تبدو «الدوزيم» اليوم مثل شيخ فقد الكثير من وهج الشباب رغم أنها احتفلت أول أمس بعيد ميلاده ال25 فقط. فبعد أن أحدثت ما يشبه الثورة في الحقل السمعي البصري المغربي، في التسعنياتتحولت فيما بعد إلى مجرد منبر للتسلية المكلفة. أكثر من مجرّد رقم إضافي في لائحة طويلة من القنوات التلفزيونية المتزاحمة في الأقمار الاصطناعية، كانت القناة الثانية (دوزيم) حلما حقيقيا لجيل كامل من المغاربة، ممن وجدوا أمامهم، وبشكل مفاجئ، نافذة مختلفة، يطلّون منها على أنفسهم وعلى العالم، في وقت كانت جميع نوافذ الإعلام والسياسة مقفلة بمفاتيح صدئة. القناة الثانية هي عند جلّ المغاربة المزدادين قبل عقد التسعينيات، طيف جميل كانوا ينتظرونه بكثير من اللهفة، في فترات البث «بالواضح»، أي دون تشفير، وأكثر من طبعت هذه القناة شخصياتهم وفكرهم وتطلّعهم إلى المستقبل، أولئك الذين كانوا يحلمون بمغرب آخر، غير مغرب الظلام والقمع والانغلاق الذي ساد طيلة عقود حكم الراحل الحسن الثاني. السياق الذي نشأت فيه قناة «عين السبع»، المحتفلة هذه الأيام بذكرى مرور ربع قرن على ميلادها، اتسم بالطبيعة الاستراتيجية لفترة الثمانينيات، وما رافقها من رهانات دولية ومغربية، وما ميزها من صفقات مع فرنسا الاشتراكية التي اقتضت سياسة الدولة المغربية حينها الاقتراب منها، ومخاطبة حساسيتها لقلب التوجه الذي كان ينذر بأنه سيكون معاكسا لمصالح المغرب في ما يخص ملفات حساسة. هكذا جاء إحداث القناة التلفزيونية الثانية.
حلم جميل «في تقديري، عندما ظهرت القناة الثانية كانت بمثابة نقلة نوعية في تلك المرحلة التاريخية، وأتاحت حرية كبيرة في التعبير، خاصة أن مرحلة تأسيسها كانت تتسم بقمع حرية التعبير ووجود قناة تلفزيونية واحدة»، يقول الخبير الإعلامي والقانوني علي كريمي، مضيفا أن ظهور هذه القناة كان «شيئا جديدا أتاح هامشا كبيرا أمام المجتمع، خاصة من خلال بعض البرامج الشهيرة للنقاش، ولعبت بذلك هذه القناة دورا كبيرا في ما يسمى بمرحلة الانفتاح التي نهجها الملك الراحل الحسن الثاني، وانعكاسات النظام العالمي الجديد لما بعد انهيار المعسكر الشرقي، وشكّلت بذلك هذه القناة جزيرة مغربية وسط بلقنة إعلامية عالمية متنامية». طيف كبير من النخبة السياسية والثقافية بالمغرب يستعيد، كلّما تعلّق الأمر بالقناة الثانية، تلك اللحظات «الثورية» التي عاشها المغاربة وهم يتابعون برامج حوارية ونقاشات غير مسبوقة في فضاء عمومي. لحظات كان أبرز أسمائها، الإعلامية المغربية الشهيرة فاطمة الوكيلي، التي كانت أول امرأة مغربية تخوض غمار قيادة جولات من النقاش السياسي العاصف والحارق، وتمكّنت من بصم ذاكرة مجايليها ببرامج من قبيل «رجل الساعة» و«برنامج خاص»، اللذين كان موعد بثهما حدثا سياسيا في مرحلة كان الملك الراحل، الحسن الثاني، يحاول فيها نزع صورة الملك الدكتاتور المنغلق عنه وعن دولته. فكرة تأسيس هذه المؤسسة الإعلامية الجديدة كانت قد ظهرت قبل سنوات من عقد التسعينيات، وتحديدا سنة 1971، حيث تتحدث وثيقة أنجزتها المديرية العامة للإذاعة والتلفزة المغربية، في إطار دراسة المخطط الخماسي، عن «ضرورة إنشاء قناة تلفزيونية ثانية على المدى البعيد، بهدف منح المتلقي اختيارا أكبر بين البرامج التي يستقبلها». وكان هذا المشروع يندرج ضمن أفق استراتيجي لانفتاح المملكة على محيطها الإقليمي والدولي، حيث كان المغرب يسعى إلى تحقيق تقارب أكبر مع منظمة الاتحاد الأوربي الآخذ في التوسع وإرساء مؤسسات اندماجه وتكامله الاقتصادي. وتعزز هذا المشروع بعد نجاح تجربة إذاعة البحر الأبيض المتوسط في تحقيق أهدافها السياسية والإعلامية، وهو ما تجسّد في انتقال بعض صحافيي هذه الإذاعة إلى القناة الجديدة.
