إن الرسالة البارزة في الاستحقاق التشريعي الأخير بتونس، تتجسّد قبل كل شيء في انتصار الإرادة التونسية، أي انتصار التونسيين في توفير مناخ إنجاح انتخابات آمنة، منظمة، وموسومة بقدر عال من النزاهة والتنافسية، لعلها الانتخابات الأولى بعد اقتراع المجلس الوطني التأسيسي. الآن، وقد وضعت تونس خطوتها الأولى على طريق استكمال حلقات الانتقال نحو الديمقراطية، كيف ستُحَوَّلُ النتائج إلى مواقف وتُصاغ في سياسات مشتركة، تُوازِن بين ما أفرزته صناديق الاقتراع، أي الشرعية الانتخابية، وما تشترط البلادُ من روح وطنية جماعية، لاقتسام مسؤولية إنجاز ما ضحّت الثورة من أجله؟ إنه السؤال الإشكالي الذي، دون شك، يعتبر تحدياً رئيساً للطبقة السياسية التونسية، ويُلزمُها على بدل قدر كبير من الجهد الجماعي، الممزوج بالذكاء، والموجَّه بالحس الوطني. فتونس لم تُكمِل مرحلتها الانتقالية بعد، وهي في حاجة ماسة إلى كل طاقات أبنائها، بل إن وضعها الداخلي والإقليمي، وحتى الدولي، ينبهها إلى أن البديل المعقول والسالك يكمن في استمرار روح التوافق بين مكوناتها السياسية والاجتماعية..التوافق الذي مَكَّنها من صياغة دستور يعبر عن طموحات وتطلعات عموم التونسيين، وهو الآن يناديها لأن تُبقِيَ عليه [التوافق] حاضراً وموجهاً لخطواتها المقبلة، أي تشكيل الحكومة وإجراء الانتخابات الرئاسية. لم تبتعد التوقعات التي سبقت اقتراع 26 أكتوبر 2014 كثيراً عن نتائجه العامة، فقد كان وارداً أن تتصدر قوتان المشهد الانتخابي، هما: «حركة النهضة» و»نداء تونس». ونميل إلى الاعتقاد أن النهضة حصّلت على ما يمكن أن تحصل عليه، بل إن الرسالة البالغة التي أراد الجسم الانتخابي إيصالها إليها هي أن هذا هو حجمها الحقيقي في المجتمع التونسي. أما «نداء تونس»، فنميل إلى القول إن تصدّره قائمة النتائج حدث سياسي نسبي، وأن نصيبه من المقاعد لا يعبر عن حقيقة انغراسه في المجتمع، كما لا يعكس واقعه التنظيمي والسياسي. لذلك، نتوقع أن يعود مستقبلاً إلى حجمه الطبيعي. وللتدليل على رجاحة هذه الفكرة، نشير وإن بشكل أولي في غياب دراسات تحليلية للسلوك الانتخابي إلى أن الكتلة المصوِّتَة على «نداء تونس» هي عبارة عن خليط مُكوّن من أعضاء هذا الأخير وغيرهم ممن أرادوا، إما قطع الطريق على عودة النهضة، أو نكايةً فيها لاعتبارات إيديولوجية وسياسية. يدعونا هذا النظر، إن كان صائباً، إلى الجزم بأن تونس في لحظة سياسية فارِقة، من حيث مسارها الانتقالي، فإما أن تستمر في قراءة متطلبات المرحلة بعين الحكمة، وبعقل سياسي توافقي، مفتوح على المستقبل، وإما أن تَنجذِبَ نخبُها إلى أرقام النتائج ومغريات السلطة، فيغيب عنها أن استكمال نجاح المرحلة يكمن في اقتسام المسؤولية وأعبائها، وليس في الاستفراد بالسلطة، باسم شرعية الانتخاب ونتائجه. ومهما كان الأمر فإن ثمة إحساسا بدقة هذا المفترق، وشعوراً بتحدياته، بيد أن هذا وحده لا يكفي، بل يحتاج الأمر إلى وعي الضرورات الملحة لتجاوزه، وضرورة الضرورات هنا أن تتجنب تونس عودة اللون السياسي الواحد، والاختيار الأوحد، وأن ترفع من قيمة التعددية الفاعلة والمعبرة عن حقيقة تطلعات التونسيين ومطامحهم.لذلك، سيكون خطاً قاتلاً إن زادت شهية حزب نداء تونس عن حدّها المعقول، فجنحت إلى محوَرة كل السلط والمؤسسات حول ذاتها، كما فعل « الإخوان» في مصر، أو رضخت لضغوطات المتحالفين المحتملين من غير النهضة، أي الأحزاب المتوسطة والصغيرة، فتسقط في ابتزازهم واشتراطاتهم. إن ذكاء ووطنية الحزب الفائز [نداء تونس]، يكمنان تحديداً في مدى قدرته على الإقدام على خطوات أليمة، لكن شجاعة، تزِن أهميتها الاستراتيجية بميزان الاستماع لنداء تونس وإسعاف التونسيين في قطف ثمار جزء من كلفة ثورتهم. ومن هنا نرى، إن تمكنت الطبقة السياسية التونسية، وفي صدارتها الحزب الفائز «نداء تونس»، من التوافق على اقتسام المسؤولية بين مكوناتها الوازِنة انتخابيا وسياسياً، وإشراك شخصيات وطنية مستقلة، لقيادة المرحلة الراهنة، ستقدم لوطنها إنجازاً تاريخياً استراتيجياً، وستفتح للتونسيين ودول المحيط العربي والإسلامي أفقاً سياسياً نوعياً عنوانه البارز أن الديمقراطية ممكنة في بلدان مركبة، غالبا ما ظل التغيير في ربوعها عصياً على البلوغ والإدراك.