حتى لو تشكلت الحكومة هذا الشهر أو الشهر المقبل، وحتى لو تنازل المبعوث الجديد للدولة إلى الحقل الحزبي (أخنوش)، وقبل بالتخلي عن الاتحاد الاشتراكي والتنازل عن دخوله إلى الحكومة، فإن البلاد مقبلة على «قحط ديمقراطي» سيأكل السنوات القليلة التي أعقبت الربيع المغربي، وسيقفل القوس الذي فتحه الدستور الجديد تحت ضغط الشارع سنة 2011. الكتاب يُقرأ من عنوانه، والليلة «الفضيلة» تظهر من العصر.. هكذا يقول المغاربة، على طريقتهم، في استشراف المستقبل. وقائع ال100 يوم من البلوكاج السياسي الذي عشناه، والذي منع الحكومة الجديدة من الخروج إلى العلن عن طريق التحكم في قرار الأحزاب الإدارية، تعطينا مؤشرات قوية على أن التحول الديمقراطي في ورطة كبيرة، وأن الدستور الجديد سيتعرض لقراءة غير ديمقراطية، وأن المقبل من الأيام سيشهد عودة عقارب الساعة المغربية إلى ما قبل 2011، ملكية تنفيذية أولويتها اقتصادية وليست سياسية، في نظام لا تلعب فيه الأحزاب سوى أدوار هامشية .
الفرق الوحيد بين ما يجري اليوم، من التفاف على المنهجية الديمقراطية، وما كان يجري بالأمس، هو أنه في السابق كان يتم فرض السلطوية بأساليب خشنة، الآن يتم توطيد التقليدانية بوسائل ناعمة وعصرية، حيث يجري إخفاء «البلوكاج السياسي» والضغط على بنكيران وراء اختلافات تبدو عادية بين الأحزاب السياسية على تقسيم الكعكة الحكومية، وهو أمر يقع في كل الدول التي تشهد الحكومات الائتلافية، لكن الحقيقة غير هذا تماما. لا يوجد في كل العالم حزب يتبنى حزبا آخر ويحمله فوق ظهره، ويشترط على رئيس الحكومة إدخاله عنوة إلى بيت الحكومة. هذه ليست مفاوضات جادة.. هذا تهريج يخفي نوايا سيئة.
بعض المحللين كانوا يتوقعون هذا السيناريو قبل إجراء انتخابات 2016، وكانوا يقولون إن من المستحيل أن تقبل الدولة ببنكيران لولاية ثانية، وهو الذي أصبح يهدد لعبة التوازنات الموروثة عن الماضي، وبدأ يدخل الرأي العام كشاهد وحكم على ما يجري في كواليس القرار، وكانت قناعة هؤلاء أن التعايش بين السلطة وحزب بنكيران من 2011 إلى 2016 كان اضطرارا وليس اختيارا، وأن حزب العدالة والتنمية، حتى وإن حصل على المرتبة الأولى في الانتخابات، وجرى تعيين زعيمه رئيسا للحكومة، فإن هذا لا يعني أن الطريق ستكون سالكة أمامه لميلاد حكومة جديدة يقودها البيجيدي بوقود السابع من أكتوبر، بل ستكون حكومة هجينة تمشي فوق البيض، ويضطر زعيمها إلى نسيان عدد مقاعده في البرلمان وعدد الأصوات التي حصل عليها في الانتخابات ودرجة شعبيته لدى الرأي العام. حاول بنكيران طيلة 100 يوم أن يقاوم هذا السيناريو، وأن يضع سقفا لما يمكن التنازل عنه وما لا يمكن التفريط فيه، لكنه لم يستطع، إلى الآن، إيجاد توافق مع الدولة ومبعوثيها إليه، لأن العقدة مستحكمة، والمخطط الموضوع للخمس سنوات المقبلة يضيق هامش الحركة أمام الحكومة المقبلة، ولهذا، لا بد من إدخال «المعارضة» إلى الحكومة (لشكر اليوم يتطلع إلى أن يكون حصاة في حذاء بنكيران)، خاصة بعد فشل مشروع البام الذي لم يقض عليه بنكيران، بل قضى عليه المواطنون الذين رفضوا الانصياع لضغوط السلطة. بالعكس، حكومة بنكيران خفضت العتبة، واحتفظت بنظام انتخابي يخدم الجرار، وسكتت عن انحياز السلطة إلى مرشحي العماري. أكثر من هذا، فقد عمد بنكيران إلى خوض حملة انتخابية دون الإشارة إلى التحكم، ودون قصف غريمه الأول إلياس العماري، واكتفى ب«إياك أعني واسمعي يا جارة»، لكن المواطنين سلكوا طريق التصويت العقابي للبام وحلفائه في المعارضة والحكومة معا.
