خلوة مجلس حقوق الإنسان بالرباط: اجتماع للتفكير وتبادل الآراء بشأن وضعية المجلس ومستقبله    مجلس الحكومة يصادق على مقترحات تعيين في مناصب عليا    الحكومة تصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    وفاة ضابطين في حادث تحطم طائرة تدريب تابعة للقوات الجوية الملكية    يخص حماية التراث.. مجلس الحكومة يصادق على مشروع قانون جديد    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    إتحاد طنجة يستقبل المغرب التطواني بالملعب البلدي بالقنيطرة    توقيف شخصين بطنجة وحجز 116 كيلوغراماً من مخدر الشيرا    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    الجديدة.. الدرك يحبط في أقل من 24 ساعة ثاني عملية للاتجار بالبشر    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    القنيطرة تحتضن ديربي "الشمال" بحضور مشجعي اتحاد طنجة فقط    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    إسرائيل: محكمة لاهاي فقدت "الشرعية"    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    الحزب الحاكم في البرازيل يعلن دعم المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص        وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن        سعر البيتكوين يتخطى عتبة ال 95 ألف دولار للمرة الأولى    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    حادثة مأساوية تكشف أزمة النقل العمومي بإقليم العرائش    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    الأساتذة الباحثون بجامعة ابن زهر يحتجّون على مذكّرة وزارية تهدّد مُكتسباتهم المهنية    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    بلاغ قوي للتنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تجربة الأدب المهجري
نشر في طنجة الأدبية يوم 17 - 11 - 2014


-1
تجربة الأدب المهجري وأهمية رسالته الأدبية والتاريخية، بالنسبة للجالية المغاربية والعربية بالمهجر.
إذا استوعبنا أحرف وكلمات هذا العنوان العريض، الذي كان لابد منه لتوفير معناه الكامل، فلا شك أنها ستعترضنا اسئلة عديدة، لترد عن سابقتها التي تجد محلها في أذهاننا مبدئياً. مثال على ذلك:
ما الذي سيضيفه هذا الطائر المهاجر بتجربته، وهو يعيش خارج وكره أو مملكته ؟
- هل هو حقا دخيل بالنسبة لما يروج له بداخل الوطن الأم، لأنه لا يلتزم بما يفرض عليه.. أكتب هذا، ولا تكتب هكذا ؟
- ما هو الجديد والشكل، في عالم التخييل والابداع والواقع، في الكتابة المهجرية، أو بمعنى آخر، العمق الثقافي في إنتاج أدب الهجرة ؟
- ماهي القضايا والألفاظ التي غابت عند المبدعين بأرض أوطانهم، واكتشفتها أقلام المغتربين عن أوطانهم ؟
- هل يلتزمون بخصائص الكتابة وبشروطها ؟ أم أن أصحاب هذا الانتاج لم يحتكوا بمدارسهم، وعاداتهم، وأسواقهم، وأنهم يمثلون وحدة يدور عقربها حول نفسها فقط ؟ أم أن سردهم يثير الغبار.. فقط.
ولمناقشة هذا الموضوع، وإبداء الرأي في تحليل هذا الفضاء الشاسع في بضع جمل { بين قوسين }ألوح بإجابة سريعة على السؤال الأخير، لأن صاحبه لم يدع فرصة إلا وأثار ما يتطلب الرد، وأن كان صاحب السؤال صرح لي بعظم لسانه أنه لا يقرأ ما يسمونه بأدب المهجر:وقد حان الوقت للرد عليه من خلال هذه الدراسة، وأنا متيقن أنه سيغير بطاقته ... أشد القوس.

لا شك أن ما يكتبه الكاتب، سواء داخل بلده أو من خارج مملكته، هي حصيلة ذاتية يتم توزيعها في كل مكان، إن لم تكن دواء، تكن وسيلة.. إن لم تكن صيحة، تكن تواصل، وكلاهما يجد طريقه الذي يتنفس من خلاله، إما اجتماعيا أو سياسيا، أو تربويا، أو إعلاميا. والكل يصب في قالب واحد، حسب الرغبة والاجتهاد والميول. وهي جزء من الثقافة العربية، برسم حروفها، والعقل الذي ابتدعها، ونفخ في روحها، وغير مستوردة. وقيمة إنسانية بنت مرحة من تاريخ جيل له أصل و فرع.. وطن و عادات.
ثم أرجع وأقول : ما الفائدة أن نقرأ بعد عقود من الزمان مثلا ميخائيل نعيمة.. جبران خليل جبران ..أمين الريحاني ..إليا أبو ماضي..مي زيادة الفلسطينية المسقط، لبنانية النشأة، مصرية الاقامة. وخليل الخوري, وحسين هيكل.
ما الفائدة في معرفة تجربة الماضي القريب.. عبد اللطيف اللعبي صاحب { ازهرت شجرة الحديد }وعبد الله ازريقة صاحب ضحكات شجرة الكلام ؟ والطاهر بنجلون والشاعر والصحفي الجزائري ازراج عمرمن لندن ؟
والسياب والجواهري وأدونيس ودرويش وغيرهم كثير ؟
هؤلاء كلهم طيور باجنحة أو بدون أجنحة .. لا يهم .. لم يتخلفوا قط عن واجبهم, ثمة أسماء كتب لها أن تحفر نفقا لها، غردت من وراء البحار والجبال والمرتفعات، ونطحت صيحاتها عمق الأسقف لتصل الى عشاقها، وبنت أهراماتها، وأضحت علما يستنير به الطالب والمعلم والمتعلم والراغب في المعرفة، وهكذا...
بعض هذه الكوادر التي بنت تجربتها الابداعية وشاركت في الحركة الأدبية هنا و هناك، والتي تعرضنا لبعض الأسماء منها..والتي تتفاوت في تواريخ الميلاد، وتختلف حسب الأوطان والجنسيات، تعد كما يشير عنوان المحاضرة تجربة وتياراً ورسالة من أدب المهجر، كبداية عهد جديد من الماضي، وقد جاءت متسلسلة كموجة البحار، تتكلم عن الموروث، حتى لا يفقد لمعانه.

