واقفا بشموخ رغم قامته القصيرة، ضاما يديه إلى صدره كتلميذ مؤدب في قاعة الدرس، يتابع في صمت لا تخدشه سوى ابتسامته الهادئة هكذا اعتقد البعض أنهم سيجدون علي انوزلا أمام وزارة العدل والحريات، أو مقر الفرقة الوطنية للشرطة القضائية، حين قصدوها للتظاهر والمطالبة بإطلاق سراحه. هؤلاء الذين اعتقدوا ان اعتقاله مجرد هفوة بوليسية، لم يجدوا هناك قبل شهر من الآن، سوى والدته المريضة تقاوم من أجل الوقوف، وتردد بلسان حالها: "اطلقوا سراح علي". لكن عليا لم يخرج منذ اقتيد يوم 17 شتنبر، إلا صباح اليوم الجمعة 24 أكتوبر, السرير المريح والحمام الساخن الذي قيل للنقباء الذين زاروه في مقر الفرقة الوطنية، تحول الى زنزانة باردة في حي المدانين بالإرهاب في سجن سلا، لقد كتمت أنفاس علي أكثر من ثلاثين يوما. دخول السجن معتقلا والخروج منه متهما ليس سوى فصل صغير في قصة طويلة لعلي مع الملاحقات. قبل اربع سنوات، في القاعة التي تحولت إلى محج للصحافيين داخل المحكمة الابتدائية للدار البيضاء، القاعة رقم 7، يخرج القاضي المتخصص في محاكمة الصحافيين من مداولته التي دامت ساعة وبضع دقائق، الجميع ينتظر القرار الذي سينطق به في شأن المدفوعات الشكلية التي قدمها المحامي المصطفى الرميد وكوكبة من النقباء والمحامين. بين هؤلاء يقف علي أنوزلا هادئا مبتسما ابتسامته التي توحي بالجمع بين التفاؤل وانتظار الأسوأ. الدفوعات هنا لا تنزل عن سقف نزع صفة رئيس الدولة عن العقيد الطاغية الراحل معمر القذافي. هذا الأخير كان يتهم أنوزلا ومجموعة من الصحافيين الآخرين، بالإساءة إليه، ويطالب كلا منهم بثلاثة ملايير تعويضا عن الأضرار، وأقسى العقوبات الجنائية في حق "خصومه". كان الترقب والتردد سيدا الموقف، هل يعقل أن يتجرأ القضاء المغربي على رد الدعوى التي تقدم بها سيادة العقيد؟ هل تصدر محكمة مغربية حكما برفض الطلب لكون القذافي ليس رئيس دولة بل زعيم "ثورة"؟ هل ينطق القاضي المغربي ويقول إن الدعوى لم تحترم شكليات قضايا الصحافة؟ كان الجميع متأكدا من نتيجة المداولات، والحيرة كانت في ما يجب فعله بعد أن يعلن القاضي قراره ويبدأ استنطاقاته. النقباء والمحامون اقترحوا على الصحافيين المتابعين خيارا "نضاليا"، يتمثل في إعلان قرار الانسحاب من الجلسة ورفض مواصلة المحاكمة بمجرد إعلان القاضي رفضه الدفوعات الشكلية،"قضيتكم قضية مسطرة ودفوعات، إن لم يبرئوكم في هذه مرحلة فلا تحلموا بذلك بعد المرور إلى الموضوع، فقانون الصحافة واضح وسوء النية مفترض فيكم بشكل مسبق" قال أحد النقباء. في عز تلك النقاشات، خرج القاضي وصرخ العون بكلمة "محكمة"، ودون مفاجئات تلا رئيس الجلسة حكمه بضم الدفوعات إلى الجوهر، أي تأجيل الحكم فيها إلى ما بعد مناقشة الموضوع، وبالتالي هو حكم مبطن بالرفض. ثم ينادي مباشرة على علي أنوزلا. لم يكن القرار قد اتخذ بعد ولا أحد توقع أن يقدم الاظناء على ترك القاضي ليحكم حكمه ويذهبون إلى حال سبيلهم. بقامته القصيرة، وصوته الخفيض، فاجأ أنوزلا القاضي ومعه المحامين وجمهور المتفرجين، بمجرد ما طرح عليه أول سؤال، "أرفض أن أجيب عن أي سؤال وأعلن انسحابي من هذه الجلسة". جملة نزلت كحمام بارد على القضاة، ليوالي الرئيس دعواته للظنين أنوزلا بالدفاع عن نفسه ومساعدة المحكمة في "إنصافه"، لكنها كانت كلمة