أمضيت جل نهار أمس في مجلس المستشارين رفقة مجموعة من الزملاء الصحافيين والأساتذة الجامعيين والسادة البرلمانيين ووزير الاتصال لمناقشة مشروع قانون الصحافة، المعروض على البرلمان هذه الأيام، وهو مشروع مليء بالألغام والفخاخ، مر من تحت أياد كثيرة، ناعمة وخشنة، بعضها مؤمن بحرية الصحافة، وبعضها الآخر كافر بكل ما يجعل الصحافة سلطة رابعة… وهذا هو حال القوانين المتعلقة بالإصلاحات السياسية العميقة في هذه الحكومة، حيث تتعرض للمد والجزر (يدي ويد القابلة)، وهي العملية التي لخصها وزير السكنى وسياسة المدينة، حيث قال نبيل بنعبد الله أخيرا في طنجة: «الدولة غير جاهزة الآن لإزالة العقوبات الحبسية في جرائم المس بالثوابت ». من هي هذه الدولة التي لاتزال ترى أن التعبير عن الرأي السلمي حول أي قضية لا يحول دون الذهاب بالصحافي إلى السجن؟ قبل أربع سنوات جمع وزير العدل والحريات، السيد مصطفى الرميد، «عصابة كبيرة» من الصحافيين في بيته، وقال لنا: «إن جلالة الملك محمد السادس أوصاني بعدم تحريك المتابعة القضائية ضد أي صحافي أساء إليه. إنه يتنازل عن حقه في متابعة الذين يمسون جلالته، لأنه ملك ديمقراطي، ويريد من شعبه أن يحبه لا أن يخافه، وأن يوقره لا أن يقدسه». بقي الجميع مشدوها تلك الليلة في منزل وزير العدل والحريات في الدارالبيضاء، وقلنا إن الوقت حان ليخرج في المغرب قانون جديد للصحافة لا حبس ولا سجن فيه، وإن الدولة نضجت اليوم لتقبل بالصحافة شريكا لا عدوا… لكن اتضح أننا كنا حالمين، وأن الفترة الممتدة بين العشاء في بيت وزير العدل وتوقيت خروج مشروع القانون شهدت عدة تغيرات، وجرت تحتها مياه كثيرة، وأن هناك من تدخل بفتوى ترحيل عقوبات الثوابت وغير الثوابت إلى القانون الجنائي، وترك الصحافيين تحت رحمة العقل الجنائي للدولة، إن شاءت عاقبت، وإن شاءت تسامحت حسب الظروف والأحوال. منذ أكثر من 40 سنة والصحافيون يطالبون بقانون لتنظيم حرية الصحافة وليس قانونا لتنظيم الرقابة على الصحافة. كل التعديلات التي أدخلت على هذا القانون منذ 1958، وإلى اليوم، لم تستطع أن تحرر أقلام الصحافيين من القيود التي تكبلها، حيث لا ترضى الدولة العميقة إلا بأن تحتفظ بالكلمة الأخيرة في ما يجب نشره وما لا يجب نشره بشأن القضايا الحساسة، والتي تتغير قائمتها حسب الظروف والأحوال، وكل هذا حتى لا يصير للمجتمع صوت وعين على السلط الأخرى. الوزير الشاب، مصطفى الخلفي، أدخل بعض الرتوش الإصلاحية على القانون الموروث عن العقود الماضية، لكن منشاره وقف عند عقدة «الثوابت» التي صدرها إلى القانون الجنائي، وأقام جسرا رفيعا بين قانون الصحافة والقانون الجنائي، الذي مازال يضم 12 عقوبة حبسية على جرائم لها علاقة بالصحافة والنشر، مثل إهانة العلم، أو إهانة هيئة منظمة، أو التأثير في مقررات قضائية، أو إهانة موظف عمومي، وغيرها. أين المشكلة؟ ولماذا تعجز المملكة عن التخلص من الخوف، ومن الرغبة في التحكم، ومن هاجس مراقبة المواطنين والصحافيين، ووضع أحذية خشبية في أرجلهم حتى لا تكبر عن القالب المعد منذ قرون؟ الأجوبة كثيرة اختار منها الآن جواب وزير العدل السابق، الأستاذ العلمي لمشيشي، الذي قال في اللقاء أعلاه: «المشكلة في قانون الصحافة هي العقلية القانونية للدولة المغربية، وهي عقلية تميل إلى الزجر الجنائي عوض الزجر المدني أو الإداري، وهذا مرض تسرب إلينا من التراث القانوني للدولة الفرنسية، الذي وضعه نابليون بونابرت، وكان مهووسا بالدولة المركزية، وكان طريقه إلى الحفاظ على هذه المركزية هو استعمال القانون الجنائي في كل شيء، في قانون الصحافة، وفي القانون التجاري، حيث كان حتى التجار المفلسون يذهبون إلى السجن. لما دخل الفرنسيون إلى المغرب واستعمروه نقلوا إليه هذه العقلية، وعندما حصل المغرب على الاستقلال خرج الفرنسيون وبقيت تركة نابليون في المملكة الشريفة، وهي المسؤولة عن جل المقتضيات الجنائية التي تضج بها قوانيننا، والحل هو مراجعة هذه العقلية.. من هنا يبدأ الإصلاح يا سادة».