-2

بعض هؤلاء صّور زمن الرحلات، وبعضهم دخل في صلب الموضوع ونقل ثقل الغربة كما هي، وطورها إلى أقصوصة أو رواية. وتوفيق الحكيم في روايته { عصفور من الشرق }، وطه حسين والمنفلوطي نموذج لا يمكن نكرانه، لهؤلاء الذين حملوا معهم بعد عودتهم واستكمال دراستهم، أمثلة من المقارنة بين الحضارة الفرنسية والمصرية. وكانت رواية { موسم الهجرة إلى الشمالى } لطيب صالح السبعينية لا نقول عنها كنموذج، بل هي صلب النموذج وعبر رعيلها في تجربتهم عن همومهم وهموم الغير، بنصوص تجمع بين الخدمات الإجتماعية التي هي الأصل في كتابتها، وبين الحكي أو السرديات. وسايروا العصر في رحلة الإغتراب، ليحكوا بلغتهم الحضارية، وضميرها لا بضمير لا يعرف عن الهجرة وأناسها إلا القشور. لينقلوا لنا ولللأجيال القادمة، عبر الزمان والمكان، حياة شعوب، وحضارات بسلبيتها وإيجابياتها وإلاَّ ما عرفت الحداثة مكانها من الإعراب. وهذا كله لم يقف قط عرضة في تطور إقتصاد البلدان، أو حرية الوطن والمواطن، قدر ما تزيد في رقعة المعرفة، وإمكانيات العلاقة وكيفية المعامل، وهذا يجرنا للقول :
معرفة الشيئ أفضل من جهله. وقبل الشروع في درس اليوم أما م التلاميذ، لابد من مراجعة درس الأمس، للربط بين الأمس والغد.
تجربة أدب مهجري { وإن كانت مغيبة بداخل جامعاتنا ومجتمعنا المغاربي على الخصوص ولا أعمم} ليست بجديدة، حتى في العهود القديمة عرفها الإنسان عبر رحلاته وتنقلاته من موطن إلى آخر، ومن نزوح أهل البادية الى المدينة والإنشغال على إيقاعها.
هي نقلة من عهد المعلقات ووصف الخيل والجمل والسيف والرمح، ورعد و برق المهلل وخمارة امرؤ القيس، إلى عهد الفتوحات الاسلامية، إلى عهد الحطيئة وجرير، إلى عهد أبي نواس وأبي تمام، إلى عهد الموشحات واستعطاف الممالك بالأندلس. إلى عهد النهضة والبعثاث الثقافية إلى الخارج، إلى عهد تجديد صيغة كتابة الرواية والقصة، وتقليد الغرب في القصيدة الحرة.
كل هذه المراحل التاريخية خلفت رسائل ودواين أغلبية اصحابها رحَّل, أو للإقامة في موطن آخر، إما لطلب العلم أو التجارة، أو التَّملق لملك أو خليفة، أو لوصف حرب، قبيلة ضد قبيلة، أو لظروف سياسية اجتماعية أسرية. ولا حرج أن تصنف من أدب الهجرة ، ما دامت فيها ازدواجية بين النص وكاتب النص الذي يفرغ طاقته وانفعالاته، يحكي عن تنقلاته وتجربته بأسلوب يشد إليه القارئ. وهي حاليا متوفرة بكثرة في قصص وروايات هذا القرن، وخاصة هذا الجيل الذي يمثل أدب المهجر من السبعينات الى يومنا هذا. وإذا قمنا بعملية احصاء أقلام المهجر، أو علاقة المودة بين صاحب النص والمتلقي كما أسميها..عربية كانت أو مستعربة، لا تتوقف عن وطن دون الآخر، من ذلك العهد الى يومنا هذا، سوف تنقلب الموازين، لأن تجربة الكتابة في ديار المهجر، لا تقف عند حد أو غاية، ( إلا عند بعض المتطفلين ). ساهمت بكثير في المواطنة والاندماج والتغني بالوطن الأم، وكشفت عن عيوب لم يقدر المواطن العربي الإفشاء بها داخل وطنه، ومدت جسورا بين الوطن العربي الكبير، وعرَّفت هذا بذاك، وساهمت في ترجمة بعض المعاجم ومن لغة الى أخرى، وأسست صحفا ومجلات، وآخت بين لغة المهجر، ولغة الوطن الأم. وتعد بحق إضافة لامتداد للمجايلة، والكلمة للتاريخ . وأنصح بإطلالة على ترجمة بدائرة المعارف لمعرفة الصح من الخطأ، لمعرفة جل الكتاب والشعراء، لم يستقروا في بلد واحد حتى لو رجعنا للعهد الجاهلي كما سبق .
-3
من هذا المنطلق، لايمكن احتواء الأمس البعيد والبعيد القريب، والقريب القريب، لنلخص تجربة الأدب المهجري، و أهميته الأدبية في ظرف ساعات محدودة، بصفحات قليلة. هي محاولة واجتهاد، واتباتاث من التاريخ والتجربة والإحتكاك. ويخطئ من يحاول أن يحدد التوقيت والزمن لانطلاقة كتابة الأدب المهجري بأوروبا. في نفس السياق للمقارنة ينطبق على تسليط الضوء، ما هي أول رواية أو قصة يمكن إدراجها كأول رواية عربية خرجت للناس في الأسواق.؟ عند طرح هذا السؤال تجد نفسك في المزايدة، أو في جلسة انتخابية تحتاج لمن يدعم مشروعك. لدينا حسين هيكل وروايته /زينب / سنة 1913 ولدينا خليل الخوري وروايته (ويكْ) إذن لست بإفرنجي، سنة 1809 والفرق بينهما ما يزيد عن قرن، وغيرهم كثير. والكتاب أو النقاد الذين تعرضوا لنقد هذه الأعمال لمنح الريادة لإحدى الروايات العربية، هم منقسمون حسب النص والاسلوب، والموازين التي يرونها. يجب أن تكمل كتابة القصة أو الرواية، هل هي جماهيرية إنطباعية؟ هل تحمل طابعا ثوريا ضد من؟ وهل تحمل تقاليد فن السرد.. والحسم هنا وبالخصوص في سردنا حول تاريخ بداية انطلاقة كتابة أدب المهجر، نحتاج للعودة الى استخدام علم القياس كما يحدث في الأحاديث النبوية على ما أظن، نراعي فيه انطلاقة هجرة الأيدي العاملة، وأعني المهاجر المغاربي لنربط حديثنا بموضوع محاضرتنا لأن توثيق هذا النوع من الأدب لم يكن متوفرا لسبب أو لآخر. وظل هذا التصور مغلقاً، حتى لا يصير أُنطولوجية العصر المقلقة، لما يحمله من مدلولات فكرية خاصة إذا كان يضر ببعض الجهات التي كانت تقمع حرية الكتابة ضدهم، فاعتمدوا على طريقة الكتابة السرية مع إخفاء الاسم أو استعمال اسم مستعار، كما حصل مع حسين هيكل كمثال في روايته /زينب / حين نشرها باسم / فلاح مصري سنة 1913 . مما شجع على هجرة الأقلام والعقول والكتاب والشعراء والمبدعين إلى عالم أرحب. وكانت البلدان الأوروبية قبلة لهم أغلبهم من شمال أفريقيا كالمغرب والجزائر وتونس. وكانت فرنسا البلد الذي وقع عليه الاختيار وقتها، بلد تعدد الثقافات، استوعبت الكم الهائل من اللاجئين السياسيين ومبدعين "فرنكفونيين" سرعان ما اندمجوا لأسباب مختلفة. وأعطت الهجرة ثمارها، وبلغ الكتاب المهجري قيمته في الأسواق، ونشطت صالونات للحوار والمناقشة، وشجع ذلك تراكم الطلبة القادمين من شمال الدول المغاربية لإتمام دراستهم في تخصصاتهم، حتى أن بعضهم وجد نفسه يحمل هم وطنه فاختار البقاء لتسخير قلمه ضد الاستبداد والظلم, وهم يمثلون الآن محورا لا ينتظر يدا أن تنزل من العلو لترضي عنه، لأنه صنع هرما من الأعمال، من بينها السمين والهزيل، وهذه ظاهرة تجدها حتى بين الكتاب بداخل الوطن الأم. ويرتكبها حتى من يدعي أنه معصوم من الخطأ.
وكما سبق قوله في هذه المرحلة، ابتدأ التجريب في الكتابة، وشق الكاتب طريقه الى القارئ باللغة التي يحسنها كالفرنسية، تصاحبها بعض الأعمال باللغة القومية أو الاسبانية. وإلى جانب القلم والورق، ساهمت بعض القنوات المسموعة والمرئية، كالراديو والتلفاز، وهي مصلحة مشتركة بين الدولة المضيفة، لتبلغ معلوماتها إلى العمال العاديين في القوانين والتشريعات، التي يجب الحفاظ عليها ماداموا ضيوفا عندها، من خلال برامج بلغة يستوعبونها.

