اليوم و نحن على مشارف إستحقاقات إنتخابية مؤثرة، في واقع الجماعات الترابية أولا، ثم في الإستحقاقات النيابية لسنة 2016، أفصحت إستراتيجيات التنافس السياسي لدى أبرز الفرقاء عن ملامحها . و حتى الأجزاء الخفية منها لن يجد المتابعون الكثير من العناء من أجل فك رموزها. تحاول هذه الورقة، قراءة إستراتيجيات أبرز المتنافسين السياسيين في المغرب في أفق الإستحقاقات الإنتخابية المقبلة، و قد تم حصرهم تلافياً للتعقيد، في العدالة و التنمية ( حزب رئيس الحكومة)، و الأصالة و المعاصرة و الإستقلال و الإتحاد الإشتراكي ( كأحزاب معارضة). من أجل بلوغ هذا الهدف، ستعرض الورقة اولا الأحداث البارزة والفارقة التي أفضت للمشهد السياسي الحالي ثم ثانيا سيقدم هذا التحليل فهماً للسلوك السياسي لأبرز المتنافسين، لننتهي إلى خلاصات عامة حول مستقبل التحول السياسي في المغرب . 1. كيف تشكل المشهد السياسي الذي نراه اليوم؟ باغتت رياح التغيير الواقع السياسي المغربي في غضون شهر فبراير 2011، فطيلة عشرة أشهر كاملة، إمتلأت شوارع المدن المغربية و أحيائها الشعبية بمظاهرات خرج فيها الآلاف من المواطنين حاملين لشعار التغيير بكل مستوياته الإصلاحية والثورية ، إنتقلت وتيرة هذا الحراك المغربي من مرة في الشهر إلى مرة في الأسبوع ، حاملة مطالب سياسية مباشرة و على رأسها تغيير الدستور ومحاربة الفساد وانسحاب حزب الدولة بالمجمل المطالبة بدخول المغرب نادي الديمقراطيات الحديثة . فرض هذا الحراك السياسي على مؤسسات الدولة و الأحزاب السياسية إيقاعاً متسارعاً، لم يستطع جلهم مجاراته، ناهيك عن التحكم فيه. فبدى الوضع كمن زج بلاعبين رياضيين معتزلين في حلبة سباق أولمبي، جلهم ترهل جسمه بفعل إبتعادهم عن مضمار التباري والمنافسة و إستكانتهم لخمول قاتل، فظهروا في المشهد السياسي الجديد وضع مزرٍ و مثيرٍ للشفقة حتى . في ظل هذا المشهد السياسي المرتبك، ستظهر المؤسسة الملكية مرونة حكمة كبيرتين، حيث تمكنت من إمتصاص قوة رياح التغيير تلك في مرحلة أولى (خطاب9 مارس) ، ثم فيما بعد التحكم في وجهتها حتى إنخمادها ( لجنة صياغة الدستور، الإستفتاء، إجراء إنتخابات مبكرة، تعيين حكومة تقودها المعارضة السابقة). أفلح الملك محمد السادس في سحب تداول الإشكاليات السياسية من الشارع، بخليطه غير المتجانس و ذو الأجندات المتضاربة التي تتراوح بين التحرك بدون سقف سياسي و ملكية تسود ولا تحكم مروراً بإشكاليات الحريات الجماعية و الفردية، و إعادت كلها هذا الحراك إلى قلب مؤسسات الدولة ومعالجته بأدوات دستورية وسياسية واجتماعية واقتصادية وعدم تركه للشارع . لقد أرسى الملك لعملية تحول سياسي واعدة في ظل إستقرار مؤسساتي تعزز مع الدستور الجديد والبرلمان الجديد والحكومة الجديدة وقبول الطبقة الوسطى الوعد الملكي بالتغيير في ظل الاستقرار وبالاصلاح من داخل النظام . في الجهة الآخرى بدت جل مؤسسات الدولة الأخرى و على رأسها حكومة عباس الفاسي مذهولة و عاجزة تماماً عن الحركة أمام قوة التحديات الجديدة ، كما لم يختلف عن هذا أداء الأحزاب السياسية التقليدية التي بدت فاقدة للمبادرة بإستثناء العدالة و التنمية الذي التقط اللحظة السياسية ومتغيراتها وواكب بطريقته الأحداث كما سنرى. ( لا أتناول هنا أداء أحزاب الإشتراكي الموحد و الطليعة و النهج، لأنها إختارت التماهي مع حراك الشارع ولم تختر القيام بأي وساطة سياسية Intermédiation politique ، عبر تحويل