بعد انقضاء السنوات العشر الأولى على ميلاد هذه المملكة، وأين تقاطعت وأين تباعَدت مع مملكة الأب الراحل؟ في الميدان السياسي، أبقى محمد السادس قضية الصحراء الغربية – الهمّ الأكبر لأي حاكم مغربي – في الإطار الذي وضعه الحسن الثاني “الصحراء مغربية وأي حل للنِّزاع حولها، يجب أن يضمن لها السِيادة المغربية”، لكن محمد السادس، كان أكثر مُرونة في التّعاطي مع مُعارضي هذا الإطار، ليخفِّف عن كاهل بلاده الكثير من أوراق ملف انتِهاكات حقوق الإنسان، التي كانت تنُوء بها في عهد الحسن الثاني. وفي هذا الإطار، تحرّك محدِّدا سياسته أو مقاربته للنِّزاع وتسويته. إن النزاع أساسا مع الجزائر وأن تسويته لا تكون إلا بحلّ سِلمي يُرضي جميع الأطراف، ومن هذا المُنطلق، طرح في عام 2005 مُبادرة منح الصحراويين حُكما ذاتيا تتمتّع سلطاته بصلاحيات واسعة تحت السيادة المغربية، ويتمسّك المغرب بمبادرته، التي لقِيت تفهُّما دوليا، ويرفض البحث في غيرها، رغم رفض جبهة البوليساريو لدولة مستقلّة بالمنطقة المتنازَع عليها وقرارات مجلس الأمن والمبعوثين الذين يأتون ويذهبون. وفي المدن الصحراوية، كانت السلطات تتلمس تدبيرا يُحافظ على أمن المنطقة، دون انتهاكات لحقوق الإنسان، فتوقّفت منذ الاضطرابات التي عرفتها المنطقة في مايو 2005 عن ملاحقة الناشطين الصحراويين المؤيِّدين لجبهة البوليساريو أو مَن يُطلق عليهم “بوليساريو الداخل”، ولم تعُد تعترض سفرهم وعودتهم للبلاد بجوازات سفر مغربية. ويحرص مسؤولو مملكة محمد السادس على التأكيد أن ما يجري في الصحراء من انفتاح، يأتي في سياق الانفتاح الذي تعرفه المملكة، فشوارع العاصمة الرباط تشهد يوميا تظاهُرات احتجاجية لحقوقيين أو عاطلين عن العمل، دون أن يقترب منهم رجال الشرطة إلا في حال ما إذا عرقلت السير أو النظام العام. ملف انتهاكات حقوق الإنسان ولم تكتفِ مملكة محمد السادس بالانفتاح على منظمات حقوق الإنسان وتوسيع هامش الحريات، بل ذهبت خطوة أبعد من ذلك، بتأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة في خريف عام 2003، لتقرأ صفَحات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان وجبْر ضرر الضحايا وعائلاتهم ومناطقهم، كخطوة نحو المصالحة. ورغم الانتقادات التي وجِّهت للهيئة، كون مهمتها اقتصرت على سنوات الرّصاص (1956 إلى 1999) وتحاشت الإقتراب من الجلاّدين، وذهابها نحو منهجية الإفلات من العِقاب، فإنها سجّلت صفحة إيجابية في هذا الميدان ولقِيت صدىً إيجابيا أثناء بثّ جلسات استماع الضحايا مُباشرة على شاشة التلفزيون الحكومي. في المقابل، لم تكُن كل صفحات سجل حقوق الإنسان ناصعة البياض، إذ سجّلت المنظمات الحقوقية المغربية والدولية خُروقات وانتكاسة حقيقية بعد الهجمات الانتحارية التي استهدفت مدينة الدارالبيضاء يوم 16 مايو 2003 وذهب ضحيتها 45 قتيلا، بينهم 13 شاركوا في تنفيذ الهجمات، وعشرات الجرحى ومئات المعتقَلين، والتي نفّذها أصوليون لا زالت لحدّ الآن هوية الجهة التي كلّفتهم بها مجهولة. إذ وصل عدد المعتقَلين إلى ستة آلاف، قُدِّم منهم أكثر من 2000 للمُحاكمة وأدِين حوالي 900 منهم وحُكم عليهم بأحكام تراوحت بين السِّجن المحدّد والإعدام. أما الأهم فهي أجواء القلق التي خلّفتها تلك الهجمات وما رواه المعتقلون على خلفية هذه الهجمات أو التي تلتها أو ما أعلنت عنهم السلطات من خلايا أصولية كانت تعد لهجمات مُماثلة، من انتهاكات وخروقات وتعذيب تعرّضوا له، وقد لعبت الصحافة المغربية دورا هاما في الكشف عن هذه الخروقات. الصحافة المغربية.. حريات وتضييقات فبالإضافة لفتحها صفحة الماضي، كثّفت الصحف من نشر ما يرِدها من تقارير عن انتهاكات حديثة، كان لها نصيب منها. وقد تحولت هذه الإنتهاكات فيما بعد إلى فرض غرامات باهظة عليها، وهو منهج اتّبعته السلطات ضدّ الصحافة، خاصة المستقلة، بدلا من التعاطي مع تداعِيات اعتقال الصحفيين أو إغلاق الصحف. والدّور الذي تميّزت به الصحافة المغربية في الدّفع نحو المزيد من الحريات وتوسيع هامش النّقد للسلطات والتطرّق لملفات، كانت في مملكة الحسن الثاني توسم بالقدسية، قابله ضعف لحدّ الوهن للأحزاب السياسية، خاصة