«كانت القضية الفلسطينية، شعارا ونضالا ورموزا وتضحيات، ضيفا مرحباً به على الدوام في السياسة والصحافة العربية، أما الآن فصارت ضيفا ثقيلا على الحكومات العربية، فماذا جرى؟ أولا، الجمهور العربي كان مشدودا إلى الساحة الفلسطينية لأنها كانت مسرحا للنضال والمقاومة والجهاد ضد المحتل، ولأن القضية الفلسطينية كانت جزءا من مشروع النهضة والتقدم العربيين. كنت تجد الأحزاب والحكومات والجماعات من اليمين واليسار، كلها تضع فلسطين وتحريرها كجزء من برنامجها المحلي أو القطري. كانت فلسطين قضية وطنية وقومية وإنسانية ودينية في كل الأقطار العربية، ولهذا كانت السياسة والإعلام يواكبان الحدث الفلسطيني ويتتبعان أخباره، ويضعانه فوق قائمة أولوياتهما، إن من الجانب المهني أو حتى القومي والعقائدي، وكانت إسرائيل عدوا ومحتلا ومغتصبا، وليست فقط طرفا في الصراع مع طرف آخر، بغض النظر عمن الظالم ومن المظلوم. لكن هذا الوضع تغير الآن، وأضحت القضية الفلسطينية إما حاضرة بشكل جزئي في الإعلام، أو حاضرة بعنوان آخر ليس هو عنوان تحرير فلسطين، وتعرية الاحتلال، وتعبئة الشارع ضد مشروع الاستيطان. صارت القضية الفلسطينية في الإعلام العربي تدور حول متاهات المفاوضات مع إسرائيل، ومشاريع الحل المؤجل، وأخبار اللقاءات والوساطات الدولية والعربية، التي أعطت الانطباع بأن القضية الفلسطينية حُلت أو في طريقها للحل، وأن المنظمة ألقت السلاح أو البندقية، ولم يعد في يدها سوى غصن الزيتون، وأن القضية ما عادت صراع وجود بين المشروع الصهيوني والمشروع العربي.. صارت القضية خلافات بين الفلسطينيين والإسرائيليين بوساطة أمريكا وأوربا. صار العرب وإعلامهم الرسمي وشبه الرسمي يمشون بخفة وقد تخلصوا من أعباء قضية لا يستطيعون حلها، ولا يستطيعون مصارحة شعوبهم بحقيقة عجزهم عن حلها. لم تقف الأمور هنا، حيث إن مفاوضات السلام والتسوية التي استهلكت حوالي 23 سنة فككت أجواء التعبئة، وزرعت بذور التطبيع الإعلامي مع المشروع الصهيوني الذي تحرك على واجهة الإعلام والصحافة بسرعة كبيرة، محاولا أن يسوق الشرق الأوسط الجديد تارة، ومحور الاعتدال أخرى، حيث جرى تقسيم الدول العربية إلى محور ممانعة صور على أنه راديكالي وغير واقعي ويسعى إلى تدمير إسرائيل، ومن ثم فهو جزء من محور الشر، ومحور آخر عربي معتدل وواقعي ومستعد للتعايش مع إسرائيل التي أصبحت دولة كباقي الدول! هنا تحرك الإعلام الموالي لهذا الطرف أو ذاك، وانقسمت الجبهة الإعلامية، وصرنا نقرأ مقالات، ونشاهد نشرات وحوارات وبرامج ترى أن المشكل ليس في إسرائيل، بل في القوى الراديكالية التي تُتهم بأنها تتشدد مع إسرائيل من أجل أن تخفي أزماتها الداخلية. هنا انتقل الانقسام السياسي إلى المشهد الإعلامي، وصارت المادة الصحفية تنشغل بالبحث في حجج كل طرف، ولم تعد قضايا الاحتلال تحتل إلا موقعا ثانويا أو يكاد... والآن الأزمة المصرية والتحريض على الفلسطينيين، ومحاولة محاكمة الرئيس المعزول بتهمة التخابر مع حماس مشهد يقول أشياء كثيرة عن مآل فلسطين التي دخلت البازار السياسي العربي، وبعدما كانت فلسطين جزءا من شرعية الأنظمة الحاكمة، صارت فلسطين ومقاومتها تهمة تقود إلى السجن، وصار السياسيون العرب يهربون من رموز المقاومة الفلسطينية خوفا من إلصاق تهمة التطرف أو الإرهاب بهم، وقبل المأساة المصرية كانت الحرب على غزة مناسبة سمعنا فيها أصواتا فلسطينية وعربية في عز الحرب تتهم حماس بالمغامرة وغياب التعقل، وعدم القدرة على فهم المتغيرات الدولية، مع أن المفاوضات لم تعط شيئا إلى الآن، وعلى الرغم من أن جل حركات التحرر العالمية كانت تجمع بين النضال العسكري والسياسي ضد المحتل.. وحدهم الفلسطينيون مطالبون بالاختيار بين الرصاصة والحمامة... ثانيا، الأزمة الداخلية وسط حركة التحرر الفلسطينية، والخلافات بين حماس ومنظمة التحرير، وتناقضات سلطة رام الله وسلطة غزة، وصراعات رموز فتح وحماس والجهاد، وانقسام الدول العربية بين من يؤيد هذا الطرف على حساب الآخر... كل هذا جعل الإعلام العربي ينجر إلى التورط في هذا الصراع، وأصبحت صورة حماس سيئة في الإعلام المحسوب على فريق الاعتدال أو المعسكر العلماني، وفي المقابل صارت صورة فتح سيئة في الإعلام المحسوب على معسكر الممانعة، وفي إعلام الاتجاهات الإسلامية والأصولية التي رأت في قبول فتح لمشروع التسوية والمفاوضات مع إسرائيل خيانة لفلسطين والقدس، والوديعة الإسلامية الموضوعة من قبل كل المسلمين في رقاب الفلسطينيين... في هذه الأجواء لم تكن إسرائيل ولوبياتها وشركات العلاقات العامة العاملة معها أو لحسابها بعيدة عن إعادة رسم أجندة الإعلام والسياسة العربية، فصار المناضل الفلسطيني ناشطا، والمحتل طرفا في النزاع، والاحتلال إعادة انتشار، وجدار الفصل العنصري جدارا أمنيا، والاستشهادي الفلسطيني انتحاريا... الآن، ما هو الحل؟ الحل بيد الفلسطينيين أولا، والعرب ثانيا، ما لم ينه الفلسطينيون مأساة الانقسام بينهم، ويقرروا في مستقبل المفاوضات التي لم تنتج شيئا إلى الآن، وما لم يعيدوا رسم ملامح مشروع وطني تحرري ديمقراطي إنساني فإن الإعلام سيظل مرآة أمينة لحالة الانقسام، وسيتقوى معسكر التطبيع، وتنشأ مصالح بين معسكر المطبعين، وستضيع القضية خلف مؤامرات السياسة الدولية. فلسطين تحتاج إلى مشروع تحرري جديد بعد انسداد الأفق، سواء في وجه سلطة رام الله التي وضعت بيضها كله في سلة المفاوضات أو حكومة غزة المقالة التي وقعت في الفخ، فلا هي تقاوم الآن ولا هي تفاوض... فلسطين قضية عادلة وراءها محامون فاشلون، ولهذا تحتاج إلى ربيعها». * (نص المداخلة التي شاركتُ بها في مؤتمر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة حول القضية الفلسطينية ومستقبل المشروع الوطني الفلسطيني)