نهائية، سارع بعدها المصطفى الرميد إلى استئذان القاضي في الانسحاب بدوره، رفقة باقي المحامين، لأن موكلهم قد انسحب، وهكذا ترك القضاة ليحكموا حكمهم دون محاكمة في قضية القذافي الشهيرة ضد مجموعة من الصحافيين. شهورا قليلة بعد تلك المحاكمة، كان الدور على قضية "روطا فيروس" الشهيرة. كان ذلك اليوم من عام 2009، طويلا على أسرة أنوزلا من الصحافيين، يوم كان قاض آخر على موعد مع حكم آخر. الأمر يتعلق بخبر متعلق ببلاغ الديوان الملكي الذي كشف عن تعرض الملك محمد السادس لوعكة صحية سببها فيروس يسمى "روطا فيروس"، والتفاصيل التي تضمنها مقال "الجريدة الأولى"، المغامرة الإعلامية لأنوزلا حينها، كان سببا لحبس أسرة الصحافة أنفاسها في ذلك اليوم، في انتظار ما سينطق به القضاء. جالسا كان في مكتبه بمقر الجريدة بالدار البيضاء، تلقى أنوزلا هاتفيا خبر الحكم من أحد محاميه، محتفظا بهدوئه وابتسامته، فكان الخبر عاما من الحبس موقوف التنفيذ، انضاف إلى التعويض المالي والغرامة اللذان صدرا ضده في قضية القذافي. متاعب الرجل الهادئ مع صخب قلمه ومنشوراته، كانت قد انطلقت منذ أقدم رفقة مجموعة من زملائه، على تأسيس جريدة "الجريدة الأخرى" الأسبوعية، والتي تحولت بسرعة كبيرة إلى منبر مفتوح على جل التيارات الفكرية والسياسية، وأداة لطرق أكثر المواضيع حساسية والطابوهات خطورة. أسرار من حياة الملك الراحل الحسن الثاني، وتفاصيل غير مسبوقة من حياة زوجة الملك، الأميرة للا سلمى، ثم الاستطلاع الشهير حول رجل السنة، سنة 2005، والذي أفضى إلى إعلان الراحل إدريس بنزكري محتلا المرتبة الأولى، بعد إشراك الجريدة لطيف واسع من الشخصيات والمسؤولين والفاعلين في التعبير عن آرائهم حول موضوع هذا الاستطلاع.كانت النتيجة، التي لم تكن تعني "تتويج"شخص ضد آخر، كافية لتثير متاعب كبيرة إلى الجريدة ومديرها علي أنوزلا. "يوم 24 شتنبر الجاري، أعلنت السلطات المغربية بشكل مثير للغرابة، أن نشر أنوزلا لرابط يحيل إلى شريط لتنظيم القاعدة، يعتبر تقديما لأدوات تنفيذ عمليات أرهابية. واليوم يقبع علي المعروف بأفكاره المناهضة للإرهاب، في السجن إلى جانب الإرهابيين المدانين فعلا، ويواجه عقوبة قد تصل مدتها إلى ست سنوات"، يقول أفي سبيجل، أستاذ علم السياسة الأمريكي. هذا الأخير كتب مقالا قبل أسابيع وصف أنوزلا بالصحافي المحبوب والمعروف بمساره الطويل في طرح أصعب الأسئلة المتعلقة بوطنه، "الوطن الذي يحب". الباحث الأمريكي قال في مقال نشره باللغة الانجليزية، إنه لم يتعرف على أنوزلا إلا الصيف الماضي، "وذلك عندما زرت المغرب في إطار بحث أكاديمي، تحدثنا لساعات داخل مكتب موقعه الإلكتروني، وهو عبارة عن قاعة صغيرة، بها صفان من الحواسيب، داخل شقة متواضعة بالعاصمة الرباط. قدم لي أفراد طاقمه واحدا واحدا، والذين سمحوا لي باستعمال حواسيبهم، وباعتباره رئيساً للتحرير، لا يتوفر أنوزلا على حاسوب خاص، بل يشترك مع صحافييه الشباب الحواسيب نفسها". الباحث الأمريكي احتفظ في ذاكرته عن علي انوزلا، بصورة ذلك الرجل الحريص على إظهار التنوع الثقافي لبلاده، "وعندما أخبرته ان لي ولع خاص بمنطقة سوس جنوب المغرب، دعاني إلى مرافقة أسرته إلى هناك في عطلة نهاية الأسبوع. وعندما التقيته بمكتبه ساعة الغذاء من يوم جمعة، دعاني إلى مرافقته لتناول الكسكس