-4

هذا من جهة.. ومن جهة أخرى, إن ما كتب قبل الستينات، وبعدها بقليل كان أكثره أدب مقاومة والحماية. ثم ظهرت أقلام لتسير في اتجاه مغاير بعد احتكاكها بالشعوب الاوروبية، فبدأنا نسمع الغزل والاغتراب، وأدب السجون. وبراكين متفجرة من أدب المقاومة الفلسطينية التي لم تضرب بالحجارة ولا ببندقية، قدر ما كانت تضرب بمدادها وأقلامها، من خارج أوطانها. هنا يجدر بنا أن نشير، بأن الستينات وكأنها كانت ترويضا لما هو قادم من تغيير في الفكر والمواطنة والثورة العلمية والطلابية، وثقافة النفط، كما يحلو لي أن أسميها. لأن ثقافة بداية الستينات إنطلقت مع اكتشاف النفط بالخليج التي صادفت استقلال بعض الدول العربية. ومن يومها، لم تر جريدة أو مجلة ببلاد المهجر كفرنسا مثلا، إلا وتحمل بين طياتها مادة نفطية، مما دفعت بصفقة جديدة لنوع الهجرة، من رجال المشاريع بدافع أو بآخر، لتأسيس دور للنشر والطباعة، من أجل الاشهار بمنتوجاتها ومشارعها، حكومية أو وطنية. وكانت فرنسا وانجلترا وإسبانيا بوابة لهؤلاء، لما تزخر به من حرية في الفكر. كل هذا ساعد المقاول العربي، ورجل أعمال وصاحب شركة، بتأسيس و تمويل جريدة أو مجلة، للقيام بأعمال إشهارية صرفة. وبين الحين والآخر، كانت تسمح بنشر قصيدة أو خاطرة، أو حوار مع حسنوات السينما بأسلوب فني أدبي، بجانب صفحة خاصة لأحسن أنواع العطر. وكانت مجلة ( الوطن العربي) التي كان يترأسها وليد ابو ظهر تقود سفينة من هذا النوع، واتخذت باريس مقرا لها. ثم ظهرت للوجود في مطلع السبعينات جريدة ( العرب ) كأول صحيفة عربية تدخل اكشاك أوروبا والعالم العربي، ومقرها لندن، تحت إشراف ورعاية مديرها و مؤسسها المرحوم أحمد الصالحين الهوني الليبي الأصل، بهدف سياسي أكثر منه ثقافي. لكن رغم ذلك فتحت قلبها للمبدعين وخصصت صفحة كاملة للشعر والقصة القصيرة والفن مر عبر دروبها العديد من كتاب المهجر. وكانت صوت المغتربين من مطلع السبعينيات الى أواخر التسعينيات لتصبح قبضة من حديد لتوجيهات سياسية مضاضة لما كانت عليه في عهد مؤسسها أحمد الهوني. وبعدها بقليل بزغت جريدة الزمان تحذو حذو جريدة العرب تحت غطاء مضاد لها، وكانت هجرة الأيدي العاملة إلى أوروبا تتطلب من دوي التجارب البسيطة، ومن له خبرة أو معلومة أن يستخدمها ويقوم بتفعيلها بداخل المجموعة العمالية المهاجرة لملئ الفراغ، ومد المهاجر بما ينفعه، أو على الأقل يرضيه ويؤنسه في خلوته، وإن كان مطلب الجالية المهاجرة حينها لا يرغب في القراءة او التعليم قدر ما كان يرغب في كسب رزق يومه . ولم يكن للحكومة المضيفة له ,بحكم تشغيله عندها في بلده إلا أن تستجيب لضيوفها, أغلبيتهم من المناطق الشمالية الأفريقية بحكم أن سبق لها ان استعمرت أراضيهم وتربطها سياسة واقتصاد.
وكان مطلع السبعينيات، لانقول بداية، ولكن مرحلة أطلت من خلالها بعض القنوات المتلفزة، منها الفرنسية والبلجيكية والهولندية والألمانية بلسان عربي، مابين الفصيح والدارج، بمعنى خصصت توقيتا زمنيا قصيرا مرة كل أسبوع، قصد معلومة إخبارية تهم العمال فقط، تم تطويرها فيما بعد، تقتصر على الأخبار وبعض الأنشطة، مرة للكبار ومرة للصغار، بعضها تم توثيقها، وبعضها هو الآن في الأرشيف. ومنها أعمال تستحق الإعتراف بها كتجربة أدبية مهجرية سجلت مراحل تاريخية لجيل اجتهد و ابدع. وشارك في الحركة الأدبية المهجرية بكتاباته وندواته ومحاضراته وبلوحاته الفنية.
-5

