الدعوة إلى اعتماد الدارجة في التعليم الأولي تصبح دعوة خطيرة، عندما لا تحيط بجميع جوانبها اللغوية والمعرفية/ الفلسفية والسوسيولوجية والأنثروبولوجية، والدينية أيضا. . من هنا، كان موقف الشاعر محمد بنيس، في هذا الحوار، يروم تحرير اللغة العربية الحديثة من قيود التقليديين وهجمة الفرنكفونيين، حتى يتمكن أبناء المغاربة التعلم بلغة موروثهم الثقافي، على اعتبار أن الثقافات الكبرى تعلم أبناءها بلغة موروثها الثقافي، مثلما هو الأمر بالنسبة إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية.
تابعت النقاش الجاري حاليا حول الدعوة إلى التعليم بالدارجة بدل اللغة العربية، كيف تنظر إلى هذه الدعوة؟؟ أريد في البدء أن أتقدم بتحية تقدير إلى أستاذنا الكبير عبدالله العروي على تدخله في النقاش الدائر حول مسألة مكانة الدارجة في نظامنا التعليمي. وأهمية تدخله في الموضوع هي أنه نقل خطاب الدفاع عن العربية من مجال المقدس الديني والإيديولوجي إلى مجال النفعي البشري، وإلى المعرفة والعمق الثقافي للغة العربية. فلا يمكن أن ندافع عن العربية بالحجة الدينية، كما لا يمكن أن ندافع عنها بالتعلق بالماضي. لذلك، فبعض الأطراف التي تدافع عن اللغة العربية لا تستطيع، عندما تنطلق من المقدس الديني أو الإيديولوجي، أن تفتح لنا أفقا للتفكير في الموضوع بما يستجيب لأوضاع اللغة العربية في عصرنا الحديث. أما موقفي من هذه الدعوة، فيمكنني أن أعبر عنه عبر مرحلتين: المرحلة الأولى هي أن الاجتهاد في توسيع قاعدة المتعلمين في المغرب مطلوبة. ومن هنا يمكن أن نقبل بممارسة الدارجة من الناحية الإجرائية، وفي ظرفية محدودة. ثم في المرحلة الثانية، أجد أن هذه الدعوة لا تنحصر في المعلن عنها في كونها مقتصرة على الاستئناس بالدارجة من أجل إتقان اللغة العربية، والنجاح في التعلم، بل إن هذه الدعوة لها نسق، وتأتي في سياق. أما النسق، فهو كون هذه الدعوة محمولة على أكتاف منظمة لها قاعدة علمية يمثلها لسانيون وباحثون في مجال اللغويات، ولكنها أيضا مدعمة بمؤسسة مالية تتمتع بعلاقات النفوذ. ثم إن السياق ينبهنا على أن هذه الدعوة ليست معزولة عن مواقف وممارسات عديدة من طرف مغاربة فرنكفونيين وأنغلوفونيين، وإلى جانبهم المؤسسات المالية والاقتصادية في المغرب. أضف إلى ذلك أن جهات خارجية تتدخل في موضوع اللغة المغربية وفق مقاربات متعددة. ولا ننسى، بعد هذا، أننا نعيش هذه الدعوة في زمن العولمة والانهيارات التي يعرفها العالم العربي. إذن جميع هذه العناصر تجعلني لا أنظر باستخفاف أو لامبالاة إلى هذه الدعوة. إنها دعوة تقوم بها قوة تهيئ لإعصار مقبل يمس وضعية اللغة العربية في المغرب على مستوى المنظومة التعليمية، وفي المجال الثقافي بصفة عامة.
هل يمكن أن تصف طبيعة هذا الإعصار؟ أعرف أن هناك جهات أخرى في المغرب تتهيأ لإصدار بيانات وتنظيم حملات على الصعيد الوطني لترسيم الدارجة. وفي الوقت نفسه تتصاعد غربة العربية في المغرب بفعل هيمنة الفرنكفونية على عموم الحياة المغربية. وهذا كله يجعلني أرى أن الإعصار الذي أشرت إليه مقبل، ولا يجب أن يفاجئنا بما سيكون عليه من قوة، وربما من صلابة.