مطالب الشارع إلى قضايا سياسية في المؤسسات ). لقد تعامل حزب العدالة و التنمية، بتوجيه لا تردد فيه من أمينه العام عبد الاله بنكيران و نائبه آنذاك عبد الله بها رحمه الله ، بمهارة سياسية مع مطالب التغيير الملحة التي باغتت الكل، و تجلت هذه المهارة فيما يلي: التشبث بقيادة المؤسسة الملكية لعملية التغيير السياسي و العمل تحت سقف تصورها لهذا التغيير. المساهمة في خلق حركية موازية في الشارع من أجل تأطير تصوره للتغيير السياسي بما يتفق مع مضامين مبادرة المؤسسة الملكية، و ذلك عبر اللقاءات الجماهيرية التي قادها الحزب طيلة شهور الحراك، و بلور خلالها شعار الإصلاح في إطار الإستقرار. تبني أهم قضايا التغيير التي طرحها الحراك السياسي، و بلورتها ضمن المؤسسات، مكرساً بذلك دور الوساطة السياسية Intermédiation politique المنوطة بالأحزاب السياسية. و بالتالي كان من الطبيعي أن يحصد حزب العدالة و التنمية مقابلا لكفاءته السياسية هذه على خلاف باقي منافسيه، وهذا المقابل تجسد في فوز إنتخابي مستحق في إقتراع نونبر2011 وما تبعه من نتائج . جل الاحزاب التقليدية او الإدارية أصيبت بالذهول ولم تعرف كيف تتعاطى مع تحرك الشارع حتى ان بعضها جمد نشاطه طيلة سنة 2011 ورحل رموزه الى الخارج مخافة رد فعل الشارع في حين كان حزب المصباح قد عاد لتوه من تمارين سياسية قاسية، و صلت لحد البدء بإعتقال بعض قيادييه و التشهير بهم في ملفات قضائية غير مفبركة كان الغرض منها تشديد الخناق حول عنقه استعدادا لخنقه بعد ان تعذر حله في مرحلة ما بعد احداث 16 ماي الإرهابية . غداة إقتراع نونبر 2011، ستسفيق إذن الأحزاب السياسية التقليدية التي ألفت دفئ صالونات الحكم، على واقع نشر ظهير تعيين السيد عبد الإله بنكيران رئيساً للحكومة في الجريدة الرسمية. هكذا أوفت الملكية بأولى إلتزاماتها الكبرى في إطار الدستور الجديد وأعطت للحزب الذي تصدر المرتبة الاولى في الانتخابات حق تشكيل حكومة ائتلافية مع باقي الاحزاب الاخرى . 2. ماهي استراتيجية المعارضة في التعامل مع حكومة بنكيران ؟ لا نتحدث هنا عن وظيفة المعارضة الطبيعية ، أية معارضة تتجه الى نقد الحكومة والتصويت ضد مشاريعها في البرلمان والتبشير ببرامج بديلة واستعمال وسائل الرقابة المشروعة على الحكومة داخل البرلمان وفي الاعلام وفي الشارع ووسط الراي العام، هذه وظيفة طبيعية ومطلوبة وللأسف المعارضة لم تستعملها نظرا لعجزها الكبير، هنا نتحدث عن استراتيجية اخرى للمعارضة هي اقرب الى الانقلاب منها الى السلوك السياسي المشروع . طيلة الثلاث سنوات التي تلت ترؤس العدالة و التنمية للحكومة في ظل الدستور الجديد، و حصوله على تفويض نيابي قوي غير مسبوق، إستمرت الحياة السياسية في السير بإيقاع قوي و ضاغط، واضعة كل يوم، مؤسسات الدولة و بنياتها و الفاعلين السياسيين أمام تحديات إستثنائية، بما فيهم حزبالعدالة و التنمية نفسه. فمع بداية هبوب الرياح المعاكسة للربيع العربي، وحدوث انقلاب عسكري في مصر ضد الرئيس المنتخب محمد مرسي ، و في منتصف سنة 2013، سيقرر حزب الإستقلال تحت قيادة أمينه العام الجديد حميد شباط مغادرة سفينة الإئتلاف الحكومي، واضعاً الحكومة في مأزق جدي . لم يقدم الأمين العام الجديد تفسيراً مقنعاً لهذا الإنسحاب من الحكومة،سوى انه كان جزء من قراءة خاطئة للمشهد السياسي الداخلي والإقليمي، لقد اعتبر شباط ان سقوط مرسي في مصر وسكوت الغرب على الانقلاب مناسبة لا تعوض