لم أشاهد الشريط ولا أرغب في مشاهدته. وكلما حاول أحدهم أن يحكي لي بعضا من تفاصيل عملية حرق الشاب الأردني معاذ الكساسبة، التي لا قدرة للغة على وصفها، ألوذ إلى الخيال وأحاول تصور ذلك الإله الإغريقي برومثيوس، الذي سرق النار المقدسة من ملك الآلهة زيوس، وهرع بها إلى البشر. كان يريد أن يخرجهم من ذلك الكهف المظلم إلى النور.. من ظلمات الجهل إلى أنوار المعرفة. وتقول الأسطورة إن المَلكةَ الإبداعية لهؤلاء البشر انفجرت بعدما بدّد ضوء تلك الشعلة المقدسة الظلام الذي كان يلفهم ويغشي أبصارهم. لكن برومثيوس، الذي عوقب من طرف زيوس بوضعه على قمة جبل وأمر الطير أن تأكل من كبده إلى الأبد، لم يكن أبدا يتصور أن بعضا من هؤلاء البشر، سيحول مهمة تلك النار المقدسة، من تبديد الظلام إلى إشاعته.. من عنصر للحياة الرقراقة إلى أداة للموت الهمجي البشع.. من سلاح لتحرير الإنسان من كهف الخوف والجهل والعبودية، إلى وسيلة لإعادته إلى قبو الهمجية والغرائز البدائية، وطمره في دمائها السوداء إلى الأبد. لا شك أن ما قامت به داعش عمل همجي لا أظن أن هناك دينا أو معتقدا يقبل به. ولكن الأخطر أن ينجح هذا التنظيم الإرهابي، الذي لا إله له سوى الموت والتدمير، في جرّنا جميعا إلى القبول بقواعد لعبه وممارسة الأساليب نفسها. إن ما تأمل فيه جماعة أبي بكر البغدادي وترغب فيه بعمق، هو أن تدفع الآخرين إلى اعتماد أساليبها وشرعنتها. فحين يحرق رجال التنظيم الإرهابي الورق والحجر والبشر (أو يذبحونه)، لا يهدفون فقط، إلى ترهيب الآخر (سواء أكان مسلما أو غير مسلم.. يخضع لسلطتهم أو لا يخضع)، بل يسعون كذلك إلى دفعه إلى تقليدهم بشكل أو بآخر.. يرومون إيقاظ غريزة القتل المجاني، التي استطاع الإنسان طمرها بفضل قرون من التهذيب والتثقيف، رغم أنها تنشط بين الفينة والأخرى، هنا وهناك، تماما، كما تنشط البراكين في هذه المنطقة أو تلك، ولكن أثرها يبقى محدودا في الزمان والمكان. في البدء، طبعا، سيكون ذلك ضد مقاتليها، ثم شيئا فشيئا أخشى أن تتحول تلك الأساليب الهمجية إلى مرجعية معتمدة في كل المجتمع، الإسلامي على الخصوص، بالاعتماد على تأويل أضيق من ثقب الإبرة للنص الديني. وهذا ما يقلقني شخصيا في رد الأزهر الذي دعا إلى «قتل وصلب وتقطيع أيدي وأرجل» إرهابيي التنظيم. والحال أنه يجب قدر الإمكان التشبث بنار برومثيوس، وليس الرد بنار داعش.. التمسك بالنور التي أرادت نار الأسطورة إشاعته.. نور العقل.. نور الممارسات الإنسانية حتى في العقاب؛ وليس ما تريد نار داعش الحقيقية نشره من دمار وهمجية.