وإضافة لهذا السياق المتكامل الصورة، كان لابد , وهو أمر طبيعي..أن تتكون جمعيات ثقافية، وإنشاء مراكز ثقافية وأندية، لكن الصراعات القبلية والسياسية والفكرية عرفت من أين يؤكل الطير، فجعلت من كل هذه الجمعيات والمراكز أن لا تعطي أكثر من إسم، وبناية تستقر تحت سقفها، وأموال تحصل عليها من البلد الذي تستقر على أرضه. ويبقى المبدع والمثقف على الهامش، حتى الأستاذ أو معلم البراعم احترق بشرارة لا مبالاة، زد على هذا (ولاحول ولاقوة الا بالله ). والمتعارف عليه هناك من الكتاب، ثروتهم الأدبية فاقت العدد المطلوب، لكن إنطواءهم.. وكبرياءهم، وأنانيتهم، ساعدت في اختفائهم عن الجمهور، يحسبون أن كل أزقة لندن و باريس وبروكسل وامستردام مفروشة لهم بالورود وأن كل الناس تطبل لهم، وأن موعد الأُسْكار لن يتخلى عنهم. وهناك من اكتفى بطبع كتاب أو كتابين ومضى ينتظر ردود الفعل من القراء والقارءات، والمكالمات الهاتفية والدعوة الى القاء محاضرات أو غير ذلك، وهذا غرور وأنانية لا محالة. وهنا لدي وقفة قصيرة أتساءل: "أين طليعة شباب المهجر على الخصوص الشباب المغاربي، ومساهماتهم الأدبية؟ وهل يأتي هذا الغياب بحجة أنهم لجأوا للغات أخرى مما قلل من عددهم وتجاهل أبناء جلدتهم لهم ؟ هذه الأسئلة سنتعرض اليها فيما بعد".
وفي غمضة.. بين مُقلة و أخرى، تضاف الى سجل الهجرة جماعات تحمل على كاهلها خوف الحروب والفزع والضد، والهروب من نكسة وحرب العراق. هذه الفئة منها الشاعر والكاتب والمهندس والطبيب والصحفي والحقوقي، حتى السياسي، كلهم حطوا رحالهم ببلدان أوروبا حاملين معهم ثقافتهم و أقلامهم وعواطفهم. وسخروها كلمات ومفردات هي الآن على الورق قد تجدها صحيفة أو ديوانا أو رواية أو قصة، لا يمكن استبعادها أو نكرانها عن موضوعنا هذا. وتعد تجربة أدبية هي كذلك، لأنها جاءت لتبدأ عهدا جديدا في صياغة تجربة ذات طابع قومي سياسي، بكل فئاته التنظيمية والحركية والعرقية. فبادر المبدعون من هذه الفئة وبتعاون مع الجالية المغاربية المبدعة بتأسيس جمعيات ثقافية التقى فيها المغربي والتونسي والجزائري والفلسطيني والعراقي، وحتى كتاب و شعراء وفنانين من البلد المضيف. هذا كاتب مواطن بلجيكي وذاك شاعر هولندي يدا في يد، وابتدأت مسيرة الابداع ، قد نطلق عليها صرخات أدباء المهجر خلفت عدة مؤلفات من دواوين وقصص وروايات وصحف ومجلات، وكلها ترتبط بحكايا المهجر والأغتراب وعلاقتها بالوطن، والوطن المضيف، وبلغته وعاداته ومعاملته.. لكن هذا التجانس والتوسع في بناء أدب المهجر، بين جنس القارة الافريقية أي شمالها، وبين إخوتنا اللاجئين القادمين من اشتعال حرب خليجية الى بلد آمن، كهولندا وبلجيكا لم يستمر حين قيل أن العراق أضحى أرض سلام. منهم من جمع حقيبته من أجل العودة إلى وطنه وهم الأغلبية، فتراجعت وتقلصت فضاءات اللقاءات الثقافية وغيرها وأغلقت الأبواب بعد 11 شتمبر الذي حول كفة الميزان من ثقافة الثقافة الى المراقبة وإيقاف تمويل الأنشطة بما فيها الأنشطة الثقافية والأدبية. ولم نعد نسمع سوى صيحات هنا وهناك وهنا نتوقف عند مراحل تاريخية كان لابد منها لإنارة دروب التجارب الأدبية إلى أين ؟ وما مصيرها مع الغد مع الجيل القادم. وعلى أي خطاب لغوي سيستمر؟ الجيل الذي سيمد هذه التجربة الأدبية المهجرية باستيعاب الأفكار ونموها، وتجديد نفسها، وتوسيع رقعتها، وربط حاضرها بمستقبلها، والإقبال على قراءتها، والحوار مع أصحابها والمشاركة في حركة ألإنتاج والإبداع بكل أاسف مفقودة، لأن جيل الهجرة بعد الألفية، لم يتعود ولا يريد أن يتعود على ملازمة القلم والورق ومصاحبة الكتاب، لأنه أصيب بهيستريا فقدان المناعة القراءتية، وعدم الرغبة على مسك الكتاب بين أصابعه لساعات طوال كما حمله الذين من قبلهم، وعدم ألإهتمام باللغة العربية أو بلغته القومية، وبتعليمها وتعلمها. والأغلبية منهم اعترضتهم فوارق العصبية تدعوا إلى التخلي عن تعليم اللغة العربية، والاقبال على الكلام والتعليم بلهجات هي الآن في طريق تطوير أسسها ,بالإضافة الى حالات جَرْ و مجرور .