قناة «تزعج» طبيعة القناة في بداياتها كقناة للبث وليس الإنتاج لم تمنعها من الاصطدام المبكر بجدران المجال السياسي وإكراهاته، وكان أبرز ضحايا هذا الاصطدام، صحافي القناة السابق أنس بوسلامتي. هذا الأخير يتذكّر، في آخر حواراته الصحافية، كيف أن استضافته للسفير العراقي بالمغرب في عام 1993 أثارت غضب سفير دولة الكويت، وهو ما جعل الملك الراحل الحسن الثاني يبعث مدير المخابرات الخارجية، الجنرال عبد الحق القادري شخصيا، للتحقيق معه في هذه الواقعة، ودام التحقيق مع صحافي القناة أسبوعا كاملا، انتهى بطرده من القناة. بوسلامتي يتذكّر محطات أخرى غضب فيها الملك الراحل من قناته الجديدة، مثل تلك النشرة الإخبارية التي تحدّثت عن سقوط أكثر من 100 قتيل في إضراب فاس الشهير سنة 1990. اتجهت الفكرة في البداية نحو إقامة قناة تلفزيونية عمومية ثانية تتجاوز قصور القناة الأولى، وتم إنشاء استديوهات ومحطات للإرسال بمدينة الدارالبيضاء، لكن عجز الدولة عن توفير الموارد المالية اللازمة حال دون المضي قدما في إطلاق القناة، لتنبعث الفكرة من جديد بواسطة دراسة جديدة أنجزتها منظمة اليونيسيف، ليحال الموضوع على «سوفيراد» الفرنسية، الهولدينغ الذي ينسق تدخل الدولة الفرنسية في السمعي البصري. وعلى أساس هذه التطورات، تم تأسيس شركة الدراسات والإنجازات البصرية «soread» سنة 1987 للإشراف على هذا المشروع، برأسمال يتراوح بين 600 و700 مليون درهم، وذلك بعد أن أثبتت تجربة «التلفزة تتحرك» الشهيرة أن التلفزة العمومية تحتاج إلى نفقات لا قبل للميزانية العمومية بتحملها من أجل أن تتطور. ويتم التوقيع على اتفاق مع شركة «صورياد» في العشرين من فبراير 1988، حيث حصلت على تفويت مدته عشرون سنة للقيام بخدمة تلفزيونية بصفتها شركة خاصة، بناء على دفتر تحملات لم يتم الكشف عن كامل مضمونه. لكن من بين بنوده المعلنة، أن الشركة ملزمة بالعمل على تغطية أوسع رقعة ممكنة من التراب الوطني، وتقديم ساعات إرسال بالواضح، وتشجيع الصناعة السمعية البصرية، وإبراز المواهب المغربية، كما ينص على ضمانات وتسهيلات لفائدة المحطة.
الوصفة المالية.. أول فشل كانت شركة «صورياد» تتألف من مساهمين مغاربة يسيطرون على 51% من رأسمالها (الهولدينغ «أومنيوم شمال إفريقيا» ب16%، والبنك المغربي للتجارة الخارجية، والبنك المغربي للتجارة والصناعة، وشركات التأمين: «الوطنية» و«الأمان» و«لاصوميد»، بالإضافة إلى المكتب المهني المغربي للتقاعد وشركة «لاصابار»)، بينما توزعت نسبة ال49% المتبقية بين مساهمين فرنسيين وكنديين (قناة «تي إف 1» وشركة «صوفيراد» والمجموعة الكندية «فيديوترون ميتروبول»، بالإضافة إلى المجموعة الأنجلوساكسونية للاتصال «ماكسويل» و«تي إف 1» للإشهار). انطلق بث القناة يوم 4 مارس 1989، وبات للمغاربة قناة تلفزيونية ثانية تحمل اسم ورمز 2M، تبث 15 ساعة يوميا، منها خمس ساعات بالواضح، واقتصر البث في البداية على رقعة محدودة لا تتعدى مدن البيضاء والرباط وفاس ومكناس ومراكش، معتمدة بالأساس على عائدات الإشهار بنسبة 80% من مصادر تمويلها، مقابل 20% فقط من مداخيل الاشتراكات. فكانت أولى مشاكل البدايات عدم كفاية الموارد المالية نظرا إلى ضيق السوق الإشهارية وعدم انتظام الاشتراكات، ليتم اللجوء إلى رفع رأسمالها من 300 مليون درهم إلى 450 مليونا. وكان للشركاء المغارب نصيب الأسد من هذه المساهمة. لكن ذلك لم يكن كافيا، حيث سرعان ما تدهورت