طلب مني صاحبي أن أختار له موضوعا قانونيا لرسالته في الدكتوراه فأجبته قائلا: «سهل أن تقرأ اليوم في القانون، وسهل جدا أن تكتب فيه، والأسهل من هذا وذاك أن تصنف في عداد كتبته والمضطلعين بمهامه ولو شط بينك وبينه المزار !!» ولا أخالك إلا مادحا لهذه النعمة ومرحبا بها، فإن يفوح عبير الثقافة القانونية ويعم المكان دليل صحة، وبشير بأن مستوى الوعي قد اختار فعلا مساره الصحيح، ولكن حفاوتك ستخبو متى علمت أن هذا اليسر في القراءة والتأليف لا يعني أن فوازير القانون وكليشهاته حلت فغدا طيعا سلسا بين يديك، ولا أن المهتمين به قد سبروا غوره بالنقد والتحليل، فترحموا على ما عف عليه الزمن وانتشلوا القابل منه للعتق والانتشال. لن تجد أثرا مما ذكرت يبرر هذا اليسر، إنما هي طفرة كمية أبدعت في كل شيء إلا في المحتوى، وإني لأهيب بك أنت، أيضا، أن تؤلف في القانون، ولست بمشترط عليك أن تفقه منه شيئا ولي لك ثلاث وصفات لهذه الوليمة القانونية: 1 أن تقتني من أي مكتبة تقنينا في القانون الإداري أو المدني أو قوانين الإجراءات، وتنزع عنه غلافه الأصلي، وتضع مكانه غلافا أنت أبدعته وزدته رونقا وجمالا، على أن تضيف آلية بعد اسمك الكامل تقديما مقتضبا. 2 فإذا لم تقو على اقتناء هذا التقنين، فعليك بالجرائد الرسمية واقتطف منها ما يلحو لك من الظهائر والمراسيم والقرارات، ثم اطبعها واحشرها بين دفتي غلاف سميك زاهي الألوان، وضع اسمك البراق أسفلها. 3 أما إذا شئت أن تبذل بعض الجهد، فاختر من الطريقتين، وأضف إليها بعضا من اجتهادات المحاكم والتعاليق، واجتهد في التنسيق والتغليف، ثم قدمها طعاما سائغا للراغبين. ألست ترى معي أن هذه الوليمة القانونية بطرقها الثلاث هينة عليك، وما أظنك إلا متحمسا وراغبا، وإلا فأقبل بعينيك على أي مكتبة من المكتبات، ألست تفرق بين الكم الهائل من الكتب القانونية بالألوان، فهذا أحمر قان، وآخر أخضر يافع، ومثله أصفر فاقع، وكلها نسخ طبق الأصل عن بعضها لا فرق بينها إلا في اللون والتلفيف والتنظيم، وربما الترجمة، والذي يقف على هذا الحشد الهائل من المساطر والمعاجم والمجموعات بشتى الألوان يوشك أن يحس بأننا مقبلون على حرب قانونية ضروس !! فإذا كنت أنت راغبا في التأليف على هذا النمط والمنوال، فأنا على غير رأيك راغب عنه. في عهد ما من عهود تاريخ التشريع الإسلامي، ظهر فن المختصرات الفقهية، فكان ذلك إيذانا بركود ملموس في الفكر الإسلامي، فكان هناك المختصر المختصر، فمختصر مختصر المختصر، وهلم جرا. وقد كان لهذا الفن هدفه وحظه من الدقة والنظام، على أن الإسراف في المختصرات كان نذيرا بتعطيل ملكة الإبداع والخلق الهادفين، ولعل أثارها كانت ولازالت مائلة. أما اليوم، فلا يشفع لهذه الطائفة من المؤلفين شفيع، فمائدة القانون في أمس الحاجة لمَلْئِهَا بالسمين من الفكر لا الغث، لا ترى فيما يصدر عن هذه الفئة إبداعا، أعوذ بالله، بل هناك إبداع في انتقاء العنوان الكبير المثير، ولن تجد بعده إلا جردا كاملا للقواعد القانونية التي يمكن الحصول عليها بأبسط سبيل، فإذا استطعت أن تتقن لغة أجنبية مع الاعتماد على كتاب «كيف تتعلم اللغة في خمسة أيام»، فإنك باعتمادك على هذا الخضم الهائل من الكتب القانونية السالفة، تستطيع أن تفك رموز القانون، وتتبوأ بفضلها أحسن الرتب. ما نسجت هذا الحديث من الخيال، ولكن بين يدي كل مهتم بالقانون عديد من الكتب القانونية التي ينطبق عليها الفصل 440 من قانون الالتزامات والعقود، والذي جاء فيه: «النسخ المأخوذ عن أصول الوثائق الرسمية أو الوثائق العرفية لها نفي قوة الإثبات التي لأصُولِهَا»، فكل هذه المصنفات نسخ طبق الأصل لبعضها البعض، وهي تثقل كاهل المكتبات بدون طائل، على أن لها فضلا في زينتها بألوانها لزاهية، فمن شاء أن يضعها بمنزله على سبيل «الديكور» فقط، فإنها خير ما ينتقي. استغرب صاحبي وقال: لِمَ قلت لي كل هذا، أنا فقط، أريد موضوعا للدراسة. قلت: لكي تُهيئ رسالتك تحت عنوان: «إشكالية الغلاف في القانون المغربي المعاصر». ضحك صاحبي، وانصرف لإعدادها !!! رئيس المنتدى المغربي للقضاة الباحثين [email protected]