"الرشوة، الفساد، المحسوبية، ربط المسؤولية بالمحاسبة"، هذه هي العناوين الكبرى للخطاب الملكي في افتتاح الدورة التشريعية. وهذه العناوين لا تحتاج لا إلى تشريح ولا إلى تحليل لأنها صارت تحصيل حاصل، ومع ذلك هيّا نمر عليها جميعا واحدة واحدة. الكل يجمع اليوم، على أن الرشوة هي الآفة التي تدمر المجتمعات، وهي التي تجر المغرب نحو الخلف رغم محاولات الإصلاح وخطابات المساحيق. فعدالة القضاء المغربي التي طالب بها الملك في خطاب، أول أمس، وضرورة تطبيق الأحكام التي نادى بها في خطاب البرلمان للسنة الفارطة، يغيبان بشكل يجعلان من القضاء المغربي واحدا من أكثر المنظومات القضائية رشوة في العالم. وإلا كيف يذكر ملك البلاد في كل خطاب بضرورة تفعيل العدالة والمساواة في القضاء. أما مسألة إصلاح هذه الآفة برقم أخضر، فهو مضحك حتى لا نقول إنه يريد تمويه المغاربة، لأننا أدرى "بخروب بلادنا"، ونعرف كم قضايا عادلة خسرها أصحابها. هذا يحيلنا على النقطة الثانية، وهي بحر الفساد هذا، الذي سيغرق البلاد برمتها والجميع يتفرج وبشكل عاجز دون أخذ المبادرة، إذ كل واحد ينتظر المبادرة من الآخر. شخصيا سألت رئيس الحكومة سعد الدين العثماني مرتين عما سيفعله لمحاربة الفساد، فصُعقت لتركيزه على دور المواطن أكثر من زجر الدولة. وعندما قلت له إن الصحف المغربية تعج بقضايا فساد كبيرة بالحجة والدليل، ووضعت بين يديه نموذجا لتلك الفضائح وبطلها اسم معروف، قال ببرودة الطبيب النفسي إن على النيابة العامة أن تقوم بعملها، وهو لا يعرف أن الأخيرة وضعت الملف في درجها وانصرفت لأشياء أخرى، وسنرى ما سيفعله عبدالنبوي هو الآخر في هكذا ملف وآخرون. إن معضلة الفساد لن تُحل إلا بتفعيل القانون بشكل صارم، والملك تحدث عن الصرامة بنبرة حادة، وهنا نعود لمن سيطبق هذا القانون إذا كان القضاء الموكول له ذلك خرج من الخيمة "مايل". هكذا يبدو المغرب تائها في دائرة مغلقة ولن تقوم له قائمة دون قضاء نزيه يضع المتقاضين على المسافة نفسها، ولا يجهض حق طرف لمحاذاة جهة أخرى من بوابة "عدم الاختصاص". النموذج الآخر الذي يكسر الدينامية الاقتصادية للبلد، هو الصفقات العمومية. فهناك موظفون صاروا من أثرياء البلد دون أن يجدوا من يطرح عليهم سؤالا بسيطا: من أين لك هذا يا هذا؟ واهم من يعتقد أن قانون الصفقات قد وضع حدا لمحيط الفساد الذي يغمرها. ففي الشكل قننت الأمور، لكن في الجوهر لم يتغير شيء، وهكذا صارت صفقات تسري على "الحبايب" بأقل عرض، لكن بعد ذلك يتم اللجوء إلى المصاريف التكميلية، خارج المسطرة، حتى يصبح المبلغ الإجمالي الضعف، وأحيانا أكثر. وقد قلناها مرارا وتكرارا، لو كانت للدولة إرادة حقيقية لوضعت مسطرة خاصة لمراقبة الصفقات الكبرى، وابدؤوا من العاصمة، حيث ترسو صفقات الأشغال العمومية بمئات الملايير على الشركة نفسها منذ سنوات ولا أحد كلف نفسه التساؤل، كيف ولماذا؟ ويمكننا أن نستفيض في سرد هذا النوع من النماذج، لكن لا حياة لمن تنادي. أما بخصوص المحسوبية، فالمغاربة كلهم يعرفون كيف أنها صارت العملة الوحيدة الكفيلة بتحقيق ركوب المصعد الاجتماعي، ولعل نموذج الوزيرة التي أرادت أن تمرر لزميلها في الحزب صفقة بمليار ونصف يتكلف بها مكتبه، الذي لم تمر على إنشائه سوى أسابيع، لهي أكبر دليل على أنه لا أمل يُرجى من بعض المتسلطين على الطبقة السياسية، وأن فشل رئيس الحكومة في إقالة هذه الوزيرة، هو فشل للسياسة ككل. تبقى النقطة الأخيرة وهي ربط المسؤولية بالمحاسبة، ولعلها العبارة، التي جاء بها دستور 2011، الأكثر استعمالا، لكنها تبقى دون أدنى تطبيق. ففي مشهد سريالي خطير طبع فيه المغاربة مع الفساد، صار عاديا أن ترى رئيس بنك عمومي متابع باختلاس أموال عمومية يرفض تلبية دعوات قاضي التحقيق، وفي الوقت نفسه يدير أعماله بكل حرية، كما أن المدير العام لمؤسسة عمومية كان سببا في إفلاسها يواجه تهما ثقيلة بالاختلاس، يمارس رياضة المؤلف ويلتقي كبار المسؤولين بمن فيهم الأمنيون دون أن يحاسبه أحد. ولعل هذين النموذجين هما الصورة الحقيقية لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة ببلدنا. وكل عام والمغرب أجمل بلد في العالم!