إلى أي حد يمكن أن يستفيد النقاش الدائر في المغرب حاليا مما طرح قبل أكثر من قرن في لبنان ومصر؟ أظن أن المغرب تأخر في استيعاب مجموعة من الدروس التي آلت إليها الدعوات المماثلة إلى الدارجة، أو إلى استعمال الحرف اللاتيني في كل من لبنان ومصر. هذه الدعوات قام بها عرب، كما قام بها مستشرقون. ولها سياقات متعددة. وهي تشير إلى نقطة لابد من توضيحها في الفرق بيننا وبين أوربا. لقد كان العالم العربي، باستثناء المغرب، تحت الهيمنة التركية. وقد قامت النخبة المسيحية والمسلمة العربية، جنبا إلى جنب، في إحياء اللغة العربية، التي وحدها كان يمكن أن تواجه اللغة التركية، وتكون قادرة على الدخول في حوار مع اللغات الأوربية الأخرى. على أن هذا الاختيار وجد أمامه عقبة هي التقليد والهيمنة الأجنبية بصفة عامة. وهو ما أدخلنا في داومة النزعات المضادة لإصلاح العربية من الداخل والمنادية بتبني الدارجات. ولم يبق من جميع هذه الدعوات حتى الآن أي أثر في الثقافة أو في الأدب أو في التعليم. واسمح لي هنا أن أنبه إلى نموذجين: الأول استشهد به إبراهيم اليوسي في مقال نشره بجريدة لوموند في يوليوز 2012، هو رواية «التاكسي» لخالد الخميسي، التي يعتبرها نموذجا لما يجب أن يكون عليه الأدب العربي، حتى يصبح أدبا مقروءا من طرف الشعب ومعترفا به على المستوى العالمي. وأنا أستغرب هذا الاستشهاد. فتقديم الرواية تم بالعربية الفصحى والعمل ليس رواية. هو عبارة عن أحاديث مع سائقي التاكسيات في القاهرة. يقدم له المؤلف بالعربية الفصحى ويحتفظ في الحوارات بالدارجة المصرية. وهذا شائع في أغلب الروايات العربية، ومنها المغربية، فضلا على أن هذا العمل لا يرقي إلى مرتبة عمل أدبي من حيث الشروط الفنية والرؤية الجمالية التي يجب أن تتوفر في العمل الأدبي. والنموذج الثاني هو أننا سمعنا نور الدين عيوش يتكلم عن أعمال العربي باطما، وهو للأسف لا يعرف أن هذا الأخير كتب سيرته الذاتية بالعربية الفصحى، وليس بالدارجة. وما يكتبه بالدارجة هو الزجل. وهنا أيضا أقول إنه لا يمكن أن نأخذ السيرة الذاتية لباطما كنموذج لما يجب أن يكون عليه الأدب. فأهميتها تنحصر في كونها شهادة على حياة فنان ومرضه. أريد هنا أن أطرح ما هو أبعد من وضعية الدارجة في النقاشات الثقافية العربية، وأذهب مباشرة إلى ما نقدمه كنموذج. أقصد التعليم الفرنسي واللغة الفرنسية. لقد قامت في فرنسا، منذ نهاية القرن الماضي، حركة تدعو إلى مراجعة المناهج التربوية الفرنسية. وسبب ذلك هو أن المسؤولين تبين لهم أن التلاميذ الفرنسيين في مستوى الشهادة الابتدائية يقرؤون بصعوبة، وأنهم يجدون صعوبة أكبر في كتابة جملة مستقيمة. وبعد البحث في الأمر، وجدوا أن تعلم الفرنسية بدون تعلم اللاتينية أمر مستحيل. وهو ما يعني أن اللغة الفرنسية، التي كانت في يوم ما دارجة وأصبحت لغة، لا يمكنها أن تستمر كلغة بمكانتها التي كانت عليها من قبل إلا بالعودة إلى الأصل اللاتيني. وهذا نفسه هو الذي نجده في الوضع اللغوي في الدول الأوربية. لذلك، فإن كل حديث عن الدارجة، بهدف إلغاء العربية، هو نهاية فكرة المغرب ومستقبله.