لإغلاق قوس حكومة بنكيران في المغرب، وحتى يسهل على الدولة ان تقوم بذلك اعتقد شباط ومن خلفه انه سيسهل المأمورية هذه ان هو خرج من الائتلاف الحكومي وعرض الأغلبية لهزة عنيفة، كان ينتظر اما استقالة بنكيران او عجزه عن تشكيل ائتلاف جديد، وعندما اتضح ان حسابات شباط غير دقيقة أصيب بالجنون، حتى انه استعان بالحمير في تظاهرة بالرباط ووصل به الخبل السياسي الى اتهام رئيس الحكومة بالانتماء الى داعش والعمل لفائدة الموساد ! بتزامن مع هذه الأجواء، و بتنسيقٍ غير خافٍ بين الأصالة و المعاصرة و الإستقلال و الإتحاد الإشتراكي ، سيتم الترويج بقوة لخطاب سياسي و إعلامي تحريضي، في الوسائط الإعلامية الواقعة بشكل معلن أو غير معلن تحت تأثير المعارضة. يتهم هذا الخطاب الحزب الذي يقود الحكومة ،بأن له إرتباطات بالإخوان المسلمين و أن له خطاب يتماهى مع أدبيات الإسلام السياسي المحظور، بالإضافة إلى التشكيك في ولاء قياداته و أمينه العام للملكية وتصيد كلمة هنا وجملة هناك من أجل الوقيعة بين حزب العدالة والتنمية والقصر . يعبر هذا الخطاب بوضوح عن أماني المعارضة، التي هي في الحقيقة كوابيس مرعبة بالنسبة لإستقرار المغرب و مؤسساته. إنه إستجداءٌ لإنقلابٍ على الحكومة وفقاً للنموذج المصري، وتلبية لرغبة بعض مقدمي النصائح الإنقلابية المتواجدين في الداخل والخارج. في خضم كل هذه الخطط التي استهدفت نتائج الاقتراع وإرادة الأمة وقرار الملكية ، سيتمكن رئيس الحكومة من الإقناع حزب الأحرار بالدخول الى الإئتلاف جديد، و ستنال حكومة بن كيران الثانية ثقة الملك و دعمه من أجل الإستمرار في نفس التجربة . لقد إستطاع بن كيران إرساء المزيد من الثقة و التعاون بين المؤسسات الدستورية عبر تثبيت المنهج السياسي لحزبه الذي يقوم على عدم منازعة الملكية في الحكم بل التعاون معها و الإشتغال تحت إمرتها. و سيضيف إلى ذلك العمل على تماسك الأغلبية عبر تقديرجهود أحزابها، و رد الإعتبار إلى العمل الجماعي للحكومة، و نسب نجاحات الحكومة لكل احزاب الائتلاف، بل حتى للحكومات السابقة. في الأسابيع الأخيرة، إشتدت حماة التنافس السياسي بعد أن حلت الآجال القانونية لإجراء العمليات الإنتخابية المتعلقة بالجماعات الترابية و بمجلس المستشارين، و التي كان من المفروض إجراؤها بشكل مبكر منذ سنة 2012، لولا التوجس من تمكين العدالة و التنمية من فوز إنتخابي آخر . فبالإضافة إلى الخطاب التحريضي وجر حزب بنكيران الى صراع ايديولوجي يقسم المجتمع بين إسلاميين وعلمانيين الذي وصفناه فيما سبق، ستنتقل قيادات الأصالة و المعاصرة و الإستقلال و الإتحاد الإشتراكي، إلى إعتماد أسلوبين جديدين في إطار إستراتيجيتهم السياسية: التجريح و التشهير و عرقلة العمل التشريعي المتعلق بالإنتخابات و بالنظام القضائي. . التجريح و التشهير: لقد تم اللجوء إلى التجريح و التشهير إتجاه رئيس الحكومة وحزبه و ضد بعض الوزراء كوزيري الداخلية و العدل، من طرف جل قيادات المعارضة و هو ما لقي صدى واسعاً لدى الوسائط الإعلامية التي تدور في فلكها، يُفسر هذا الأسلوب على أنه محاولة لإيهام الأعيان ذوي الخَزَّانات الإنتخابية، و مسؤولي الإدارة الترابية والجهازالقضائي بتوفر قيادات حزب الأصالة و المعاصرة بالخصوص، ثم قيادتي حزبي الإستقلال و الإتحاد الإشتراكي على نفوذ و حماية من جهات عليا لهذا تتجرأ على رئيس الحكومة وعلى منصبه وعلى الحد الأدنى من الأخلاق السياسية كما هي متعارف