لماذا دخلت الدولة في علاقة «رابح خاسر» مع مخرجات المعادلة السياسية الراهنة، وفي قلبها حزب كبير ومنظم مثل حزب العدالة والتنمية؟ الجواب بسيط وهو أن هناك من أدخل إلى القصر حكاية أن شعبية بنكيران مضرة بصحة النظام، وأن هيمنة حزب المصباح على حقل حزبي شبه فارغ تهديد لقواعد الحكم غير المكتوبة، وأن بنكيران إذا استمر، خمس سنوات أخرى يحرث أرضا خالية، فإن توقيفه غدا سيصير مستحيلا، لهذا، من الأفضل اليوم وضع أكثر من عائق في طريقه، مادامت الأحزاب القديمة والجديدة لم تستطع أن تلعب الدور المنوط بها.
لكن أحدا لم يجرؤ، في داخل جهاز الدولة، على أن يقنع الماسكين بالقرار بأن شعبية بنكيران وقوة الحزب مصدرهما الأول هو الانفتاح السياسي الذي خطه الملك طريقا لمواجهة آثار الربيع العربي، وأن اللياقة السياسية والتنظيمية التي يتمتع بها بنكيران هي نتيجة طبيعية للسباق الذي أطلقه الملك عندما وافق على الفصل 47 من الدستور، الذي يعطي رئاسة الحكومة للحزب الذي يفوز بالمرتبة الأولى في الانتخابات. هذا الفصل من الدستور، ومجمل الإصلاحات المهمة التي دخلت على وثيقة الحكم، أطلقت سباقا مفتوحا في الحقل الحزبي من خلال ربط صناديق الاقتراع بتشكيل الحكومة، وربط الشعبية التي يحوزها زعماء الأحزاب بحصتهم في السلطة، إذن، لماذا سنقول لبنكيران: «اطلع تاكل الكرموس هبط شكون قالها ليك»؟
هناك طريق آخر للتعامل مع مخرجات الانفتاح الديمقراطي غير خنقه في المهد، وإدخال شرعية العرش في مواجهة مع شرعية صندوق الاقتراع. الطريق هو الاحتكام إلى الدستور الذي رسم لكل طرف اختصاصات واضحة، وجعل القرار الاستراتيجي في يد الملك، والقرار التدبيري في يد رئيس الحكومة، وجعل في البلاد مؤسسات للحكامة تمنع أي حكومة، ولو كانت في يدها الأغلبية المطلقة، من أن تعرض المعمار المؤسساتي والسياسي والدستوري والقانوني للخطر أو للانحراف.
هناك محكمة دستورية مسؤولة عن احترام روح الدستور من قبل الحكومة والبرلمان، وهناك مجلس أعلى للقضاء مسؤول عن المؤسسة القضائية واستقلاليتها عن الحكومة في الحد الأدنى، وهناك مجلس أعلى للحسابات مسؤول على مراقبة الصرف وحكامة الإدارة، وهناك مجلس وزاري يرأسه الملك، ويملك الكلمة الأولى والأخيرة في القوانين التنظيمية، وفي التوجهات العامة للقانون المالي، وفي تدبير شؤون الدين والأمن والدفاع والدبلوماسية والتعيينات في المواقع الحساسة. الذي وضع الدستور وضع معه تراتبية قانونية وسياسية لا تخطئها العين، لكنه، في الوقت نفسه، أعطى الحكومة مساحة للحركة من أجل تطبيق جزء من برنامجها، وامتلاك السلطة لمباشرة الإصلاحات والتفاوض مع الشارع ومطالبه ومشاكله .