اعتادت كثير من الأحزاب المغربية التمييز بين خطابين في بسط أفكارها، واحد موجه للشعب والثاني للسلطة. خطاب غير معقول وعجائبي يتوجه للقاعدة، ينزل إليها بحلول من السماء، يحدثها عن فوائد أو دوافع تقنين الحشيش أو عن مضار ذلك، يعدها برفع الدخل، وزيادة فرص الشغل، وبناء معامل ومصانع ومدارس، وتعبيد طرقات في القرى والمداشر، وتنظيم بعض الأسواق، وسد الثغرات والخصاص والعيوب في قطاعات التعليم والصحة والقضاء عبر قوانين ومراسيم أو من خلال تعبئة أموال إضافية في قوانين المالية المقبلة، وينتقد الحكومة وسياساتها. خطاب يجري على لسان السيّاسي بلغة حماسية وسط تصفيقات الأنصار والأناشيد والموسيقى والشعارات، في طقس موسمي خارق، تكتشف فيه الأحزاب، التي كانت بالأمس القريب تشتكي غياب الاجتهاد وضعف الإمكانات وقلة ذات اليد وتتقاذف كرة المسؤولية، فجأة الحلول لكافة أعطاب البلاد. من هذا الخطاب تنتقل الأحزاب عينها إلى تبني خطاب ثان عقلاني أكثر، وحذر وواضح المعاني في حديثها للسلطة والنظام ورجال الأعمال والمتتبعين لخط سير الحزب في الخارج من منظمات وهيآت حكومية ومؤسسات دولية مختلفة. وفي هذا الخطاب الثاني الذي يصرّف بشكل بعيد نسبيا عن أجواء الحملات والتعبئة الانتخابية،- عبر صفحات الجرائد أو من خلال بيانات أو مواقف إزاء قضايا مختلفة-، يتضح أين يقف الحزب من الانتقال الديمقراطي والربيع العربي وسياسات البلاد الكبرى والحركات الاحتجاجية وتأويل الدستور، وماذا ينوي أن يصنع بالسلطة المحدودة التي ستكون بين يديه إن حصل على القسط الأوفر منها، أو شارك في تدبيرها، وفي الغالب ما يكون خطابا مهادنا مسايرا لمزاج السلطة، بل ونسخة وفية لمواقفها من كل قضية من تلك القضايا. وقد بدأت هذه الازدواجية تتحول إلى تقليد مرعي لفترة من الزمن السياسي المغربي المتأخر: الحديث مع الناخب يكون حول التشغيل وتعبيد الطرق والزيادة في الأجر، ومع السلطة حول سقف الإصلاح السياسي، ولا تصح مكاشفة الشعب بحال السلطة ولا مواجهة السلطة بمزاج الشعب. في هذا السياق، شكّل أسلوب الأمين العام للحزب الإسلامي الذي تصدر نتائج الانتخابات التي تلت لحظة الربيع المغربي، تمردا خطابيا. فقد ظل طيلة تجربته الحكومية، حريصا على كسر هذه الازدواجية، وتجسير الهوة بين الخطابين. فمثلا ورغم أنه لم يفصح عن هويتها ولو مرة واحدة، صارت تماسيح وعفاريت بنكيران شخصيات مألوفة ومتداولة في أحاديث الناس ومسلما بمسؤوليتها عن قسط وافر من الفساد. بنكيران ظل يربط تعثر بعض المشاريع أو المخططات التي يعتبرها مبادرات إصلاحية بوجود إرادات تُعاكس الإصلاح، وهي الإرادات التي صهرها في مفهوم "التحكم"، الذي اكتسب قوة دلالية غير مسبوقة، حتى أن البعض حاول تجريد هذا المفهوم من دلالته السلبية وإسناده دلالات إيجابية في تحليل علمي عجيب، يريد أن يخلص بنا إلى الاتفاق مع بنكيران على وجود التحكم والاختلاف معه في أنه مضر بالديمقراطية! وربما يكون هذا الخطاب السياسي الذي ابتعد عبره بنكيران عن الإغراق في الوعود البراقة والكلمات الخشبية، من بين الأسباب التي جعلت العدالة والتنمية يخلق المفاجأة في الانتخابات الجهوية والجماعية العام الماضي، لأنه خطاب أتاح للحزب الحفاظ على نفَسٍ معارض وهو يدبر السلطة. وعموما، ونحن على أبواب موعد انتخابي مهم، ستستمر بعض الأحزاب في إنتاج خطابات يتيمة لا تحرك ساكنا لا في الناس ولا في السلطة، وتراعي واجب التحفظ، وتتهيّب من تحرير القول في السياسة، وهذه أحزاب لا رهان عليها. الرهان سيكون على الأحزاب التي تضع الموعد الانتخابي في سياق التطلعات السياسية التي ظهرت لحظة الربيع العربي ولم تتحقق بعد، والإصلاحات التي ظلت تراوح مكانها، وتتحدث بصراحة قد تزعج السلطة ولا تطرب لها كافة الجماهير..