عليها في المغرب ودول العالم اجمع . كما يرمي هذا الأسلوب العنيف وغير الأخلاقي من المعارضة أيضاً على المستوى العام، إلى رسم صورة مُدَلِّسَة لرئيس الحكومة على أنه شخص غير مرغوب فيه من طرف الدولة، لأنه لو كان عكس ذلك لما تركت الدولة أحداً يتجرأ على رئيس حكومتها، و هو ما سيسهل إستقطاب الأعيان لهذه الأحزاب، و ضمان غض الطرف عن تجاوزاتهم الإنتخابية من طرف مسؤولي الإدارة الترابية و الجهازالقضائي. غير أن رئيس الحكومة رد على هذه الإستراتيجية، بلقاءات جماهيرية مكثفة و مقابلات إعلامية مدروسة، تناول فيها بشكل مباشر سلوك قيادات المعارضة، فإنتبهت هذه الأخيرة بسرعة إلى أنها تخوض معركة غير متكافئة مع بنكيران، فلجأ حزب الأصالة و المعاصرة إلى طلب هدنة عبر وساطة غير معلنة. بينما إختار الكاتب الأول للإتحاد الإشتراكي أسلوب التصعيد الكلامي، عبر طلبه تدخل الملك من اجل تحكيم مزعوم في الأعداد للانتخابات القادمة . .عرقلة العمل التشريعي المتعلق بالإنتخابات و بالنظام القضائي: لجأت المعارضة مؤخراً إلى تعطيل عمل لجنتي العدل و التشريع و الداخلية في مجلس النواب، معرقلةً إقرار قوانين متعلقة بالنظام القضائي و أخرى بالإنتخابات، ضاغطةً بذلك من أجل الحصول على الضمانات بأن الإنتخابات المقبلة لن تجرى و النيابة العامة لا زالت تحت سلطة وزير العدل الحالي. لا بد أنها تستحضر عندما تقوم بذلك، كيف تم حرمان العدالة و التنمية من ترؤس مجالس جماعية لمدن مهمة، مثل وجدة ، عن طريق تدخل النيابة العامة أو كيف مورست الضغوط على التحالف المسيِّر لمدينة سلا لإخراج العدالة و التنمية منه و كيف تمت محاولة إستعمالها لفضه هناك أيضاً. لا تستقيم حجة المعارضة عندما تقول أن مطالبها بشأن الإشراف على الإنتخابات يبررها توجسها من تحيز الرميد، في حين شهد الجميع أن الإنتخابات التشريعية الجزئية التي جرت في سيدي إفني و مولاي يعقوب آل فيها الفوز لحزبي الأصالة و المعاصرة و الإستقلال ،بينما ظل يشتكي حزب العدالة و التنمية من الفساد الإنتخابي في هذين الدائرتين دونما تدخل من النيابة العامة أو وزير العدل. لا زالت أحزاب المعارضة على ما يبدو تعتمد على الإستراتيجية "الكلاسيكية" للفوز في الإنتخابات المقبلة، والتي تقوم بالأساس على أسلوبي الترغيب و الترهيب، من أجل حشرالأعيان و خَزَّاناتهم الإنتخابية في صفوفها من جهة، و ضمان مساندة بعض مسؤولي الإدارة الترابية و الجهاز القضائي لمرشحيهم أو غض الطرف عن تجاوزاتهم في الحد الأدنى . إن محاولات المعارضة للتهرب من الإستحقاقات الإنتخابية الداهمة، أو الحصول على الضمانات بإطلاق أيديها فيها، عبر إقصاء المتغير الجديد في الإشراف على الإنتخابات، المتمثل في وجود وزيران للعدل و الداخلية وعدا بالالتزام بنزاهتها ، لن ينظر إليها بعين الإستحسان، إذ ستفسر على أنها خوف من الهزيمة. كما أن محاولة تعطيل المسلسل التشريعي المتعلق بالإنتخابات، لا قبل للمعارضة به، لأنها تعلم أن المجالس الجماعية الحالية محتاجة لتعديل تشريعي من أجل تمديد ولايتها التي ستتجاوز الست سنوات، و التي سيترتب عن عدم إقراره، بطلان قرارات هذه المجالس المتخذة في مدة خارج زمن انتدابها. إن توقيعات رؤساء الجماعات الترابية لن يعتد بها في كل المجالات بما فيها الصفقات و الجبايات، إذ ستقع خارج المدة القانونية للولاية الحالية، و هو ما سيتسبب في تعطيلٍ لمرافق عمومية حيوية، تتحمل مسؤوليته السياسية احزاب