ونحن نحتفي اليوم بعيد ميلاد «أخبار اليوم» كنا في الوقت نفسه نتابع أطوار محاكمة زميلنا عبد الله البقالي، رئيس النقابة الوطنية للصحافة، الذي يتابعه وزير الداخلية، بموافقة رئيس الحكومة، على سطرين كتبهما عن استعمال المال في الانتخابات الأخيرة. هذه المفارقة بين الفرح والحزن تعبر عن أحوال بيت الصحافة المغربية اليوم. محاكمة البقالي ليست الخبر السيئ الوحيد.. الخبر الآخر أن مشروع قانون الصحافة، المعروض على البرلمان، لا يوفر ضمانات المحاكمة العادلة للصحافيين رغم كل الرتوشات التي دخلت عليه، فهو لا يأخذ بحسن النية في النشر، ويعتبر كل صحافي مجرما إلى أن يثبت العكس، (في آخر مذكرة للفدرالية المغربية لناشري الصحف حول مشروع الخلفي هناك أكثر من 30 تعديلا مقترحا من أجل تدارك أعطاب هذا النص القانوني الذي جاء دون سقف دستور المملكة). لنعد الآن إلى هذه التجربة الفتية.. «أخبار اليوم» التي تطفئ شمعتها الثامنة وسط مناخ إعلامي وسياسي وقانوني واقتصادي أقل ما يقال عنه أنه غير مساعد، وغير صديق لمهنة نبيلة اسمها الصحافة.. مهنة تلعب دور الجسر الذي يربط الرأي العام بما يهمه من أحداث وقرارات ومعلومات، وآراء وسياسات واتجاهات، بشكل أمين ومهني ومستقل وجريء. أعترف أمامكم، كناشر وكصحافي، بأننا اليوم «نخون» مهنتنا كل صباح، ونمارس الرقابة الذاتية على أقلامنا كل يوم، وأننا لا نستطيع أن ننشر كل خبر يستحق النشر (شعار جريدة «نيويورك تايمز»)، وأننا نحاول بكل الطرق الالتفاف على الضغوط التي تحيط بالمهنة من طرف السلطة والرأسمال أساسا. السلطة تجرك إلى محاكمات أمام قضاء مطيع، ولا تنتهي الجلسات الطويلة إلا وقد وضعت في عنقك سنوات من السجن وملايين الدراهم من التعويضات والغرامات. أما الرأسمال فيلعب معك لعبة الضرب تحت الحزام.. يقطع عنك الإعلانات، ويتركك تموت بالتدريج حتى لا تكون لك جنازة ولا معزون ولا قبر يعرفك به الناس… في النهاية، يريد منك أصحاب السلطة والثروة ألا تكون مزعجا، وأن تفكر في سلامتك وسلامة عائلتك قبل أن تكتب خبرا أو تحقيقا أو فضيحة «بريمات»، وإذا لم يردعك سلاح المحاكمات والحصار الاقتصادي، هناك سلاح آخر.. «النيران الصديقة للمحسوبين على المهنة»، حيث يدفع خصوم الإعلام صحفا ومواقع وإذاعات إلى شن هجوم عليك بالحق والباطل، وبالتشهير والقذف، والسب ما تحت الحزام وما فوقه، ففي مثل هذه المعارك القذرة كل الضربات مشروعة. نحن في هذه الجريدة جربنا كل هذه الأسلحة التي تركت فوق أجسادنا علامات المرور من هنا، لكنها لم تزدنا إلا إيمانا بنبل هذه المهنة وصعوبة التحول الديمقراطي في بلادنا.. وقد تابعتم كيف مُنعت هذه الجريدة سنة 2009 دون حكم قضائي، وكيف أعار سليل حزب الاستقلال «السي عباس» قلمه لوزارة الداخلية التي أغلقت مقر الجريدة، وجمدت حساباتها، ومنعت طبعها قبل صدور حكم القضاء، وكل هذا لأن موجة غضب عارمة نزلت فوق رؤوس الجميع بسبب النقطة التي أفاضت