-6

لكن البعض منهم يومن بالمجايلة، فاستنجد بلغة الدولة المضيفة له كانت إسبانية أو فرنسية أو هولندية لعله يربط هذا بذاك، ويحقق طموحاته من خلال تجربة تكون معبرا للتواصل مع الآخر. وهذا جميل ويضيف لمواسم الابداع نكهة بروح رياضية، لكن كل هذه التجارب لم تجد نفعا بين خضم ابتلاء الشباب بالشبكات العنكبوتية، التي أغنته عن لهفته لتصفح الورق، الذي كان ولا يزال ثمن طبعه في الصعود حتى أضحى توأما للعملة الصعبة في صعودها وقيمتها. وأشير هنا أنه بالرغم من تجربة الكتابة بلغات أجنبية من طرف الكاتب العربي بصفة عامة، وخاصة بالمهجر، ألإقبال عليها محدود، منعدمة العلاقة مع القارئ ، اللهم إذا كان القارئ من جنس الكاتب لغوياً، أو من قبيلته خاصة هناك لغات تعد لغة حبوس على أهلها. وأقرب مثال نأخذ عملا إبداعيا لكاتب مغربي باللغة الهولندية ونضعه بين يدي قارئ عربي يستقر في وطنه، تشعر وكأنك سلمته قطعة اشفنجية، بخلاف إذا سلمته عملا بلغته وهي العربية على سبيل المثال. وأنا متيقن أن هذا العمل سيجد قراءه في نصف الكرة الأرضية. مع الأسف لقد أغلقت العديد من الفضاءات الثقافية والتنشيطية أبوابها التي قد تساعد أو تساهم على الأقل في دعم تجربة الأدب المهجري بالنسبة للجالية المغاربية العربية، وتمدها بمساحة تلتقي على رصيفها مع جمهورها، لترتقي بتجربتها الابداعية الى توثيق مجريات الهجرة، وإعطائها مصداقية تدخل وتندمج وتفرض وجودها بداخل البلد المضيف، تتكلم عنها أجيالهم وأجيالنا حول طاولة واحدة. ولا يغيب دور الجمعيات التي عاهدناها في الماضي بأنشطتها الثقافية أغلقت نوافذها كما سبق ذكره، وأسندت ظهرها على جدار وحولت أرضيتها من تثقيف وتوعية الجالية المهاجرة، واستسلمت الى الطرق السهلة بتكالبها للإنظمام الى الأحزاب ورفع شعاراتهم، للحصول على مقعد . وهذا موضوع آخر، رغم هذا يرتبط بذاك، الماء والهواء سيان. وفي نفس الاتجاه من محاضرتنا نمر على دور مؤسسات العبادة من جوامع ومراكز.. شاركت هي كذلك في نفس اللعبة، ورسمت حدودها، وأغلقت أبوابها، وأصابها ألإنقسام. وتم تشطيب وتكنيس كل ماهو ثقافي، ونبذ الكتاب والمبدعين من لائحتهم، الثقافة الفكرية وركزت على صناعة خطبتي الجمعة وبعض حلقات تتلاءم وطبيعة الجماعة التي تسهر على حماية المبنى، وتركيع كل خدام المؤسسة الدينية تحت سلطة واحدة بما فيها خطيب الجمعة. وتهافتهم على جمع التبرعات كل جمعة، مرة بدعوى بناء مسجد ومرة بدعوى دعم جهة محاربة ضد أخرى دون علم من هو فيهم الظالم وتبعث باسم الدين، بحجة أنهم وصايا على الدين، مع أنه هناك والحمد لله مؤسسات خيرية كثر .. وصناديق حكومية كثر .. والساهرين على الكوارث الطبيعية والحروب كثر.. علما أن دولة واحدة بترولية تكفي لإطعام و إشباع نصف سكان العالم بحيواناتها وحشراتها وطيورها ودينصورها.
وتتراكم السنوات، وتتطور الأفكار، وتزداد مشاكل المراكز الاسلامية والجوامع عقدة، ليصل بها الحد إلى منع المحاضرات الأدبية والفكرية من على منابرها، لأنها من المحرمات. الكاتب والشاعر والمفكر لا أساس لهم، ولا مقعد لهم كمحاضرين فيما يحتاجه الشباب من تغذية الفكر وتنويرهم في مواد لا تتعرض لها خطب الجمعة كعلم التاريخ والجغرافيا والعلوم وبعض المحطات في معرفة أو الإطلالة عليها على سبيل المثال : ازدهار حضارة العرب في عهد الدولة العباسية، الى قمة الحضارة بالأندلس ومعرفة صقورها وعلماءها وفلاسفتها واكتشافاتهم في علم الجبر والطب ووو هذا مختصر أعتبره عائق في نجاح تجربة أدب المهجر بأوروبا لأن.دور المساجد والمراكز الإسلامية هي أقرب للمغترب بفضائها الرحب وبزوارها.. ومكتبتها، وبين زواياها يمكن احتكاك الكاتب والشاعر والفنان والرياضي وكل المواهب مع بعضها، وهي فرصة يتم فيها التمرين على قبضة القلم.
--7