المعارضة، إن هي إستمرت في عرقلة العمل التشريعي المهيِّئ للإنتخابات. هذا السلوك يجعل بن كيران في موقع قوة، إذ ستضطر المعارضة إلى العودة للجنة الداخلية من أجل إنهاء دراسة مشاريع القوانين الموضوعة بين أيديها، قبل إقرار التمديد شاءت ام أبت . كما يعتبر التلويح بمقاطعة الإنتخابات من طرف أحزاب المعارضة، تصعيداً كلامياً لا أفق له، لأن مجرد التلويح به سيتسبب في هجرة جماعية للخزَّانات الإنتخابية نحو أحزاب تمنح تزكياتها بسهولة، لأن مصالح الأعيان لا يمكن تعطيلها بسبب حسابات سياسة لا تهمهم في الأمد القصير. أما الضغط من أجل ضمان عدم تعديل النصوص التشريعية المتعلقة بالنظام القضائي أمام البرلمان، بدعوى أنها حظيت بموافقة الملك في المجلس الوزاري، فهو إستغباء للمؤسسة التشريعية وفرض الوصاية على ممثلي الأمة . إن هذه الفتوى التي لا أساس لها لا في الدستور و لا في الأعراف البرلمانية، تتناسى أن كل مشاريع القوانين كانت تعرض على أنظار الملك في المجلس الوزاري في إطار الدستور السابق، و مع ذلك كان يقع تعديلها و تغييرها و حتى تعطيلها في البرلمان، من عند هؤلاء الذين ينادون بالعكس الآن. في الختام، لابد من التذكير بأن النظام الملكي في المغرب يختلف عن نظرائه في المنطقة العربية، إذ يعد أعرقهم و أكثرهم مرونة وعصرية في آن واحد، و بالتالي فزمن الملكية الإستراتيجي في المغرب يحسب بالأجيال في حين عند نظرائه الآخرين لا يتجاوز الجيل الواحد. كما أن المرجعية الدينية في الدولة المغربية ترتكز إلى نظرية مكتملة البناء و مستقرة الممارسة (إمارة المؤمنين) لمدة طويلة في الزمن، و تتوفر على شروط التجدد و الإستمرار دون خوف من المجهول ، خلافاً لما هو عليه الحال عند الجيران في المغرب العربي أو في المشرق، و هو ما يقف سدا منيعاً أما كل محاولات لجر المغرب الى فتنة المشرق ومشاكله البنيوية . يضاف إلى كل هذا سعة أفق الملكية المغربية بإنفتاحها منذ قرون خلت على أوروبا و الولاياتالمتحدة و إفريقيا، مما يجعل النظريات السياسية للكثير من حديثي العهد بتقاليد الدولة و الحكم مجرد خربشات مبتدئين.إن معنى الإستقرار عند الملكية في المغرب يختلف جذرياً عن تعريفه في مصر أو في المشرق عموما . بناء على كل ما سبق، يجب أن يقر جميع المتنافسين في الإنتخابات المقبلة بأنه لا مناص من إستيعاب الواقع الدستوري الجديد ، و الإعتراف بأن الإستقرار السياسي مقترن بإحترام الإختيار الديمقراطي و الإحتكام إلى أدواته. إن مسألة بناء الثقة بين المؤسسات الدستورية و تعاونها التي يعمل عليها العدالة و التنمية، لا تعتمد فقط على تجنب شبهة المنازعة في الحكم و الإشتغال تحت إمرة الملكية و بتوافقٍ معها، بل تتجاوز ذلك إلى المساهمة في إنجاز حلول كبرى للإشكاليات الإقتصادية و الإجتماعية التي يعاني منها الشعب المغربي وتشكو منها البلاد لقد رأينا كيف وفر قرار رفع الدعم عن المحروقات المليارات من الدراهم دون المس بالاستقرار ولا بالسلم الاجتماعي هذا نموذج فقط لما يمكن للتعاون بين الحكومة المنتخبة والملكية ان يعطي من ثمار طيبة و يبقى في الأخير على حزب العدالة و التنمية، أن يطمئن مختلف الفرقاء الى انه حزب لا يسعى الى الهيمنة على الحياة السياسية وانه يعرف حجمه جيدا وانه يمد يد التعاون للجميع وانه لا ينسى رد الجميل لأصدقائه في احزاب الائتلاف الحكومي، و أنه يراعي قدراته التدبيرية الفعلية في تحديد حجمه الإنتخابي المقبل بشكل عقلاني.