لماذا لا يمكن اتباع النموذج الفرنسي، أي اعتماد الدارجة مع الاحتفاظ باللغة العربية في الآن ذاته؟ هذا غير ممكن. فالكتابات الفرنسية ظهرت في القرن الثامن، وانتظرت ثمانية قرون، لتصبح لغة رسمية. ومع ذلك، استمرت اللاتينية في التعليم والتكوين الأدبي العام منذ القرن السادس عشر حتى نهاية القرن الماضي. فكبار الشعراء الفرنسيين في القرن التاسع عشر معروفون بإتقانهم اللغة اللاتينية مثل «بودلير» و»رامبو»، الذي كتب بعض قصائده باللاتينية. ثم إن الجامعة كانت حتى 1920 تترك للطالب حرية اختيار تحرير أطروحته لنيل الدكتوراه باللغة الفرنسية أو اللاتينية. كل هذا يعني أن اللغة لكي تصبح مادة للتعليم، لابد أن يتوفر لها كتاب كبار، وليس فقط، المعاجم وقواعد النحو، كما سمعنا من أصحاب دعوة الدارجة في المغرب. وهو ما يتطلب زمنا طويلا، كما يتطلب إرادة سياسية. فالفرق بين وضعية الدارجة في المغرب والفرنسية غير قابل للمقارنة من جميع النواحي. وكل ادعاء بإمكانية التماثل بينهما يصدر عن جهل فقط. ولكن يمكن مقابل ذلك أن ندفع التلميذ المغربي للتعرف على ثقافته بالعربية المغربية، من خلال درس خاص يكون إما داخل المدرسة أو خارجها. ووجهة نظري في هذه النقطة تتفق مع ما يقوله عبدالله العروي عن إمكانية إيجاد هذا الدرس ضمن منظور الجهوية الموسعة.
كيف تنظر إلى الأسس التي تستند عليها هذه الدعوة؟ هل هي أسس علمية؟ جميع هؤلاء الذين يتكلمون باسم الدارجة، سواء أكان نور الدين عيوش صاحب مؤسسة زاكورة أم إبراهيم اليوسي أحد المنظرين لهذه الدعوة أم كتاب مغاربة فرنكفونيين، يعتبرون أن فشل التعليم والأدب في المغرب يعود إلى عدم تبني اللغة الأم. ونحن لابد أن نعود إلى هذا الأساس النظري لاختباره وعدم الأخذ به كحقيقة غير قابلة للدحض. إن هذا المصدر النظري هو مجرد فرضية، وعادة ما تتحول إلى مرجع في أوضاع الثقافات المتخلّفة. أما بالنسبة إلى الأوضاع الثقافية الكبرى، فإن هذا الأمر ليس هو وحده المرجع الوحيد في المنظومة التربوية أو في المجال الثقافي، وبخاصة في المجال الأدبي. سأبتعد عن المغرب وأعطي نماذج من أوربا ذاتها. وأخص بالذكر هنا إسبانيا وفرنساوإيطاليا وألمانيا، هذه الدول التي توجد بها جاليات مغربية، كما توجد بها جاليات من عدة مناطق لا تتلكم في البيت اللغات الأم لهذه الدول. فهل الطفل المغربي في فرنسا يتعلم الدارجة في المدرسة الفرنسية، أم يتعلم اللغة الفرنسية مثل باقي الأطفال الفرنسيين؟ والسؤال نفسه يمكن أن نطرحه على وضعية تعليم أبناء الجالية المغربية في البلدان الأخرى. ونذهب إلى ما هو أبعد. إذا أخذنا اللغة الفرنسية، فنحن نجد أن المدرسة كانت من قبل تدرس إلى جانب الفرنسية كلا من اللاتينية واليونانية، وهما الأصل القديم الميت للفرنسية. فاللغة الفرنسية هي في الوقت نفسه لغة حية وحديثة ولغة ميتة قديمة. فبدون اللاتينية، تصبح الفرنسية بدون سند ثقافي موجود في ماضيها. بل إن الديمقراطية نفسها تصبح معرضة للاهتزاز عندما نلغي الجذر اللاتيني للغة الفرنسية. ويمكن أن نأخذ حجة من مجال آخر، هو مجال