كلنا نعرف أن الشارع لا يساعد على التقارب والتوافق بالمعنى الصحيح، والمقاهي في نظر البعض مشبوهة. على الأقل ان يكون دور المؤسسات الدينية في إسهام ولو بنسبة قليلة في هذا الموروث، الذي نسميه هنا الإبداع. وهذا يعرفه العام والخاص أن تجربة الأدب المهجري بأوروبا من عهد الستينات الى يومنا هذا، لم تحظ ولو بنظرة تقديرية من بني جلدها سواء بداخل أوروبا أو في خارجها إلا من ساعده الحظ، رغم أن انطلاقة أغلب الأعمال الإبداعية جاءت تعالج قضايا الهجرة. نجدها في كتابات متعددة، سواء على الصعيد القصصي، أو الروائي أو المقالي أو حكائي أو الشعري، واللائحة طويلة لكتاب التجريب المهجري بأوروبا. وأحيانا تكتب بلغة قريبة للمثقف العادي، وأحيانا تكون نمطية السردية مختزلة مختصرة وقد حاولت في مدة قصيرة ألإطلالة في شرفات مكتبتي للبحث، علني أحصل على نسخ، بعضها اشتريته من المكتبات، وبعضها تسلمتها من أصحابها، وبعضها تسلمتها عبر البريد، ومن الأسماء الحديثة التي تعرفت عليها ولا يمكن الاستغناء عنها لآنها امتداد للصحوة الأدبية بالديار الاوروبية، وتعد أهلا للتجريب والابداع, منهم الزميل والصديق الاستاذ فؤاد السني، عبد الاله الصالح صاحب ديوان (كلما لامست شيئا كسرته) الاستاذ محمد أعشبون (سيأتيك الصهيل خارطة) , و الاستاذ محمد الجباري ( اشواق مهاجرة) والاستاذ محمد البومسهولي. والاستاذ ادريس يزيدي . والاستاذ ابراهيم كنون وكلهم سيأتي في هذا السرد دوره على انفراد وغيرهم. مع مقتطف من نصه.
هذه الاعمال التي سنذكر منها، والتي غابت عن أعيننا، والتي لا نعرفها اصلا، والتي اختفت مع صاحبها، إما بوفاة أو مرض أو لسبب. ليست مصنوعة من ورق أشجار، يمر عليها العام فتسقط ، بل هي لحم وشحم وعظام، تمشي وتعيش وسطنا، هي صحوة ومعاناة لا تقلُّ معنى وثقافة وهدفا وثروة عن ما يدون و يكتب بالوطن الأم. الفارق نلمسه و نعايشه ونشعر به، ونحترق بفراقه.
كميات عديدة من التجارب الابداعية من هذا النوع لها أهمية فيما يخص الهجرة، وهي تؤرخ للعامل، وتطور هجرته وترافق مراحل تواجده في الديار الاوروبية، وتقوم بالنبش في الحالات الإجتماعية فتختزلها في سطور وفي كلمات تتداولها الألسن من عرب و عج.م زد على هذا قضايا الإندماج ، ومعانة الإنسان المهاجر,.. كيف يعيش في شتات دائم بين وطن أم، ووطن مضيف، طال الأمد على أرضه، وأين المفر؟ لم يكن من السهل إهمال صورة قضايا الهجرة وغياب قلم التجربة الأدبية لكتاب المهجر، حتى ظل الانسان وأعني المهاجر وهو يسير فوق الأرض .. في بيته في عمله، تحت الثلج والمطر، عاداته وتقاليده. هي همه الوحيد وقد بلغ بكتاب المهجر من خلال كتاباتهم الرواية أو القصة او ديوان شعر، أو تعليقاتهم الصحفية إلى فضح ما أمكن فضحه من عنصرية ومطاردة، والمطالبة بالمزيد من الحرية للمواطن الأجنبي كيفما كانت جنسيته والمساوات في الحقوق والأجور. مما يدل أن مرجعية هذا الكم من الأعمال التي سايرت تجربة الأدب المهجري من شعوب عربية مختلفة مرة بلسان عربي ومرة بلسان البلد المضيف على أرضه، لها من الأهمية، كما يؤرخ بداخل القصور أو بخارجها. أّرَّختْ، و قربت المسافة بينها وبين ساكنة البلدان الاوروبية، وكشفت زوايا من الحالات الاجتماعية والثقافية والفكرية التي تخدم مصالح الجميع، وصححت مصار الهجرة بعد أن إستنفرها البعض، أو بعد أن استقربها المطاف كما نشاهدها ونعيش تحت سقفها. فإذا قيل: تاريخ العرب ديوانهم ، فيحق القول، أن تجربة الأدب المهجري بأوروبا هي ديوان ومعطيات منذ إنطلاقة هجرة العامل والطالب، والفارين من جهنمية الحروب والقمع. هي ديوان (و سجل)كما يحلو لجماعة تشغل كراسي حكومية ببلداننا العربية، جمعتني معهم لحظة نقاش، قال أحدهم موجها الطعن لي على إثر كلمة ( ديوان ) قال : لا " تضخم" الموضوع حتى تصف ما كتب عن الهجرة من شعر وغيره صبغة ديوان، وكان الرد مني نظرة اشمئزازصححت انزلاقة لسانه .
-8
قلت.. هي ديوان وأعني بتجربة الأدب المهجري المغاربي - العربي ، ديوان يطمح ليخلف بصمة تاريخية، واجتهادات وثقافة وخبرة، وإبداع متكامل مرتبط باليوم والشهر والسنة.
هو صحن يشمل كافة كل مواسم السنة، رحلة مع العامل. مع العاملة.. مع الطفل والطفلة ...مرآة بداخل مجتمع.. اندماج..الربط بين الغربة والوطن..الكتابة عن الأيام الخوالي..التغني بالحرية.. الإنتقال من وصف الشوكة إلى وصف الوردة..التغيير في ذيباجة الكتابة ..اصدار,وأغناء المكتبات العربية بأعمال إبداعية مهجرية مشتركة، وبلغات مختلفة. عربي فرنسي، هولندي عربي، إسباني عربي.. عربي انجليزي.
مرة أخرى أسأل ذاتي والحضور المحترم : أين نحن من الحضارة ؟ في الوقت يتم فيه إقصاء المبدعين المهجريين والترحيب برؤوس الأموال وإدماجهم في كراسي البرلمان كممثلين ونواب عن المهاجرين أين نصيب المبدع المهاجر؟ لولا عطف وحنان بعض المؤسسات الثقافية والإجتماعية الأجنبية كبلجيكا وهولندا على سبيل المثال، التي تفتهح المجال لشم نسيم الكلمة وخير دليل، المقر الذي يجمعنا الآن وغيره كثير. لماذا نعتز بفَّرقْ تسود ؟ ونصنع دينصورا بين جماعتنا يحملنا على ظهره حيث يشاء، أجيال ألإنحطاط عديدة، عينها ساهرة على ما يروج، تهمل ألإشعاع والأنوار، وتفضل ماذا ستكسب غدا. هذه الفئوية التي تستحم في الماء العكر، عليها أن تستسلم للأمر الواقع وتعترف بانها قصرت في حق عمالها بالخارج، بما فيهم الصانع والعاطل عن العمل، والمبدعين بجميع اصنافهم، فنانا كان أو كاتبا أو شاعرا أو رساما. ولا تنظر إليهم حسب المثل المغربي (خضرة فوق اطعام) أو (عَنْدَكْ تسْوا معندكش متسواش) .وحول هذه الحلقة خترت بعض الأمثلة لتكون خاتمة محاضرتي. سوف نتعرض من خلال قراءتها إلى ألوان وصحون طائرة خاضت ولا زالت تخوض تجربتها ورؤيتها بين لغة رصينة، مختزلة ولغة مكثفة، ولغة سهلة مبسطة وبين معقدة، تظل تجربة محاطة بخصوصيتها، تنجز طريقها، أو عملها بعيدة عن أسلبة اللغة بدون معنى، غنية بالحداثة والتجريب، متعددة الفضاءات، تقتات من مساءات وصبحيات الهجرة .. تدخل الى مغاراتها، تلملم جراحاتها، وتستمد مقوماتها من لحظة إلى أخرى، من المكون الإجتماعي الذي تعيش في بؤرته .

