لا غرابة في حجم المشاركة الدولية الواسعة التي شهدتها المسيرة التاريخية في باريس (الأحد الماضي). لم يعد باستطاعة أحد تجاهل حجم المشكلة وحجم الأخطار. ولم يعد باستطاعة أحد الزعم بأن المشكلة تخص الآخرين، وأن بلاده ستبقى بمنأى عن هذا العنف المجنون. عبّر حجم المشاركة الدولية عن تزايد القناعة بأن العالم ينزلق نحو حرب عالمية ثالثة، إن لم يكن انزلق إليها فعلا. للوهلة الأولى يبدو تعبير الحرب العالمية ضربا من المبالغة. فنحن لا نرى جيوشا كبيرة تتطاحن. ولا نرى خطوط قتال تتوزع على جانبيها آلاف الدبابات والطائرات. إنها حرب عالمية مختلفة عن الحربين اللتين روّعتا العالم في القرن العشرين. حرب متعددة المسارح، تشنّها مجموعات صغيرة تنتمي إلى جيوش صغيرة. وأخطر ما في هذه الجيوش أنها ترفض فكرة الحدود الدولية كما ترفض فكرة التعايش بين المتحدّرين من ينابيع مختلفة. حرب مختلفة لأنها لا تدور في عالم الدول المقفلة والحدود الصارمة والمعسكرات المرسومة بوضوح شديد. حرب يمكن أن تدور على حدودك، أو في عاصمتك، أو في مطارك، وأحيانا يكفي انتحاري واحد ليهز الاستقرار ويشيع الرعب. حرب مختلفة تماما. ليست هناك دولة في العالم تستطيع مراقبة كل مصادر الأخطار، أو حماية كل الجسور والمرافق المهمة والمعالم البارزة. ثم إن الجيوش الصغيرة العمياء يمكن أن تضرب متجرا أو مدرسة أو عابري سبيل. ليس بسيطا ما شهده العالم أخيرا. سكاكين تحز الأعناق، وسيارات مفخخة تستهدف أعراسا وجنازات ومصلّين. مسلحون جوّالون ينتهكون سيادة دولة وينفّذون أحكاما بالإعدام على أرضها. يحاولون تغيير نظامها ونمط عيش أهلها. وكلما تراجع وجود السلطة المركزية في بقعة، تحوّلت معسكر تدريب ومصنع كراهية، ثم بدأت بتصدير الموت إلى المناطق القريبة والبعيدة. يدفع العالم اليوم ثمن ممارسات رجال فاشلين وسياسات فاشلة. ثمة رجل فاشل اسمه باراك أوباما. من حقه أن يعيد الجنود الأمريكيين من الحروب التي أرسلهم إليها سلفه جورج بوش، لكن من واجبه، أيضا، أن يتذكّر المسؤولية الدولية للقوة العظمى الوحيدة. غادرت قواته العراق من دون أن يوفّر ضمانات الحد الأدنى لتفادي النزاع المذهبي الذي لم يكن سرا. الطريقة التي تعاطى بها مع النزاع الدموي في سورية لم تتصف بالمقدار اللازم من المسؤولية أو العقلانية. سلوك إدارته كان بين الأسباب التي أتاحت سيطرة المتطرفين على جزء واسع من الأراضي السورية وإطلالة «داعش» من الموصل. ثمة فاشل آخر لا يمكن تجاهل مسؤوليته، على رغم ما دبّج من كتابات عن ذكاء القيصر الجديد. سمعتُ، أيضا، سيلا من الإشادات بذكاء وزير خارجيته سيرغي لافروف من رجال عملوا معه. يمكن القول إن فلاديمير بوتين كان بارعا في الثأر من أمريكا، وردا على ما اعتبره إهانة أطلسية لبلاده في ليبيا. لكن بوتين لم يتصرف بالتأكيد بموجب المسؤولية الدولية التي يحتّمها موقعه. بدا زعيما شرها أكثر بكثير مما بدا زعيما يُدرك حجم مسؤولياته الدولية. الدم السوري يلمع على أصابع بوتين كما يلمع على أصابع أوباما. لم يكن يحق لهما ترك سوريا تغرق في هذا الجحيم، فيما يتدفق المقاتلون الجوّالون إلى أراضيها مستفيدين من رغبة السلطان التركي في الثأر. يدفع العالم اليوم ثمن فشل دول الشرق الأوسط الرهيب في الانتماء إلى العصر. سياسات قديمة رُسِمت بحبر الاستبداد. وأنهار من الكراهية للآخر المختلف. وعقود من التحريض والمدارس المتعصبة. فشل اقتصادي وظلم واستبداد وأزمات هوية حادة سهّلت للمتعصبين خطف الجامعات والشاشات وانتزاع حق التحدث باسم الجموع. إننا في بدايات الحرب العالمية الثالثة. وهي مسؤولية دولنا قبل أن تكون مسؤولية الغرب وحلف الأطلسي. حرب ستدور بالوسائل الأمنية والعسكرية والفكرية والإيديولوجية. على الدول تحسس سياساتها وكتبها وخططها الإنمائية، وعلى قوى الاعتدال أن تتقدم الصفوف كي لا تكون الحرب الحالية أشدّ هولا من سابقاتها. عن «الحياة»