الكأس (كاريكاتير الأمير مولاي إسماعيل)، ثم رجعنا، بفضل عزيمة أسرة الجريدة ودعم القراء وثقتهم في هذه التجربة، ثم جاءت ملفات الحق العام لجمع «الباقي استخلاصه»، والسنة الماضية رجعنا مرة أخرى إلى المحاكمات السياسية، حيث أعطى عبد الإله بنكيران، ودون أن يرف له جفن، الإذن لوزيري الفلاحة والمالية لرفع دعوى قضائية ضد الجريدة لأنها نشرت خبرا صحيحا، وتملك الأدلة القاطعة حول المادة 30 في القانون المالي الأخير، ثم تبع أخنوش وبوسعيد السيد فوزي لقجع، مدير الميزانية، الذي طلب من القضاء منع كاتب هذه السطور من ممارسة المهنة لمدة 10 سنوات، وفوقها أداء مليون درهم عقابا على الاقتراب من مطبخ الميزانية… قبل هذه المحاكمة كانت هناك أحكام أخرى غير عادلة أدانتها المنظمات الدولية، وآخرها أمنيستي (ملف الشرعي ومنيتير)، وجاءت بعدها قضية القاضي السعداوي الذي رفع ضدنا دعوى يريد من خلالها حصانة مطلقة لأحكامه العديدة على الصحافيين… نحن هنا لا نذكر إلا المحاكمات ذات الطابع السياسي، أما المحاكمات التي نذهب إليها مع المواطنين، وتحترم فيها قواعد المحاكمة العادلة، فهذه لا نكتب عنها حرفا واحدا.. نعتذر لأصحابها، أو نؤدي التعويض الذي يحكم به القضاء لهم، ونرضى بقانون المحاسبة والعقاب. نحن هنا نتحدث عن المحاكمات المخدومة، على حد تعبير القائد امحمد بوستة. ومع كل هذا نجرب تمرين الصدور كل يوم من أجل بلدنا، ومن أجل مستقبل أبنائنا، وكل أملنا أن يقتنع أصحاب القرار بأن الصحافة ليست عدوة لهم، وأن الإعلام ليس مؤامرة ضدهم، وأن قواعد الديمقراطية تفرض وجود سلطة رابعة للصحافة إلى جانب السلط الثلاث الأخرى، تنبه وتنتقد وتقرأ نصف الكأس الفارغ، وتتحدث عن القطارات التي لا تصل في موعدها، وتوقظ الحاكم من سكرة السلطة، وتتحدث بلسان من لا يتكلمون، وما أكثرهم.. السلطة في بلادنا، مثل بعض النساء، لا تريد أن تسمع إلا ما يرضيها، وهذا خطر على البلاد والعباد. في كتابه «السادات وهيكل وموسى»، يتحدث حنفي المحلاوي عن علاقة الصحافي بالحاكم. يقول إن السادات قال لمحمد حسنين هيكل، في الفترة التي شهدت تصاعد خلافهما: «تفتكر أن الناس في مصر هيفضلو لفترة طويلة يقرؤوا لصحافي واحد فقط -يقصد هيكل- المفروض أن ده وضع لازم يتغير فوراً»، ليرد عليه هيكل: «إذا كان كلامك ده حقيقي، يا ريس، فهذا وضع أحسن مما هو حادث الآن، وهو أن كل الصحافيين في مصر الآن يكتبون لقارئ واحد». شكري وامتناني لكل أسرة هذه الجريدة التي تتعب كل يوم من أجل أن تصل هذه اليومية إلى قارئها.. شكري للأسرة الأكبر من القراء والمهتمين ولكل من عبر عن رأيه سلبا وإيجابا في هذه المطبوعة، ودعائي للراحل محمد العربي المساري الذي كان يتصل بهذه الجريدة كل عيد ميلاد، ويقول كلمات رقيقة ومشاعر تشجع على الاستمرار، وبعدها يبعث شيكا لتجديد الاشتراك. سنفتقدك هذا العام يا معلم كما افتقدنا قلمك الجميل وعباراتك التي تداوي دون أن تجرح.