الأوضاع المالية للقناة، كما سجل نقص كبير في جودة البرامج وعدم تلبيتها لرغبات الجمهور المغربي؛ بالإضافة إلى معاناتها من القرصنة ومنافسة قنوات أخرى مثل قناة «إم بي سي»، وعدم الانضباط للقواعد المهنية للإشهار. وكنتيجة حتمية لم يكن للوضع القانوني للقناة أن يستمر أكثر من سبع سنوات، حيث ستبادر الدولة المغربية إلى التدخل لإنقاذها من الإفلاس، المترتب على ضعف السوق الإشهارية وعدم نجاعة نظام الاشتراكات والبث المشفر؛ وتسيطر بذلك الدولة على 70% من رأسمالها، تحت غطاء قانوني عنوانه «صعوبات المقاولة»، ومقابل ذلك، تم فك تشفير القناة وبات بثها واضحا بالكامل. وتزامن هذا «التأميم» مع إحداث مراكز جديدة للإرسال مكنت من رفع نسبة تغطيتها للسكان إلى حوالي 80%، كما رفعت من ساعات البث لتصل إلى 24 ساعة، كما أحدثت في مارس 2002 إذاعة 2M والقناة التلفزية الدولية 2M maroc عبر الأقمار الاصطناعية في أوربا وإفريقيا والشرق الأوسط. فعادت بذلك الدولة إلى بسط كامل نفوذها على التلفزيون المغربي، لكن ذلك كله لم يمنع انتزاع القناة بعضا من رضا المشاهدين لتقديمها منتوجا إعلاميا يختلف عما تقدمه القناة الأولى.
وهج يخفت «سرعان ما بدأ وهج القناة في الخفوت تدريجيا، ولم تلعب في بدايات الألفية الثالثة، وما يعرف إعلاميا ب«العهد الجديد»، نفس الدور الذي لعبته في بداية التسعينيات في عهد الحسن الثاني، وبدأ الضعف يدب في أوصالها شيئا فشيئا، باستثناء بعض البرامج مثل «في الواجهة» الذي كانت تقدمه مليكة ملاك»، يقول علي كريمي، مضيفا أن هذا الضعف تزايد في المرحلة الأخيرة، «حيث تحوّلت إلى قناة عادية، ولست أدري ما إن كانت بعض نقط الضوء التي تظهر حاليا، بداية لاستعادة القناة لوهجها السابق». في كنف الدولة، أخذت قناة عين السبع تتحوّل تدريجيا إلى واجهة إعلامية جديدة للدولة، باطنها لا يختلف كثيرا عن شقيقتها الكبرى، دار البريهي، وتباعا أخذ رواد القناة ومؤسسوها يغادرون نحو آفاق إعلامية أرحب أو أكثر تقديرا لكفاءاتهم المهنية، فيما كان مصير آخرين الإيداع في «الكراج» والإبعاد من الواجهة، سواء في الأخبار أو في البرامج. كانت الوصفة الجديدة للقناة هي تحويلها إلى قناة رسمية بواجهة عصرية، توابلها القرب والاهتمام بالجهات والمناطق النائية، وعمادها الدفاع عن «مشروع مجتمعي» يقدّم نفسه على أنه حداثي ومناهض للمعسكر المحافظ، خاصة منه معسكر الإسلاميين. خيار تحريري حوّل القناة إلى إحدى جبهات الحرب بين الدولة ومن حملهم المد الإسلامي إلى الواجهة السياسية، وفي مقدمتهم حزب رئيس الحكومة الحالي عبد الإله بنكيران. هذا الأخير، وبعدما كان بطل انتفاضته الشهيرة تحت قبة البرلمان أيام كان نائبا في المعارضة، على اللباس الذي كانت ترتديه إحدى مصورات القناة؛ لم يتردّد يوما، حتى بعد اعتلائه رئاسة الحكومة، في كيل الاتهامات للقناة، وتحديدا لمديرة أخبارها، الشهيرة سميرة سيتايل. توتّر جعل القناة تصبح في صلب مشاريع الحكومة «الإصلاحية»، خاصة في محطة دفاتر التحملات الجديدة. وبعدما ظلّ بثّ الأذان يقتصر فيها على أذان صلاة المغرب خلال شهر رمضان من كل سنة، لتزامن هذا الأذان مع فترة ذروة المشاهدة التلفزية واحتدام المنافسة بين القناتين العموميتين؛ باتت القناة الثانية «دوزيم» مُلزمة ببث أذان الصلوات الخمس يوميا، ووقائع صلاة الجمعة وصلاة العيدين. ولا يقتصر الأمر على القناة الثانية، بل يشمل المقتضى، التي تضمنه دفتر التحملات الجديد الخاص بشركة «صورياد دوزيم»، حتى «إذاعة دوزيم» المعروفة ببثها للموسيقى أكثر من أي مواد إعلامية أخرى.