في بيته رفقة أسرته". ليخلص الأكاديمي الأمريكي إلى أن النظام المغربي كان ينتظر الفرصة لينتقم من علي انوزلا وموقعه، موقع "لكم"، بكونه، براي أفي سبيجل، إلى جانب نسخته الفرنسية، وجه انتقادات قوية للسلطات المغربية. "أشرفت مع علي أنوزلا رفقة 5 صحفيين، على تأسيس موقع لكم في الفاتح من دجنبر 2010، بتعاقد واضح للمساهمة في تكريس ممارسة صحافية مستقلة، عبر فضاء الانترنت"، يقول الصحافي الشاب وأحد الذين شاركوا في إطلاق حركة 20 فبراير، نجيب شوقي. "منذ بداية المشوار، كانت الظروف المالية جد سيئة، طيلة عملي في الموقع، رفقة الصحافيين، وحتى علي نفسه كان يعيش معنا نفس الوضع، لم نكن نتلقى أجورا كما هو متعارف عليه في باقي المقاولات الصحفية، كنا فقط نقتسم ما يتبقى من عائدات الاشهار، التي كان علي يسميها "منح" وليست اجور، لانها احيانا لم تكن تتجاوز 2000 درهما في الشهر. كنا نشتغل بشكل جماعي، ونناقش كل التفاصيل البسيطة، والقرار يتخد بديمقراطية لم يسبق لي ان عشتها في اية تجربة مهنية اخرى، فلم يكن علي لا مديرا ولا باطرونا، بل كان صحفيا عضوا في الفريق كما باقي الصحفيين في الموقع"، يقول شوقي، مضيفا أنه استفاد مهنيا إلى جانب انوزلا، "حيث كان يتعامل معنا برفق وبصبر كبير، حتى عندما كنا نقع في أخطاء مهنية كبيرة... تعلمت من علي الصبر والأمل والابتسامة الدائمة والانفتاح على كل الافكار والايديولوجيات، وقوة الصحافي في مهنيته وحياده وفي انتصاره لقيم حقوق الانسان والديمقراطية. ساهمنا كموقع في نشر وثائق وكيليكس بكل مضامينها وخصصنا لها "بانير" من داخل الموقع، رغم ان اغلب الصحف الورقية والالكترونية في ذلك الوقت تجنبت بعض الوثائق الخاصة بالملك ومحيطه". يعتبر الصحافي الشاب الذي عمل إلى جانب انوزلا في تجربته الأخيرة، أن وثائق وكيليكس كانت بداية لكسر خطوط حمراء متعلقة بالملكية، "ستتبعها تغطية الثورات العربية لحظة بلحظة ، كما كان الموقع اول من بث شريط الدعوة للاحتجاج يوم 20 فبراير 2011، وتبنى الموقع بشكل صريح الموقف الاعلامي الداعم للحراك الشبابي المنادي باصلاحات سياسية عميقة. كما عشت مع علي تغطية لمجموعة من الاحداث الاجتماعية التي عرفها الريف وتازة ومدن صغيرة كثيرة بالصور والفيديو واضرابات السلفيين في السجون، وغطينا حملة الاستفتاء على الدستور بكل خروقاتها لحظة بلحظة". الخصائص الشخصية لعلي انوزلا، والتي يكاد يجمع عليها أعز أصدقائه كما ألذ خصومه، يعزوها البعض ممن يحبون تفسير السمات الشخصية بالانتماءات الجهوية، بانحداره من أصول صحراوية، وتحديدا المنطقة الصحراوية الواقعة جنوب سوس. هناك حيث مازال بعض المغاربة يعتقدون باستمرار بعض الخصال الإنسانية على حالتها الطبيعية. هناك حيث ولد علي انوزلا وظل إلى السنوات الأخيرة مواظبا على الزيارة وقضاء فترات العطلة، وحيث عاش طفولة يتيم فقد والده الذي راح شهيدا لحرب الصحراء، مدافعا عن الوحدة الترابية للمملكة في صفوف قواتها المسلحة. حقيقة تغيب عن كثير ممن يوجهون له تهمة التشكيك في حقيقة موقفه من هذا الملف الشائك، كلما ضمن مقالاته تحليلات وقراءات لا تتطابق مع السائد والمألوف. فيما منحته دراسة الفلسفة في مرحلته الجامعية، قبل ان يتوجه إلى التكوين في مجال الصحافة ثم احترافها، نزعة نقدية لا تحتمل المطلقات، كما