لم يتمالك رئيس الحكومة عبد الإله ابن كيران نفسه حين سمع بالخبر لحظة وصوله إلى مطار الرباطسلا قادما من فرنسا. لم يكن يتصور أنه قد يغيب عن أرض الوطن ليعود ولا يلقى وجه صديقه المقرب ورفيق عمره، وليلتقي بدلا عنه بأشخاص يحملون له الخبر الحزين…مات باها ! نزل الخبر كالصاعقة على ابن كيران، تحركت الهواتف في الحين للتأكد من خبر لم يصدقه حتى المتواجدون في مكان الحادث، انهار ابن كيران بمجرد ما وصله الخبر اليقين: لقد مات باها بالفعل ! "باها قال، باها فعل، اسألوا باها، باها نبهني، باها نصحني…" عبارات كثيرة من هذا القبيل لطالما رددها ابن كيران في لقاءات خاصة وعامة، وحتى في لقاءاته بشخصيات أجنبية كان يحرص دوما على تعريفها على رفيق عمره. المقربون من رئيس الحكومة يعرفون جيدا منزلة صديقه باها لديه، فإذا كان ابن كيران مندفعا وينفعل بسرعة، فقد كان باها الكابح والمهدئ الذي يلجأ إليه ليأخذ رأيه في كثير من القضايا، فكان في كثير من الأحيان يعترف أنه كان يعتزم القيام بأمر غير أن تدخل صديقه جعله يغير رأيه ولعل أشهر تصريح له في هذا السياق قوله إنه كان يعتزم تقديم استقالته من الحكومة عقب خمسة أشهر من تنصيبها لولا أن باها منعه من ذلك. لم يكن ابن كيران يحضر نشاطا إلا وباها معه، ولم يكن يتحدث إلا ويستشهد بكلام صديقه، حتى إنه كان يقول لأعضاء الحزب إن للعدالة والتنمية رجلين في منصب الأمين العام، وحتى حين انتقل لمكتبه في مقر رئاسة الحكومة كان يحكي لمقربيه كيف أنه وجد كرسيا لشخصين فكان يقول مازحا "وكأن السي عباس الفاسي كان يعلم أن ابن كيران سيأتي ومعه باها ولذلك اقتنى هذا الكرسي". التقى عبد الإله ابن كيران وعبد الله باها لأول مرة سنة 1976 في أحد مساجد حي العكاري بالرباط، كان ابن كيران حينها يفسر للمصلين الآية القرآنية "مثل الجنة التي وعد المتقون"، واستمع إليه باها الذي أعجب به كثيرا. توطدت علاقة الرجلين أكثر حين انتقل مقر معهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة حيث كان يدرس باها من حي أكدال إلى السويسي بمدينة العرفان في الرباط، فهناك كان ابن كيران يلقي بعض الدروس بحي السويسي 2 وكان باها مداوما على حضور تلك الدروس قبل أن يلتحق بعدها بوقت قصير بالشبيبة الإسلامية لتبدأ مسيرة الرجلين التي استمرت لأكثر من ثلاثة عقود تقاسما خلالها الضراء قبل السراء. باها، "رجل الظل" أو "رجل التوازنات" كما يصفه بعض رفاقه في الحزب كان قليل الكلام، ولم يكن يعرف عنه أحد سوى ما كان يقوله عنه ابن كيران. كان كتوما وهادئا وبالرغم من عمله السياسي ودخوله الحكومة إلا أنه لم يكن محبا للأضواء وإن كان قد وجد نفسه تحتها فجأة حين صار عامة الشعب يعرفونه من كلام ابن كيران عنه، إذ لم يكن يخل كلام رئيس الحكومة في أي لقاء من الإشارة لصديقه، وكلام صديقه، وحكم صديقه. في بيت ابن كيران بحي الليمون في الرباط، احتشد المعزون. كثيرون كانوا يتساءلون عن حال ابن كيران قبل التساؤل عن حال عائلة الراحل. بجلباب بني فاتح جلس ابن كيران في إحدى الزوايا وعلامات التأثر بادية عليه، يسلم بيد ويمسك السبحة باليد الأخرى، عيناه هائمتان في لا مكان، يرفع رأسه من حين إلى آخر ليتلقى التعازي مصدوما وكأن لسان حاله لا يزال يتساءل "هل حقا مات باها؟ ! ".