أمثلة من تجارب بعض المبدعين المهجريين :

ومن هذه الشجرة ..المبدعة ..الخلاقة.. المغتربة، نأتي على بعض الأمثلة لهؤلاء المبدعين المغتربين، منهم من عاد إلى ذكرياته، ليغازل مدينة من مدن وطنه بعد اشتياقه إليها، ولا أجد خير مثال، أقرب الأصدقاء إلينا جميعا، أستاذي فؤاد السني، أحد المبدعين المغتربين، يجرنا إلى رحاب عالمه في جولة قصيرة لنقرأ من ديونه (النخلة) :

مساء صيفي في طنجة ص 19 يقول :

تَصفرّ سماؤها عند الظهيرة،
ثم تحمرُّ كقُرص خُرافي،
عند تسلّل رقّة المساء،
بياضا تعبُرُ الملائكة، شمال المدينة.
وعند اليمين، تَنَّزّل في رحاب البحر،
شعلة نار، شمسها الغاربة، طنجة.

ويقول في قصيدة أخرى بعنوان: (مقهى الحافة)

من هنا أبحر زمنُ اللامنتهي،
من هنا .. وراح عبر البحار المُحال.
من هنا أقلعت سماء خواطر البال،
بياضا تسامت حتى عوت النوارس،
وحلقت في العلياء دواريش الغربان.

-9

ويتواصل الباحث "محمد البومسهولي" المقيم بمدينة دنهاخ الهولندية في كتابه (عروبة الأمازيغ بين الوهم والحقيقة) بعد شعوره بغربة الذات المعلقة، وفي غمرة المد والجزر التي بدأت تلحق بالجالية المهاجرة وغير المهاجرة، تتسبب في الشتات والتفرقة، بجرة يراعه أو قلمه قام ليصحح ما أتلفه الدهر من مفردات ومعان لاحظها تسقط شباب العروبة وغير العروبة في خطأ لغة الأم. فيطلعنا على نتافات تاريخية، عن تاريخ الأمازيغ، واللغة، مدافعا عن العلاقة الوطيدة بين اللغة العربية والأمازيغية. وفي صفحة 33 من كتابه المذكور يقول تحت عنوان: (بعض خصوصيات اللهجة الأمازيغية) "اللهجة الأمازيغية عامة عبارة عن مفردات عربية صريحة فصيحة، أو مفردات مصرية قديمة، أو عربية منسية، متروكة، أو دخيلة، وتارة غريبة تحتاج إلى وقت لإرجاعها الى الأصل".

وننتقل إلى جواد الزلفي وهو شاعرعراقي لاجئ بالديار الهولندية، ينشدنا بعد أن وضعت الحرب أوزارها، بعد معاناته وغربته، وفقدانه الأهل، وهو بعيد عنهم وعن الوطن.. يقول في صفحة 16

الآن الحرب قد رحلت
لكن
ظلالها باقية.
الحرب رحلت
لكن
ما عادت لنا دارٌ
وما عدنا كما كنا،
ولا الديار كما كانت
وما عدنا .

ويطل علينا الاستاذ الباحث التجاني بولعوالي المقيم بهولندا في كتابه ( المسلمون في الغرب بين تناقضات الواقع وتحديات المستقبل) في إحدى صفحات الكتاب 111 تحت عنوان: "محنة الامام المغربي مع الاعلام الهولندي" يقول : "بمجرد ما طفت قضية الامام { ... } على السطح, سارعت الصحافة الوطنية الهولندية بكل مكوناتها وأشكالها الى تلقف هذا الملف الساخن، وتناولته وفق ما تمليه عليها توجيهاتها الذاتية والإيديولوجية والسياسية وغير ذلك. في غياب يكاد يكون تاما، لأي تحليل علمي.
ثم نذهب للبحث عن الكاتب عبد الاله الصالحي في المدن الفرنسية لنستمع له وهو يقدم لنا تحفة من ديوانه (كلما لمست شيئا كسرته) في صفحة 21 يقول :
الهجرة حق مقدس، قلتَ ذات يوم .
لم يقلها أحد قبلَك ولم يجرأ على ترديدها أحد بعدك

-10

وفي ختام القصيدة يقول :
الهجرة حق مقدس
عبارة يكفي أنها قيلت ذات يوم.

ونفتح صفحة من كتاب (أشواق مهاجرة) وهي مجموعة قصصية للقاص سمحمد الجباري المقيم بهولندا، وهو يصور لنا حالة يوم الأحد القنوط في صفحة 10يقول :

يوم الأحد يوم ليس كسائر الأيام، الدكاكين والمحلات التجارية مقفلة،
المقاهي فارغة، حتى الناس لا تراهم يتجولون أو يمشون في الطرقات، يخيل إليك أن هناك حالة طوارئ في المدينة، المهم، أن الجميع يتواطأ ليجعل يومك هذا مملا بامتياز.

وينذب الشاعر محمد أعشبون في ديوانه ( سيأتيك الصهيل خارطة) في صفحته تحت عنوان
"صاغني الليل يراعا" يقول :

وطئتُ أرضا لا أعرفها
بوردة، واختلاجة بحر.
فاستباح أهلُها دمي
والكوكب صاغ امتدادي.
وحين مسحْتُ
من غفوتي
أهلي الخائنين،
صاغني الليل يراعا
فاخترت أرضا أعرفها .... لتكون السنابلُ مدادي.

