يَحدثُ أن نتداول مفاهيم في حياتنا العامة، ونوظفها في انشغالاتنا العلمية وخطاباتنا السياسية، دون التمحيص في أصولها ومضامينها، وقد يعتقد الكثير منا أنها مفاهيم ومُفردات وكلمات واضحة ومفهومة، والحال أنها في غاية الغموض والالتباس، وإذا توقفنا عند حالها مليا، نكتشف، دون شك، أن عدم وضوحها، وسوء توظيفها إعمالا ومخاطبة، غالبا ما يكونان مصدرا لخلافاتنا وفُرقتنا، وسببا لهدر الوقت في حياتنا المدنية. لذلك، هناك حاجة ماسة إلى أن تهتم مناهجنا التعليمية، ويقتنع المدرسون والباحثون والساسة بأن وضوح المفهوم شرط لحسن استعماله وتوظيفه، وأن غموضه سبب للإساءة إليه، وطريق سالك للتعسف في إعمالِه وممارسته. تحضرني في هذا السياق مصفوفة من المفاهيم التي أصابتنا بالتخمة لفرط الاستماع إليها، عبر وسائل الإعلام بكل أنواعها، ومن خلال ترويجها في الكليات الاجتماعية والإنسانية، وتسويقها بشكل مصطنع، وغالباً في غير محله في المناسبات العلمية، من قبيل: "دولة الحق والقانون"، "دولة القانون"، "سيادة القانون"، "المجتمع المدني"، "الحكامة أو الحوكمة"، "التناوب"، "الانتقال الديمقراطي"، "المفهوم الجديد للسلطة"، "المجتمع الديمقراطي الحداثي"، "العدالة الترابية"، "الجهوية المتقدمة والجهوية الموسعة".. والقائمة طويلة من المفاهيم والمفردات والكلمات التي تؤثث لغة التداول لدى الكثير من مستعمليها. والحقيقة أن هناك من باحثينا الجِدّيين من نبّه منذ عقود إلى هذه الآفة المنهجية والمعرفية، وحذّر من خطورتها في صنع الأفهام وصياغة التفاهمات الفكرية والسياسية المشتركة، وشدد على استراتيجية العناية بالمفاهيم وما يشبهها، تأصيلاً وتوضيحاً واستعمالاً، وهنا أشير تحديداً إلى عالِمين جليلين كل في مجاله، المؤرخ عبدالله العروي، وصاحب كتاب "تحليل الخطاب الشعري/استراتيجية التنّاص" محمد مفتاح. فمن المعروف أن العروي، وبعد أن وقف عند مشكلة المفاهيم في البنيان المعرفي العربي، اهتم بالعديد من المفاهيم، وهي تباعا أربعة مفاهيم: الإيديولوجيا، التاريخ، الحرية والعقل، وكلها مفاهيم موسومة بالتلازم والترابط، ودالّة من حيث تحليل نظرتنا لذاتِنا، ولنظرتنا في علاقتها بالآخر. من المعروف أن للمفهوم أو المفاهيم سِجل ولادة مثل الأشخاص، وأن ظهورها وانقراضها مرتبطان بسياقات وبيئات، تبدأ محلية وإقليمية، قبل أن تصبح كونية. ومن المعروف، أيضا، أن للمفهوم مجاله المعرفي، الذي يُقرُّ ولادتَه، ويحضن تطورَه ويضمن توطّنه. لذلك، سيكون توظيف أو استعمال المفهوم دون التمحيص في سجل ولادته، ودون تمثّل سياقه وبيئته، ضربا من الفهم غير السليم، حتى لا نقول نوعا من الهذيان، كما هو حاصل لدى الكثير من مستعملي المفاهيم، المشار إليها أعلاه، في مجالنا التداولي المغربي. أما نتيجة هذا الفهم الملتبس فعاقبتها خطيرة على الفكر والمعرفة والسياسة والاجتماع المدني. يستحضر المرء، وبكثير من الحسرة والشفقة، كثافة الاستعمال التي شهدتها بعض المفاهيم والمفردات والكلمات في إعلامنا المغربي لحظة إعادة اكتشافنا ودخولها قسرا إلى دائرة انشغالنا العام، مثل "دولة الحق والقانون". فقد ظلت لسنوات خلال تسعينيات القرن الماضي تلوكها الألسن، وتزكم سماع الجميع، إلى حدّ مَلَّها الجميع وتقزز الناس من سماعها، والأمر نفسه ينطبق على "المفهوم الجديد للسلطة" في بداية ظهوره، وكذلك، مفهوم التناوب ما بين 1998 و2002، و"الانتقال الديمقراطي".. ونلاحظ مؤخرا كثافة تداول مصطلحات "الحكامة"، و"الجهوية الموسعة والجهوية المتقدمة"، و"العدالة المجالية".. وسيأتي وقت ليس ببعيد تدخل هذه المفاهيم والمصطلحات دائرة الملل، وتغدو ضربا من الترف ليس إلا. يقول عبدالله العروي في سياق حديثه عن الحرية، بأنها تبدأ شعارا أو مطلبا يرفعُه الناس، ثم يمثلونها قيمة، ويختبرونها ممارسة، وإذا لم تقطع هذه المراحل الثلاث يتعذر توطينها في الثقافة، والثقافة السياسية للمجتمعات تحديدا. لذلك، يبدو أن مجمل المفاهيم والمصطلحات المشار إليها أعلاه، بقيت سجينة المرحلة الأولى، أي الشعار والمطلب، ولم نتمثلها بعد، لأن التمثل بمدلوله الاجتماعي يحتاج إلى تمحيص وفهم عميق، أما الاختبار فشروطه غير حاصلة حتى نتحدث عنه.. ومن هنا نفهم لماذا لم تتوطّن مفاهيمنا في ثقافتنا السياسية، ولماذا ظلت قواقع جوفاء لدى نخبنا السياسية، ونوعا من الترف الفكري لدى الكثير من باحثينا ومسوقي المعرفة.