لم تمنعه من احتراف الكتابة في منابر إعلامية عربية مثل جريدة الشرق الأوسط، والتي منحه الاشتغال في مكتبها بالرباط، تأشيرة تلقي دعوات متكررة من برامج القناتين الأولى والثانية، لمساءلة السياسيين ومناقشتهم. ولما جاءت حرب الخليج، ترك الجريدة الخضراء بسبب تأييدها للحرب ضد العراق وسافر الى فرنسا ومنها الى ليبيا حيث عمل مترجما في وكالة الأنباء هناك. ترحال جعل من عرفوه عن قرب يصفونه بالرحالة الصحراوي الباحث عن واحات الحرية والمتنقل بين حقول الألغام. "عرف الموقع بالانفتاح التام على كل القوى الحية السياسية والحقوقية بالمغرب، خاصة الممنوعة من الاعلام العمومي كاليسار الجدري والعدل والاحسان ونشطاء الريف والحقوقيين"، يقول الصحافي نجيب شوقي متحدثا عن تجربة "لكم". مضيفا أن الموقع كان يتعرض لمراقبة لصيقة من الأمن طيلة حراك 20 فبراير، "فرجال الامن كانوا يقفون بشكل يومي أمام باب المقر، وكنا ننتظر صراحة في اية لحظة مداهمة رجال الأمن للمقر. كما كانت تصلنا مكالمات تهديديه من ارقام مجهولة، كل هذه البلطجة كان يواجهها علي بابتسامة عريضة وحكمة كبيرة،مرددا انه مادام هناك غضب فاننا على الطريق الصحيح ويجب علينا ان نواصل عملنا بكل مهنية". كان علي انوزلا يعلم في الفترة الأخيرة أن في دائرة السلطة من يريد خنق تجربته الإعلامية الجديدة، رغم تواضع إمكاناتها وتجفيف منابع تمويلها، حيث لم يعد صحافيوها يتوصلون حتى بمنحة الألفي درهم. وكان سجل الناقمين عليه وعلى موقعه يضم صفحات عديدة مما نشره خلال حراك الشباب المغربي إبان الربيع العربي، وأثناء النقاشات المتعلقة بالدستور والانتخابات... لكن بعضا من متتبعيه، راحوا يقلبون مقالات الرأي التي حملت توقيع علي انوزلا، باحثين فيها عن السبب الذي قد يكون وراء الهجمة غير المسبوقة بواسطة مقتضيات قانون مكافحة الإرهاب لمنعه من مواصلة الكتابة. فمنهم من توقف عند قضية دانييل كالفان الأخيرة، ومنهم فضل إعادة قراءة مقال كتبه علي عن المملكة العربية السعودية وأدوارها المحتملة في التقلبات السياسية بالمنطقة العربية. هذه الأخيرة، حسب مصدر اشتغل إلى جانب انوزلا، كانت وراء الضربة الأولى التي تلقاها في مساره المهني، حين اضطر إلى مغادرة جريدتها الخضراء بعد 15 سنة من العمل ضمن هيئة تحريرها، "وهو ما يفسر علاقته غير الودية مع الرياض منذ ذلك الحين، فالبعض لا يميز بين ممارسة الصحافة كمهنة، وبين حرية الرأي والاختلاف، والإصرار على الجمع بين الأمرين، يعد احد أكبر أسباب متاعب انوزلا". متاعب حولت الرجل إلى رحالة إعلامي، حيث اشتغل في السنوات القليلة الماضية مراسلا لاذاعتين دوليتين، واحدة أمريكية صرفة هي راديو سوا، والثانية فرنسية أصيلة هي مونتي كارلو. جمع بين متناقضات يؤكدها ما نسجه انوزلا من علاقات تصل إلى مسؤولين كبار نافذين في الدولة، حيث سبق له ان التقى بالمستشار ملكي فؤاد عالي الهمة وزاره في بيته بعد استقالته الشهيرة من وزارة الداخلية، كما يرتبط بعلاقة صداقة قوية مع رجل الريف القوي، إلياس العماري. وهو في جمعه بين تناقضات الإعلام والسياسة، شديد الإصرار إلى آراءه، "لدرجة ينطبق معها وصف "الرأس القاصح" على علي بشكل تام، لكنه رغم ذالك يبقى الخجول الذي لا يمكن ان تسمع منه كلمة السوء"، يقول احد الذين عرفوا انوزلا عن قرب شديد.