لمْ يخامرني أدنى شك في أن المستوى القانوني للأستاذ عبد العزيز النويضي جيد، فقد استمعت إليه وقرأت عديدا من مداخلاته لكن الشك ساورني لمّا طالعتنا الصحف الوطنية بمشروع يبغي واضعوه من ورائه مراقبة الأحكام القضائية، ووجدت الأستاذ النويضي يرحب بالفكرة، بل ويقول: «إن الكثير من الأحكام يلزمها التعليق، وإن هناك أحكاما تكتب بالأرجل وليس بالأيدي، وإن وزير العدل رحب بالفكرة وقال لي «تبارك الله عليكم، لكن خذوا احتياطاتكم وامنحوا القاضي الفرصة من أجل الإدلاء برأيه. وإن الأحكام عندما تصدر تصير ملكا للعموم»، وقد ذكرتني فكرة المشروع بأغنية المطربة نانسي عجرم «شَخْبَط شَخَابِيط». وتتضح معالم هذه الشَّخْبَطَةْ في ما يلي: أولا: الحكم القضائي هو عنوان الحقيقة، قد لا يدركها القاضي الابتدائي فيتداركها قاضي الاستئناف، ثم قاضي النقض باعتباره الحريص الأول على التطبيق السليم للقانون، خارج هذا الإطار لا يمكن مباركة الأحكام القضائية أو تعديلها أو إلغاؤها، وهي مبادئ درسناها في السنة الأولى من كلية الحقوق. ثانيا: الأحكام القضائية نسبية وتهم الأطراف الذين يملكون الطعن فيها بل والتظلم بشأنها، ولا حق لسواهم في مراقبتها فهم في حكم الفضولي. هم يستطيعون أن يتظلموا لدى المفتشية العامة أو الجهات التي حددها القانون، لكن أن يقولوا إنها صائبة أو مخطئة فهذا شأن قضائي صرف. ثالثا: القاضي لا يقبل التنويه أو التوبيخ على حكم أصدره، فهذا السبيل مدعاة للمساس بمبدأ استقلال القاضي، ولذلك عندما نوه وزير العدل المصري بالحكم قضائي الذي أصدره أحد القضاة بأرض الكنانة تلقى منه الرّد التالي: «لا أقبل أن أسمع منك مزحا، لأنني متى فعلت سمحت لك بتوبيخي!». رابعا: إن من يؤاخذون الأحكام على عدم مصادفتها للصواب هم عموما من لا تصدر لفائدتهم، فالمواطن يقبل بالحكم الصادر لفائدته لو كان مخطئا، وقلة قليلة هي من تنتصر للحق! خامسا: نعت الأحكام بالجور والظلم والفساد وما شابه ذلك من أساليب القدح، يجرمها القانون، والسبب في ذلك أن هناك طرق الطعن العادية وغير العادية المتاحة قانونا. سادسا: هل ينصب واضعو المشروع أنفسهم بمثابة قضاة النقض للقول بفساد هذا الحكم أو ذلك. سابعا: في القانون المغربي أسباب التجريح والمخاصمة وإعادة النظر يدخل فيها تدليس القاضي، والقانون الجنائي يشدد عقوبة القضاة والعدول عند الإخلال بمهامهم، وهذه نصوص صريحة في هذا الباب. ثامنا: وجهة نظر القاضي في النازلة المعروضة عليه هي حكمه القضائي، ولا يجوز لأصحاب المشروع أن يستفسروا لماذا حكم هكذا أو هكذا، نعم لمن تضرروا لهم سلوك الطريق القانوني المتاح قانونا بما فيه التشكي، أما إذ ننصب لمراقبة الأحكام القضائية جهة غير قضائية فهذا إجهاز على استقلال القضاء حقيق. تاسعا: من بين أوراش مشروع إصلاح منظومة العدالة النجاعة القضائية، التي تعني إقامة التكوين على أسس ثابتة من مرحلة العهد العام للقضاء إلى مرحلة النقض وسد الثغرات والفراغات والتجاوزات التي تمس هذه النجاعة، التي هي السبب الرئيس لتدني مستوى العمل القضائي. عاشرا: الأحكام تصدر باسم جلالة الملك في جميع مراحلها، ولها مكانتها، ولا يجوز نعتها بأقبح النعوت والتشهير بمصداقيتها. نعم يحق لجهة الاختصاص، وهي المفتشية العامة التي ستصبح أداة بيد المجلس الأعلى للسلطة لتقويم الاعوجاج، أن تراقب الأحكام، أما إذا سمحنا لغير هذه الجهة بمراقبة الأحكام القضائية فهو تجاوز للاختصاص قد يعرض صاحبه للمساءلة. أحد عشر: إذا كان أصحاب المشروع يجدون في أنفسهم الكفاءة والنبوغ الخارق للبت في النوازل فبدلا من لعب دور مراقبة الأحكام القضائية يمكنهم أن يقدموا طلباتهم ليصبحوا قضاة بمحكمة النقض لتقويم ما يرونه اعوجاجاً أو فساداً أو ما سوى ذلك. اثنا عشر: إن معضلة تراجع الاجتهاد القضائي كامنة في طريقة تصريف العمل القضائي في المحاكم، وفي إسناد مهام التأطير إلى غير القادرين على التأطير، ولأسباب أخرى لا داعي لذكرها، وبدلا من إحداث لجنة لمراقبة الأحكام القضائية، يجب التفكير في إحداث خلية لمراقبة كيفية اختيار الأطر القضائية الكفيلة برفع مستوى الأداء القضائي. ثلاثة عشر: لا جرم أن المضي في فكرة مشروع مراقبة الأحكام القضائية سوف يشجع ذوي الضمائر السيئة على التأثير على عمل القضاة. أربعة عشر: إن تطبيق النصوص القانونية هو الكفيل لوحده بمعالجة ما يشوب الأحكام القضائية من عوار، سواء في إطار إصلاح الأخطاء المادية طبقا للمادة 26 من «ق م م»، أو إعادة النظر أو النقض أو التشكك المشروع أو المخاصمة أو تجريح هذه المواد التي كنت آمل أن يتفضل الأستاذ عبد العزيز النويضي بقراءتها، فهي كفيلة بسد الذرائع. خمسة عشر: إن الدستور المغربي تحدث عن الخطأ القضائي، فهل هناك أكثر من الدستور. ختاما: مشروع الأستاذ الجليل عبد العزيز النويضي تنطبق عليه قولة للبريطانيين مفادها أن كثرة الطباخين تفسد الأكل، والمغاربة يقولون: «كثرة المراود كتعمي العين»! ويضيفون: «زيد الماء زيد الطحين».
رئيس المنتدى المغربي للقضاة الباحثين [email protected]