الثقافة، وخاصة مجال الرواية والشعر. إن الفرنسية لم تكن منتشرة في فرنسا عبر عموم ترابها إلا ابتداء من فترة قريبة، وبتأثير من المدرسة ووسائل الإعلام، وخاصة التلفزة. ومع ذلك، فإن أبناء المناطق الفرنسية، سواء في «أوكسيتاني» أو «بروطاني» أعطت الثقافة الفرنسية كتابا كبارا يتقنون اللغة الفرنسية، رغم أن لغتهم الأم ليست هي اللغة الفرنسية، وأصبحوا كتابا عالميين يمثلون الأدب الفرنسي. وهذا ما يمكن أن نقوله عن إيطاليا. عندما قامت الوحدة الإيطالية، كان 10 في المئة فقط، يعرفون الإيطالية. وعندما جاءت المدرسة بدأت تعلم اللغة الإيطالية دون اللهجات. ثم في الستينيات من القرن الماضي، أحدث التلفزيون برنامجا لتعليم اللغة الإيطالية للإيطاليين، وهو ما أدى إلى تعميم المعرفة باللغة الإيطالية، التي ليست هي اللغة الأم لجميع الإيطاليين. بل أضيف توضيحات قد تكون مفيدة. لقد قامت حكومة المنطقة المتكلمة بالسويسرية الألمانية في سويسرا بمنع اللغة الأم على التلاميذ في المدرسة وفرضت عليهم منذ الابتدائي تعلم اللغة الألمانية العليا. وهو الأمر نفسه الذي نجده في لندن مثلا، حيث هناك مدارس تمنع على التلاميذ استعمال دارجة «الكوكني» في المدرسة. كل هذا يجعلني أقول إن فرضية اللغة الأم لا تصدق على أوضاع لغوية ولا أدبية في كثير من المناطق المتقدمة في العالم. وبالتالي فإن ما نستخلصه من هذه الوضعية هو أن الثقافات الكبرى تعلم أبناءها لغة الموروث الثقافي. فهذه اللغة هي وحدها التي بنت النماذج الثقافية الكبرى في العالم الحديث. ولا يمكن بحال أن نتغافل عن هذه الأوضاع، ثم نستسلم لتخدير فرضية اللغات الأم كواجب سابق في التعليم المغربي.
لماذا طرحت الدارجة في مقابل اللغة العربية، وليس في مقابل الفرنسية؟ في سنة 2010، كان نور الدين عيوش كلمني في موضوع الندوة التي كان يهيئها عن الدارجة. وعندما التقينا، سألته: باسم من تتكلم؟ هل باسم الاقتصاد؟ أم باسم الإعلام؟ أم باسم السياسة؟ وعندما قال إنه لا يتكلم باسم أي من هؤلاء، واستمر الحديث بيننا، تعرضنا إلى تعليم أبنائه الذين تابعوا دراستهم في مدارس البعثة الفرنسية. عندها قلت له: إنك لا تستطيع أن تفرض مثل هذا الرأي على البعثة الفرنسية، ولا على الفئة الاجتماعية التي توجه أبناءها إلى البعثة الفرنسية. كما لا تستطيع أن تفرض شيئا لا على الأبناك، ولا على المؤسسات الاقتصادية المالية بخصوص التخلي عن الفرنكفونية وتعويضها بالدارجة في معاملاتها ووثائقها. والكلام نفسه هو ما أتوجه به لكتاب فرنكفونيين يدافعون عن الدارجة، فأقول لهم: «عليكم أن تقدموا لنا المثال وتكتبوا بالدارجة». وعند ذاك يمكن أن نتناقش في الموضوع. إن هؤلاء الكتاب يدافعون عن الدارجة بكتابة مقالات وكتب باللغة الفرنسية. وهو شيء لا يتطابق مع منطق الأعمال الكبرى، التي تمت باللغات الدارجة في أوربا. أقصد هنا «دانتي»، أولا، الذي كتب «الكوميديا الإلهية» باللهجة الفلورانسية، وكتب كتابا في إبراز بلاغة الدارجة الفلورانسية. وهو ما قام به «دو بيلي» في إبراز مزايا اللغة الفرنسية ودفاعه عنها.
