تأملت مؤخرا إعلان أحد السلفيين تكفير إدريس لشكر ردّا على مطالبته بالمساواة بين الرجل والمرأة في الإرث، ومنع تعدد الزوجات، وتجريم زواج القاصرات. محمد بوبكري
بداية، لا يمكنني إلا أن أندد بكل أشكال التكفير وأعمال العنف والإرهاب التي قد تمارس ضد أي إنسان، بغض النظر عن دينه أو مذهبه أو اتجاهه الفكري أو جنسه أو لونه... لكن هذا لا يعفينا من التأمل في طبيعة هذه القضية كما جرت أمامنا وتداولتها الألسنُ بعد ذلك. تجدر الإشارة إلى أنَّ قضايا الإرث والطلاق وزواج القاصرات... هي قضايا ثقافية أساسا، لأنها تقتضي تغيير العقليات، وهذا مما لا يمكن تحقيقه بين عشية وضحاها، لأنه يتطلب مجهودا فكريا وعملا على واجهات عديدة، في مقدمتها التربية والتعليم، وقدرات تواصلية كبيرة، ووقتا لا يُستهانُ به لدحض التصورات الفكرية التي لم تعد تواكب العصر، والتي لا تمت بصلة إلى روح الدِّين، لكنها ترسَّخت عبر قرون نتيجة سيادة الخطاب الفقهي المستبد في ثقافتنا. لذلك، لا يمكن اعتبار هذه القضايا سياسية بالدرجة الأولى، لأنها تدخل أساسا ضمن انشغالات المثقفين والباحثين والفقهاء المستنيرين..، فهم الوحيدون القادرون على تمكين المجتمع من القطع مع التصورات السالفة عبر إحداث تحول في وعينا الجماعي... بالتالي، يبدو لي أن إدريس لشكر قد انخرط في معالجة قضية لا يعرف طبيعتها وغير مُلِم بها، وليس هذا بغريب عنه؛ فهو من الناس الذين يستسهلون كل شيء، ما يجعله لا يتردد في التحدث في كل شيء، مدََّعيا إلمامه بشؤون الدنيا والآخرة على السواء. والسؤال الذي يفرض نفسه هو: لماذا تكلم فيما لا يعرفه؟ ولماذا يطالب بشيء دون أن يتملك القدرة على تقديم حجج على صواب ما يدعو إليه؟ ألا يبعث ذلك الشك في نفوس الناس؟ ألا يؤدي غياب الحجة والدليل إلى جعلهم ينظرون إلى كلامه بكونه مجرد حديث لغو ليس إلا؟... تتطلب مناقشة مثل هذه القضايا معرفة بالنص القرآني وبالتاريخ والمجتمع..، من أجل القدرة على تطوير حجج للإقناع، وهو ما لا يمتلكه إدريس لشكر، فكانت النتيجة أنه لم يؤسس ما قاله على شيء، ولم يقدم أي دليل ولا حجة على مطلبه. فكيف يمكن للناس أن يقتنعوا بأنه يعي ما يقول؟ ألا يعني نطقه بما لا يفهمه أنه غير مقتنع به؟ وإذا كان الأمر كذلك، ألا يكشف غياب قناعته بما يتفوه به أنه لا يمتلك إرادة إنجازه؟... ومن الأدلة على صحة ما أقول، أنَّ هذا «الزعيم» قد امتنع عن الإجابة على أسئلة الصحفيين المتعلقة بهذا الموضوع، كما رفض كل عروض الاستجوابات معه، في الموضوع، التي تقدمت بها إليه بعض وسائل الإعلام. إن الذي لا يفكر لا يمكنه أن يقود، إذ لكي تكون المطالب والقرارات مقنعة ينبغي لها أن تقوم على معرفة. ومن يمارس السياسة بعقلية «عامية» يكونُ غير منخرط في روح العصر. وكل ما يكون في الأمر هو أنه يتوهم أنه يمارسُ السياسة، دونَ أن يعي أنه إما يقعُ خارج دوائرها أو أنَّ دوائرها قد دارت عليه. لا يعي هذا الزعيم أن القرارات المبنية على الفراغ المعرفي تقتل صاحبها، لأنه لا حياة ولا إصلاح بدون معرفة. أضف إلى ذلك أن الفقر المعرفي يقود إلى الإستبداد، ويجعل صاحبه يعجز عن الإدراك السليم للواقع، فيقفز عليه، وينتحر. إن ممارسة السياسة ليست لعبة «نرد»، بحيثُ يقبَلُ المرءُ نتيجتها أيا كانت، ويستوي الربحُ والخسارة، فالسياسي المسؤول لا يقامر بمصير وطنه ومجتمعه وحزبه... لذلك، فالطريقة التي اتبعها هذا الزعيم في دعوته إلى المساواة بين الرجل والمرأة لا تخدم إلا السلفيين، لأنه سهَّل عليهم مواجهته ونسف مطلبه من الأساس وإبطال المفعول «الإيجابي» المفتَرَض لخطابه. بل أكثر من ذلك، فقد أساء إلى مبدأ المساواة بين الجنسين... ثمَّ إن أسلوب طرحه للمشكلة لن يؤدي في الظروف الراهنة إلا إلى إثارة الصراع الطائفي، ما يهدد الاستقرار، لأنه لن يساهم إلا في إعادة إنتاج الفتن التي تفتك حاليا ببعض بلدان الشرق الأوسط... لم يستشر إدريس لشكر أجهزة حزبه في ما طرحه، بل إن بعض أعضاء حزبه صرحوا أمامه بأنهم لا يتفقون معه في التوقيت الذي اختاره له، لأن ذلك يقتضي التمهيد له بخلق حوار داخل المجتمع، الأمر الذي سيخلق شروط نجاحه... يرى بعض الملاحظينَ أن المنهجية التي اعتمدها إدريس لشكر في التطرق إلى مسائل تعدد الزوجات والإرث... تبين أنه لا يفهم أن هذه المسائل هي نتاج للدولة المدنية. لذلك عليه أن يطالب أوَّلا بإقامة هذه الدولة، من خلال المطالبة في الوقت الراهن بإجراء إصلاح دستوري. لا يمكن لدعوة إدريس لشكر أن يكون لها أي صدى في أوساط حزبه، ولا في أوساط اليسار، لأنه يسعى إلى الاستئثار بكل شيء عبر تدبير حزبه بأسلوب استبدادي ضدا على القانون الداخلي للاتحاد. وبهذا فهو لا ديمقراطي ولا حداثي، ودعوته هذه تتعارض جذريا مع ممارسته. يتطلب الخوض في مثل هذه القضايا أن يتوفر الحزب على مؤسسة للدراسات تمده بمعارف يبني عليها برامجه ومشاريعه ومطالبه... كما يتعين على الحزب القيام بدراسة لقيم الدولة والمجتمع المغربيين من خلال برامج التعليم والإعلام والمجتمع، ذلك أننا ما زلنا مجتمعا تقليديا في ثوب حداثة شكلية، والعبء الأكبر هنا هو كيفية إخراج الدولة والمجتمع من براثن التقليدانية، وهو ما يتطلب وضع مشروع فكري ومجتمعي متكامل وواضح.. عوض أن نجعل الأمر مجرد مزايدات سياسية محكومة بالظرفية، قد لا تخدم المشروع المجتمعي للحزب إن كان هذا الزعيم يتوفر على مشروع أصلا. عندما صارح بعض أعضاء اللجنة الإدارية للحزب هذا الرجل بأنه لا يمتلك أي مشروع أو بديل أو جواب على مشكلات مجتمعنا، أجاب أنه ليس له مثقفون لإنجاز ذلك، دونَ أن يطرحَ على نفسه سؤال: لماذا ترك المثقفون الحزب؟ ألم يكن الإتحاد الاشتراكي دوما حزب المثقفين؟ لماذا غادروه؟ ألا يرى هذا المسؤول أن طبيعة شخصيته وفكره وسلوكه هو ما ينفرهم منه؟... يتهرب إدريس لشكر من طرح المشكلات الاجتماعية الكبرى للشعب المغربي في شموليتها، وبذلك يتملصًُ من المساءلة الجادة للحكومة ومحاسبتها... ومادام لا ينجز أي شيء في الواقع، فإن ذلك يكذب ادعاءاته بممارسة معارضة سليمة... ونتيجة لذلك، فقد بدأ الملاحظون يستنتجون أنه متواطئ ضمنيا مع الحكومة، أو مع من هم وراءها... لقد صرخ إدريس لشكر في البداية مدَّعيا أنَّ السلفيين قد كفروه لتصريحاته، لكنه ما لبث أن احتضن مبتسما «شيخين» لهم يوم ذكرى 11 يناير. أليست هذه مسرحية جديرة ب «يوجين يونسكو»؟! يرى بعض المتتبعين أن حضور هذين «الشيخين» السلفيين في هذه الذكرى التي نظمها هذا «الزعيم» مع شقيقه حميد شباط تطرح أكثر من تساؤل، من ذلك: لماذا حضر هذان الشخصان؟ ومن قام بإصلاح ذات البين بينه وبينهما؟ وما هي أهداف هذا الجمع؟ وكيف تم رتق الهوة بينهما؟ من اعتذر للآخر؟ وما هي التنازلات المقدمة؟ ومن تنازل لمن؟، إلخ. وطالما لم يقدم ما يكفي من التوضيحات حول هذه الأمور، فإن الشكوك والشبهات ستظل قائمة حوله، بل وستزداد... قال إدريس لشكر إنهم كفروه، لكننا لم نسمع صرخات استنكار من رموز الاتحاد الاشتراكي ووجوهه ومثقفيه... ألا ينم إحجام الأغلبية الساحقة من الاتحاديين والمثقفين والسياسيين والنقابيين عن التنديد بالتكفير المزعوم عن أنهم يعرفون خلفيات ادعاءات الرجل ومناوراته...، وأنهم يشكون في الحكاية بمجملها؟ لم تنطل الحيلة على بعض الملاحظين، إذ يرون أنه يسعى اليومَ إلى تقديم نفسه على أنه ضحية لنضاله، لأنه يريد أن يتحول إلى بطل له مصداقية بهدف فك العزلة عنه داخل الحزب وخارجه عبر تلميع صورته. لكن النضال يقتضي التفكير والفعل، لا التحايل والمراوغة... كثيرا ما يعتقد بعض الناس أنه لا مانع لديهم من توظيف الدين للمناورة والتغطية على ما يجري وتلهية الناس عن أوضاعهم المزرية، لكنهم لا يدركون طبيعة الخطاب، لأن هذا الأخير قد يأخذ استقلاله عنهم، ويشكل أساسا لحركة طائفية قد تفتك بأصحاب هذا الخطاب وبالمجتمع والوطن. لا يعرف إدريس لشكر قيمة المعرفة بثقافة المجتمع، وبذلك يغيب عنه أن الدراسات الأنثروبولوجية تنتج معارف حول ثقافات المجتمعات تساعد القوى العظمى على بسط هيمنتها عليها عبر وضع اليد على عوامل زرع الشقاق بينها. فبهذه المعرفة تمكنت القوى المذكورة من التوصل إلى أن البنيات العقلية الطائفية والقبلية قادرة على إشعال نار الفتنة إذا ما تمت إثارتها وتغذيتها، وهو ما فعلته للتمكن من إحكام قبضتها على بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا دون التدخل المباشر في مجتمعاتها، مقتصدة في المال والعتاد، ومتجنبة الخسارة في أرواح مواطنيها، ورابحة أصوات ناخبيها...