ويفيد المقتضى الجديد الذي أضافه وزير الاتصال، مصطفى الخلفي، إلى بصماته المتميزة في دفاتر التحملات الجديدة للقنوات العمومية، أن القناة الثانية التي لم تعمل على بث أذان الصلوات منذ تأسيسها قبل عشرين عاما، أصبحت ملزمة ببث أذان جميع الصلوات بما فيها صلاة الصبح. فيما علمت «أخبار اليوم» أن موضوع الوصلات الإشهارية لألعاب «اليانصيب» و«القمار»، كانت موضوع خلاف عاصف بين الوزير الجديد، مصطفى الخلفي، والمدير العام للقناة الثانية، سليم بنشيخ، بعد رفض هذا الأخير التنازل عن العائدات المالية التي تحققها قناته من هذه الوصلات، ليدفع الوزير في البداية باستعداد الوزارة تعويض القناة عن هذه العائدات، ثم عاد ليضيف للقناة دقيقتين من الحصة المسموح لها بها من الإشهار، تعوضانها عن «خسائرها» الناتجة عن توقف وصلات «القمار».
الأولى في المغرب فقط الأرقام النهائية الخاصة بسنة 2013 في مجال نسب المشاهدة تكشف عن تحوّل القناة الثانية (دوزيم) إلى أكثر القنوات التلفزيونية المغربية انتشارا، حيث سجّلت ارتفاعا في أعداد مشاهديها، منتقلة من أقل من مليوني مشاهد في فترة الذروة في العام 2012، إلى أكثر من مليونين ومائة ألف مشاهد. في المقابل، غاصت قنوات فيصل العرايشي أكثر في ذيل الترتيب الخاص بالقنوات الوطنية، وفقدت مزيدا من المشاهدين، حيث انتقل عددهم في فترة الذروة من مليون و650 ألف مشاهد، إلى أقل من مليون ونصف مليون مشاهد. استحواذ «دوزيم» لوحدها على قرابة 26 في المائة من نسبة المشاهدة، لا يعني بالضرورة نجاتها من غزو الفضائيات الأجنبية. فحوالي 60 في المائة من المشاهدين المغاربة يفضلون متابعة برامج وأفلام ونشرات إخبارية تبثها قنوات فضائية أجنبية، مقابل حوالي 40 في المائة الذين يتوزّعون بين جميع القنوات التلفزيونية المغربية. وأكثر الفئات مساسا بهذا «الاستلاب» الإعلامي، حسب أرقام «ماروك متري»، هي فئة الشباب المتراوحة أعمارهم بين 15 و24 سنة، حيث تبلغ نسبة الذين يشاهدون قنوات أجنبية منهم 61.2 في المائة؛ وهي الفئة التي تقدّم قناة عين السبع نفسها على أنها متخصصة فيها، وتحوّلت من أجلها إلى قناة للترفيه والتسلية أكثر منها قناة للإخبار والتثقيف. فقد تربّعت الكوميديا على رأس قائمة ترتيب البرامج الأكثر مشاهدة في قناة عين السبع، حيث احتلّت سلسلة «جار ومجرور» المرتبة الأولى بقرابة 10 ملايين مشاهد، متبوعة ب«الكاميرا المجنونة» التي تجاوز عدد مشاهديها التسعة ملايين. النقاش العاصف حول دفاتر التحملات هذه، غيّب الوضعية المالية للشركة التي تتبع لها القناة، أي شركة «صورياد دوزيم». هذه الأخيرة توجد في حالة تجعلها وشيكة الإفلاس كل سنة، حيث انخفض رأسمال الشركة في السنة الماضية بنسبة 92 في المائة، أي أنه انتقل من أكثر من 300 مليون درهم، إلى نحو 24 مليون درهم فقط. وكان أحد الاجتماعات الأخيرة لمجلس إدارة شركة «صورياد دوزيم» سيعرف إعلان مسؤولي الشركة إفلاسها، قبل أن يأتي النقاش حول دفاتر التحملات و«النموذج الاقتصادي» لقناة عين السبع ليغطي على هذا الواقع، فيما تم تمديد عمر القناة في سنة 2010، حين وقعت الدولة اتفاقية برنامج مع الشركة، حصلت بموجبها على دعم الدولة من أجل الاستمرار في الوجود. وجاء هذا التدخل العمومي لدعم القناة لأول مرة منذ تأسيسها في العام 1989.