أثرت في كتابك «الحداثة المعطوبة»، أثناء تناولك لهجوم الأدباء الفرنكفونيين في المغرب العربي، علاقة اللغة العربية بالمقدس، وطرحت فكرة مفادها أن العربية يجب ألا تبقى لغة المقدس، بل أن تصبح لغة البشري أيضا. كيف ذلك؟ لهذا الموضوع صلة بما يطرح اليوم عن الدارجة. فالمنظرون الذين يتكلمون من خلف صوت نور الدين عيوش يرون أن العربية في المغرب هي لغة الهيمنة، وهي لغة المقدس الديني، القرآن. والمقالة التي تشير إليها في سؤالك حوار مفتوح مع هؤلاء الكتاب الفرنكفونيين الذين لا يتوقفون عن حصر العربية في مجال المقدس الديني. لا يعرفون من ناحية أن لكل لغة مقدسها، بما فيها اللغة الفرنسية، ولكنهم ينكرون أن العربية هي لغة البشري بقدر ما هي لغة المقدس الديني، كما أسلفت. هذه قضية تدفعنا إلى الحذر في معالجة موضوع معرفي متشعب. وما يهمنا هو أن العربية اليوم أمامها تحدي كبير إما أن تكون لغة المستقبل أو لا تكون. وعلى ذلك يراهن كتابها الحديثون. لذلك، فإن ما يجب أن تقوم به المؤسسة التعليمية هو أن تترك هذه اللغة تدخل إلى المدرسة، وأن تترك الجامعة أعمالا عربية حديثة تعيش في أمن ضمن البرامج التعليمية الجامعية. وما مررت به من تجارب مع التلاميذ والطلبة، كما مر به سواي من الأساتذة الذين يتبنون الفكرة نفسها، هو أن المغربي في المدرسة، كما في الجامعة، يحس أن هذه العربية الحديثة تكلمه في أقرب الأشياء إليه، وتمنحه إمكانية أن يرى ذاته وعالمه بعين منفتحة على المستقبل، على الجميل والحر.
إحداث وتنصيب المجلس تم خلال السنة المالية السابقة، وميزانية السنة المقبلة لم يصادق عليها البرلمان بعد، ألا يطرح لكم ذلك مشكلا؟ أدمج المغرب في دستوره الجديد الأمازيغية لغة رسمية، ونص على ضرورة الانفتاح على اللغات العالمية الحية. لكن الملاحظ أن الوضع اللغوي العام يبدو اليوم هجينا. لا هو منفتح على الإنجليزية والألمانية، ولا هو يعزز واقعه اللغوي؟
ألا يمكن القول إن الحديث الرائج هو حديث نافل، حيث المطلوب هو التركيز على الإرادة السياسية في مجال اللغة؟
هذا سؤال واسع يحتاج الجواب عنه إلى مختصين في علم الاجتماع والأنثربولوجيا والتاريخ واللسانيات والأدب. فأنا لا أجرؤ على أن أتكلم باسم هذه المعارف، ولكن يمكن أن أقدم ملاحظات هي من صميم ممارستي الشعرية والثقافية. أظن أن اللغة الرسمية في المغرب هي الفرنسية رغم أن هذا غير مكتوب في الدستور. ومع ذلك، لا أحكم على التطبيق المستقبلي للدستور وأرجو أن يصبح الوضع الحالي من بقايا المرحلة الماضية. فنحن مازلنا نعيش حالة التهجين حتى اليوم. إذ أعطيت الأولوية للدولة وضبط التوجه الديني والاعتراف بالأمازيغية. ولكن ترسيم العربية في الدستور لم يؤد إلى الحسم في المسألة اللغوية. ثم لا ننسى في هذا الأمر أننا نعيش ضمن منطق الهيمنة. وما كان مطروحا هو مشكل الملكية، الذي قام بحله الحسن الثاني. ثم في مرحلة ثانية طرح مشكل التعدد في المجال الديني. وهذه النقطة نفسها قامت الدولة بالحسم فيها بصرامة لصالح التوجه السني المالكي واعتماد قراءة ورش في القراءة القرآنية. وفي هذا لم تتنازل الدولة لا لمبدإ التعدد في الإسلام، ولا لحرية الاعتقاد. وهنا نقول: ما هو المهم بالنسبة إلينا في مجتمعنا الحديث؟ هل المسألة اللغوية أقل قيمة من المسألة الدينية؟ ثم لا ننسى في هذا الأمر أننا نعيش ضمن منطق الهيمنة، لا بصيغتها الاستعمارية السابقة، ولكن بصيغتها التي تزداد تعقيدا يوما بعد يوم مع العولمة والمصالح الدولية المتضاربة. ولم نستطع أن نكون واضحين ولا حاسمين في هذه النقطة. ولا أدري إلى متى سنبقى في هذا الوضع الذي سميتَه أنت ب»الهجين». الذي أنا متأكد منه هو أن هذا الوضع غير طبيعي في الأمم الحديثة التي انطلقت في بناء مجتمع مندمج في العالم، وأنه عائق كبير لتكوين أبنائنا، كما لتكوين أدبائنا وكتابنا. فالثقافة الأدبية تحتاج إلى عقود من التكوين، وإلى تقاليد كبرى، بالإضافة إلى ما تتطلبه من إمكانيات مادية. وهذه كلها تضيع، وتجعلنا نبذر الوقت، كما نبذر الميزانيات الضخمة. والنتيجة هي أننا الآن مع العولمة نعيش في عالم الافتراض، الذي ربما كان أكثر سطوة من العالم الواقعي. وهو ما يطرح سؤالا على الحركة الثقافية في العالم. فكيف لنا أن نتجاهل هذا البعد الذي يضاعف من عوائق انطلاقتنا الواضحة والحرة في أفق الحداثة؟
بصرف النظر عن قصور الدارجة في الوقت الحالي، هل يمكن القول إن اللغة العربية سليمة ومعافاة، ولا تحتاج إلى مراجعة وتطوير؟ القول بأن الدارجة ليست هي لغة التعليم، كما هو واضح في جميع لغات العالم المتقدم، ليس معناه أن العربية تتوفر على جميع شروط الاندماج في التعليم الحديث والثقافة الحديثة. إن الدفاع عن اللغة العربية مهمة صعبة وقاسية ومؤلمة. فالعربية لم تجد في المغرب منذ بداية حركة التحديث حتى اليوم مؤسسات رسمية لتمكينها من الشروط لتحديث الأدوات والطرائق. بل أكثر من ذلك أن التعليم في المغرب موجه من طرف فئتين: فئة عربية تقليدية، وفئة فرنكفونية تفصل بين اللغة والثقافة. وهنا ضاع الخط الذي كان يجب أن يكون منهجا للتعليم. إن هذا المنهج هو الذي أنشأه الكتاب الحديثون المغاربة إلى جانب العرب عندما كتبوا لغة عربية حديثة لها خصائصها المستقلة، بقدر ما لها خصائصها المتصلة باللغة العربية القديمة. وكثيرا ما يواجهني قراء وكتاب غربيون أثناء اللقاءات بسؤال: لماذا تكتب بالعربية الكلاسيكية؟ فأجيبهم أنني أكتب بلغة عربية حديثة. وهو ما يفاجئهم. لذلك، فأنا أفضل أن أقول إنني أقاوم من أجل كتابة عربية حديثة ولغة عربية حديثة، بدلا من أدعي أنني أدافع عنهما. إن من مشاكلنا في اللغة العربية هو ضغط التيار التقليدي الذي يربط بين العربية والقرآن، ويجعل منها لغة القرآن فقط. فيما نعلم أن العربية موجودة في الشعر الجاهلي قبل القرآن، وأن القرآن جاء ليتحدى لغة الشعراء. وفي العصر الحديث نشأت حركة الحداثة من منظور ربط العربية بالبشري واعتبار الحياة والحيوي مصدر الكتابة وغايتها. هنا جاءنا أدب ذو نزعة نقدية للقيم بمختلف معانيها، وجاءتنا لغة تتحرر من عقلية المعيار اللغوي السابق على الحياة والحيوي. وهذه الثقافة ككل كانت، ولا تزال حتى اليوم، مرفوضة من طرف المؤسسة الرسمية العربية، ومنها المغربية، ولا تقبل بها لأنها لا تحتمل ثقافة النقد، كما تعترض على ثقافة الحرية والنظر إلى المستقبل كمعيار لبناء دولة حديثة. ومن هنا، فإن هذه العربية الحديثة معزولة، تعيش حالة اختناق، بل تعيش حالة احتضار، لأن المشكل يوجد في المؤسسة التي ترفضها قبل أن يكون في طبيعة العربية الحديثة، أو في طبيعة الأعمال المكتوبة بها. وهذا ما لا يريد الفرنكفونيون والداعون إلى الدارجة أن يفهموه. إن العربية الحديثة لغة كتاب ينصتون إلى حياتهم فيما هم يستضيفون لغات أخرى. هذا فعل خلاق يندمج ضمن الحركة الكونية للأدب في العالم. إنها لغة لا تجد من يدافع عنها من طرف المؤسسات الرسمية في المغرب. ومقابل ذلك، نجد المدافعين عن الفرنكفونية والأمازيغية والدارجة يتوفرون على الوسائل المادية والرمزية التي تحرم منها هذه اللغة العربية الحديثة وتتركها طريدة أرضها وأهلها.