الديمقراطية منها، والتي دفعت البلاد نحو الأجواء التي تعرفها حاليا بعد نضال عشرات السِّنين وتضحيات آلاف الناشطين. أحزاب تذوي و”صديق الملك” يصعد وتعرّضت هذه الأحزاب، التي كانت مؤتلفة في حكومة التناوب برئاسة الاشتراكي عبد الرحمن اليوسفي لدى تولي محمد السادس مقاليد السلطة، إلى حملة منظمة سواء من أطياف القصر الملكي أو من الصحافة المدعومة من هذه الأطياف. ومع اتِّساع دور المستشارين الملكيين في تدبير الشأن العام وتقلّص دور الحكومات، كانت الأحزاب تذوي والخلافات تدبّ في أوصالها (في شكل انشقاقات أو ابتعاد عن منهجية الحزب)، وليكون الثمن الذي ستدفعه في تشريعيات سبتمبر 2007 باهظا، إن كان بارتفاع نسبة العزوف أو المقاعد التي حصلت عليها، مقابل حزب العدالة والتنمية الأصولي المعتدل، الذي توسعت في عهد محمد السادس قاعدته وتمثيله بالمؤسسات المُنتخبة باضطراد خلال الاستحقاقات الأربع التي جرت (2002 تشريعية و2003 بلدية و2007 تشريعية و2009 بلدية). وفي تِكرار لتجارب شهدها عهد الحسن الثاني، أسس فؤاد عالي الهمة، الوزير السابق في الداخلية وصديق الملك، صيف 2008 حزب الأصالة والمعاصرة “لوقف زحف الأصوليين وتقليص نِسبة العزوف السياسي”، واكتسح في يونيو 2009 الحياة السياسية بحصوله على المرتبة الأولى في الإستحقاقات البلدية. وحرِص الهمّة وحزبه على إبراز منهجية محمد السادس تُجاه المرأة، التي شكّل تحسين أوضاعها، اجتماعيا وسياسيا، هدفا لها. فبالإضافة إلى إقرار منح المرأة منذ تشريعيات 2002 في إطار ال “كوتا” 30 مقعدا من أصل 325، وهي مقاعد مجلس النواب، و12% من مقاعد المجالس البلدية منذ انتخابات 2009، أصدر العاهل المغربي مدوّنة الأسرة، التي مثلت قفزة اجتماعية متقدّمة من خلال ما سنّته من شروط للزّواج والطلاق وما لكلّ طرف من حقوق، ومنح الجنسية المغربية لابن المغربية وليس فقط لابن المغربي. انفتاح وحريات وإنجازات وكان الإنفتاح والحريات السياسية والاجتماعية حافزا رئيسيا للإستثمار الأجنبي، والذي استفاد منه المغرب، وإن كان بشكل ضئيل، ممّا تعرّض له الرأسمال الخليجي والعربي عموما في الولاياتالمتحدة وأوروبا في أعقاب هجمات سبتمبر 2001. ولاستقطاب هذه الاستثمارات، التي تركّزت في الميدان العقاري والسياحي والخدماتي، والحصول على صِفة شريك متميز مع الاتحاد الأوروبي، ذهب الملك محمد السادس بعيدا في تهئية البنية التحتية للاستثمار، إن كان من خلال فتح المجال الجوي لحركة الطيران الرخيص وتطوير المطارات وزيادة ملموسة في الطّرق السيارة، التي انتقلت مسافاتها من 210 كلم في عام 1999 إلى أكثر من ألف كلم حاليا، ومئات أخرى في طَور الإنجاز أو في إطار المخطط المستقبلي، وأنجز في المغرب الميناء المتوسطي، الذي يُعتبر الأهم على حوض البحر المتوسط، وأعلن عن تجهيز الميناء المتوسطي الشرقي، القريب من مدينة الناضور. ويذكر مسؤول مغربي أن محمد السادس قال مرّة، إنه لن يرتاح إلا إذا وصل المغرب إلى حال “لا يشعر القادم إليه فيه من الضفة الشمالية للبحر المتوسط، بأي فارق”. المسؤول المغربي كان يتحدّث في أسباب الانكفاء المغربي عن دوره العربي والدولي، الذي كانت تلعبه مملكة الحسن الثاني. فالعاهل المغربي نادِرا ما يحضر قمة عربية أو إسلامية، ونادرا ما يقوم بزيارة عمل لدول عربية وإسلامية. ويقول المسؤول إن محمد السادس بعد جولاته العربية والإسلامية الأولى وحضوره القِمم التي عُقدت خلال عامي 1999 و2000، وجد أن الانشغال بالتنمية الداخلية له مردودية أكبر وفائدة ملموسة، لأن الوضع العربي والإسلامي لا يشجِّع على البحث عن دور، وحتى بالنسبة ل “لجنة القُدس الإسلامية” التي يرأسها، فقد وجد أن الإهتمام المباشر بأوضاع سكان المدينة ومقدّساتها والفلسطينيين عموما، أكثر فائدة من عقد اجتماعات تُصدر بيانات يعرف العالم المدى الذي يصل إليه الموقِّعون عليها. وعلى صعيد منطقة المغرب العربي، أدرك صانعو القرار في مملكة محمد السادس أن أي تفكير لعمل جماعي مغاربي، رهين بتطبيع وتعاون جزائري مغربي، وهو ليس ضمن الأجندة الجزائرية في المدى المنظور واعتمدوا منهجية تطوير العلاقات الثنائية بديلا. محمود معروف – الرباط – swissinfo.ch