ونقف مع الكاتب النابغ، القاص جمال علوش جانب نهر، ليصف لنا كيف تلقى درسا لم يكن يعهده في صيد السمك بطريقة هولندية أو بلجيكية، فيقول تحت عنوان (ذاكرة فعل متعَب بنرجسية البحر). يقول القاص والاستاذ جمال:

قال لي أحدهم يوما، ولم يكن صديقا ولا هو من معارفي.
- خير لك أن تحمل أمتعة الصيد، وتتوجه الى أحد الأنهار، هنا أو هناك على أن تبقى متسكعا بين الثوار. لأن المسألة على هذا الحال، لا يقبلها الناس في المجتمع.
- قلت : الكمُّ مجتمع ، سخرية جميلة، لم يفهمها الرجل، ربما لبساطته، أو ربما لبساطتي
- نعم نحن الهولنديين هكذا. ويتابع جمال سرده قائلا :
كان المجرى مجرى نهر متعفن، لكن لا تظهر عليه علامات ذلك، ولا يفوح بأية رائحة عفنة، الأشياء تختلف. أتأملهم وهم يصطادون سمكا صغيرا، نحيلا، ثم يلقون به الى النهر، لتتكرر العملية، مرات و مرات,، ولا فائدة في التكرار، كانت بلادتي، ومطلق البلادة أن لا نكرر الأشياء".
-11
ولنذهب جميعا والمسافة قريبة بين بروكسل وانتوربن لنلتقي بالشاعر أدريس يزيدي ليسمعنا زجرة من زجراته من ديوانه (الحزن يعصف كل يوم) :

يقول في قصيدة عنوانها أين منك دوائي:
أرسلت ليلى قبلة في الهواء
قلت: ليلى! وأين منك دوائي ؟

أرسلت ليلى قبلة إثر أخرى
فاشْرأبت لها مكامن دائي
عجبا من فتى يعالج عشقا
يبتغي الوصل من سنا حسناء.

ويدخل الشاعر مدخل جد في قصيدة (سلم على وطني) وفي نفس ديوانه يقول :

سلم على وطني سلام محترق
أبلغه أني بأرض الكفر في أرق
أحببته وطني حبا فشردني
كم كنت أحيى به في ضفة الغرق
أضرني وطني والشعر علمني
والشعر منجى الكلوم بالغ القلق

ويختم القصيدة بهذا البيت فيقول : أنا المتيم قد فكت تميمته الحمد لله أنجاه من الغرق. صفحة 74/75. وقد يغيب أو يحضر في جلستنا هذه الشاعر إبراهيم كنون، لكن ديوانه (موكب مهيب) ينوب عليه عند حضوره أو غيابه.. يقول في احدى قصائده تحت عنوان حنين الى وطن:

وطني بنو جلدتي سلخوا جلدي / من على جسمي كما تسلخ النعاج / في يوم مأتم تشق فيه الصدور / وأقاموا عرسا فيه أشبعوا العدى / شمتا في حزني / لا أقول أين أنزل منهم منزلا / هذا مطلعي لست في لقب راغبا / ولست بعورات الناس واشيا..

وننتقل الى ديوانه الصحراء تمتد في ظل الشهيد ونقتبس من صفحة 93 مطلعا من صفحة 93 تحت عنوان (طويلة ليلي غربتي) :

من أنت أيها الغريب / أنا صمت في ليل طويل / وزمن مسرع لا تقوى أحلامي على اللحاق به /أنا فقط أمرر نبض وطني في أحلامي لكنه ينهض مني / وكأنه محارب قديم عافته الخيول وحتى اجول ببصري وفكري لعلي ارضي رغبتي ورغبة كل المبدعين بالمهجر الذين لم اتعرض لأسمائهم وجدتها من المحال , لأن مدادها و أعمالها عديدة، ولم اتوفر عليها .. ولا يسمح لي المكان والوقت المحدد لسردها وان حاولت سيكون الفشل والملل عرضة للساني، والجلوس الكرام .
ومن السيدات المنخرطات في هذا المسلسل الثقافي، على الأرض البلجيكية، نذكر الشاعرة الزجالة عواطف عبد السلام، التي طالما اتخفتنا بروائع من زجلها المنبعث من أعماق تراثنا الشعبي، فلنستمع إليه من قصيدتها:
راحوا الرّْجالْ راحوا !

شُفْتْكْ في مْنامي راكْبْ خَيْلْكْ وتْتْبْسّمْ،
وقَلْبْكْ حايْر ْمنْ الموحالْ تْسْتَسْلْمْ،
مْسَحْتْ دْموعْكْ لّي سْقاتْ جْفونْكْ،
لا حْنينْ يْعْطَفْ عْليكْ ويْرْحَمْ،
والسّْمّ وْصْلكْ لِلْعْظَمْ.
---
فينْ راحوا الرّجالْ فينْ راحوا؟
فينْ هِيَ الخيلْ فينْ هي اسْلاحوا؟
فينْ مَرْيَمْ زينَة لْرْيامْ؟
فينْ عْويشْة زينَة لوشامْ؟
---
القَلْبْ يْشَعْشْعْ رْخامَة وسالْفْها ليلْ طويلْ،
وعْيونْها تْرَفْرْف حْمامْة،
آه إيّامْنا صارْتْ كْذوبْ والسّبَعْ صارْ نْعامَة،
لّي ما زْرَعْ أَرْضُه ما تْعْطيهْ غْلْتو ثْمارْة.
ولّي ما تَوَضّأ بالدّمْ ما يْزيدْ ما يْصَلّي

وأخيرا، نختتم هذه المحاضرة بمساهمة منا، وأقصد من ديواني " لا أتكلم لغتك ولكن .. أتفهم شعورك " الصادر باللغتين العربية والنيرلندية. من قصيدتي تحت عنوان " أعدنا لأرض الوطن"، حيث أقول:
كلنا أبطال قصة.
ركبنا الباخرة .. الطائرة
وأقبلت العائلة
ووقعت الواقعة ..
صاحت مندهشة .. بحناجر جامدة
بأيدي مرتشعة .. بوجوه يائسة
بجفون ناعسة .. بأنفاس ثائرة:
أهذه هي هولندا؟ قيل عنها جنة !
وبين صبح وعشية، ما خلفته الحرب العالمية بنيناه في ثانية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.