سؤال واحد نطرحه على محامين قضوا عمرا كاملا في ردهات المحاكم، يترافعون ويدافعون عن «أبرياء» و«مجرمين»، «مناضلين» و«انقلابيين»، «مدنيين» و«عسكريين»: من بين كل القضايا والملفات التي دافعت عنها أمام المحاكم، ما هي القضية التي أثرت فيك؟ أو علقت بذاكرتك ورفضت أن تغادرها؟ لا شيء تغير بالنسبة إلي، كنت أدافع عن جميع الموكلين بنفس الإحساس وبنفس الدقة ونفس الحماس. حتى المتهمين بالتخطيط لقتل الملك دافعت عنهم انطلاقا من هذه المبادئ، سواء في حادث إسقاط طائرة الحسن الثاني، أو في محاولة الانقلاب عليه بالصخيرات. أتذكر جيدا أن نقيب المحامين بالرباط (لا يحضرني اسمه الآن) آنذاك عينني لأدافع عن أحد المتهمين في حادث إسقاط الطائرة في محاولة انقلاب أفقير على الملك الحسن الثاني في 16 غشت 1972، وهي القضية الذي توبع فيها 16 ضابطا، والتي أصدرت فيها المحكمة أحكاما ب16 إعداما في حق 16 ضابطا في القوات الجوية الملكية. كنت أنوب آنذاك عن الضابط بلحاج، لا أتذكر اسمه الشخصي، لكنني أتذكر ملامحه جيدا، دافعت عنه لإثبات براءته، لكنني عندما لم أجد الأدلة الكافية لإثباتها، ترافعت من أجل الحصول على ظروف مخففة. كنت أردد دائما في مرافعتي أمام القضاة أن محاولات الانقلاب استغل فيها الضباط الكبار ضباطا يائسين من عدم وجود ديمقراطية وعدالة اجتماعية وتفشي الظلم والاستغلال، في حين كان هناك ضباط آخرون مقيدين وليس لهم إرادة أمام رؤسائهم. القانون آنذاك كان يفرض على المحامي حضور عملية تنفيذ حكم بالإعدام في حق موكله، فوجدت نفسي مطالبا بحضور عملية إعدام بلحاج، الضابط الذي أعطاه محمد أفقير، وزير الداخلية والدفاع، الأوامر للطيران بطائرة لمحاصرة طائرة البوينغ التي كان على متنها الحسن الثاني قادما من برشلونة. ورغم مرافعتي للدفاع عن بلحاج، أبت المحكمة إلا أن تصدر حكما بالإعدام في حق موكلي، وكنت مضطرا إلى الحضور كشاهد على هذا الإعدام. لن أنسى تلك اللحظة، كان إحساسا مفجعا. وصلت إلى سجن القنيطرة قادما من الرباط بعد منتصف الليل، وأخبروني بأنهم سينقلون موكلي على الساعة الثالثة صباحا إلى مكان قريب من شاطئ القنيطرة، حيث سيقومون بإعدامه. أغمض عينه، وقاموا بربطه على عمود خشبي، ثم أطلقوا عليه الرصاص. سمعت صوت الرصاص آنذاك، وتألمت كثيرا رغم أنني كنت في مكان بعيد عن مكان الإعدام بعشرين مترا. تألمت لأنني كنت أعرف قصته الكاملة، عندما كنت ألتقيه قبل الجلسات بالمحكمة العسكرية بالقنيطرة كان يقول لي التالي: «لا ذنب لي في ما وقع، توصلت بمعلومات من أمقران قائد قاعدة القنيطرة الجوية تدعوني إلى ضرورة الطيران، ومحاولة إسقاط طائرة دخلت الحدود المغربية، لم أكن أدري أن الملك الحسن الثاني يوجد داخل الطائرة، لم أكن أعرف أنها مؤامرة، صحيح أطلقت الرصاص، وكانت طائرتي ضمن الطائرات الست، لكنني كنت أنفذ الأوامر، ولم أعلم أنها مؤامرة إلا عندما تم اعتقالي بتهمة محاولة قتل الملك». مرت 43 سنة على أول محاولة للانقلاب العسكري على الحسن الثاني، انقلاب فاشل لم ينته مع محاكمة المتورطين فيه، وإنما استمرت تداعياته لينتج عنها انقلاب فاشل آخر في السنة الموالية. وكما يعلم الجميع، قاد انقلاب الصخيرات الذي انطلق من الثكنة العسكرية ب«هرمومو»، رجلان، محمد المذبوح ومحمد اعبابو. خططا للانقلاب بكثير من الدهاء، واستطاعا الوصول إلى القصر الملكي بالصخيرات، غير أن انقلابهما انتهى بشجار بين المذبوح واعبابو، فكان مصيره الفشل. في محاكمة الصخيرات يوليوز 1971، كان الأمر مختلفا بعض الشيء لأن موكلي لم يعدم رغم أنه صدر في حقه حكم بالإعدام، لكنه، في المقابل، عذب في سجن تزممارت، وهو أيضا موت لكنه بطيء جدا. نبت آنذاك عن محمد الرايس، أحد المتهمين بمحاولة قتل الملك ومحاولة إسقاط النظام في انقلاب الصخيرات. كان عدد المعتقلين في محاكمة الصخيرات يتجاوز الألف معتقل، معظمهم ضباط، وقد تم نقل أغلبهم إلى معتقل تزممارت. موكلي محمد الرايس أخبرني بأن محمد عبابو أحضرهم من هرمومو، وأكد لهم أن الملكية مهددة، وطلب منهم التنسيق لإنقاذ الملك. دخلوا القصر من أجل ذلك، قتلوا الأبرياء خوفا على الملك، لاعتقادهم بأنهم يشكلون خطرا على الحسن الثاني، ليفاجؤوا في النهاية بأنها ليست سوى مؤامرة من طرف محمد عبابو ومحمد المذبوح. محمد الريس لم يكن بمقدوره قول لا لمحمد عبابو، وحتى إن قالها كان مصيره هو القتل، ولأنه عسكري ومدرب على القوانين العسكرية، يجب أن يخضع للقوانين العسكرية التي فرضت عليه أمرا بإطلاق الرصاص. كنت قد التقيت محمد الريس في السجن العسكري بالقنيطرة قبل بداية المحاكمة، وأدلى لي بهذه الشهادات، واعترف بأنه أطلق الرصاص داخل قصر الصخيرات، وأنه حين جاء بهم محمد عبابو من هرمومو أخبرهم بأن لديهم تدريبا ببنسليمان، لكن عندما وصلوا إلى بولقنادل أخبرهم بأن الملك مهدد في قصر الصخيرات، ويجب الذهاب إلى هناك لإنقاذه.