عند ملاحظة الحياة الثقافية داخل المجتمع المغربي، يبدو أن الأسرة هي الموضوع الذي يكثف أكثر من غيره اهتمام المغاربة بمجتمعهم، ويحمسهم أكثر من غيره للمناقشة وإبداء الرأي والموقف تجاه قضاياه ومشاكله. ففي كل مرة تطرح عملية اصلاح مدونة الاسرة منذ سنة 2004 الا ويحتد النقاش العمومي سواء في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي أو في أوساط المجتمع المدني أو في الصالونات العمومية. بل ويأخذ النقاش خلفيات ايدولوجية وسياسية تجعله موضوعا تصطف حوله التيارات والاتجاهات. والمتتبع للشأن المجتمعي المغربي يلمس بسهولة أن الاهتمام الكبير للمغاربة بالأسرة عند كل إصلاح لمدونتها يترافق بمخاوف وتوجسات تحول هذا الاهتمام، بشكل من الأشكال، إلى التعامل مع الإصلاح بالكثير من الحذر والحيطة وأحيانا بالتشكيك في مراميه بل إلى رفضه. وعندما نقول إن اهتمام المغاربة أو أغلبيتهم بموضوع الأسرة يظل اهتماما كبيرا بالمقارنة مع مواضيع أخرى يطرح فيها الإصلاح في مسار تطور البلاد، ولا تقل أهمية في تطور المجتمع المغربي، مثل موضوع الشغل والمقاولة، إصلاح الإدارة والقضاء، إصلاح المدرسة العمومية…. فإن الأمر يدعونا للتساؤل أولا عن سبب الاهتمام الكبير بهذا الموضوع دون سواه، ثم ثانيا عن الدوافع التي تجعل جل عموم المغاربة يعبرون من خلال هذا الاهتمام عن مخاوف وشكوك إزاء إصلاح مدونة الأسرة. فبالقدر الذي يتفق الجميع على أن واقع الأسرة المغربية اليوم محفوف باختلالات ومشاكل واضطرابات مما يجعله يحتاج إلى إصلاح جدي وعميق، بالقدر الذي نجد أن النقاش العام عند أغلب المغاربة يتضمن مخاوف وقلق على ما قد يسفر عنه إصلاح المدونة. فيما يخص ظاهرة الاهتمام الكبير الذي يوليه أغلبية المغاربة لموضوع إصلاح مدونة الأسرة، أكثر من اهتمامهم بمواضيع الإصلاح في العديد من القطاعات مثل المقاولة مثلا، التي هي إحدى الدعائم الكبرى لاستقرار الأسرة وازدهارها، لكونها توفر مناصب شغل، نعتقد أنها ظاهرة، نستطيع تفسيرها عبر الفرضية التالية: فبعيدا على التفسير الثقافوي الذي يعتمد ثنائية الحداثة/ التقليد التي تسقط خطاطة تفسيرية تبسيطية لتاريخ براني/غربي على تاريخ خاص بالمجتمع المغربي، فإننا نرى أن اهتمام المغاربة الكبير بالأسرة وكل ما يتعلق بها من قوانين وقيم أخلاقية يعود مرده أساسا الى اعتبارهم أن الأسرة هي الموضوع الوحيد الذي لا زالوا يعرفونه ويعيشونه. إنه موضوعهم العيني الذي يباشرون فيه حياتهم الخاصة اليومية والحميمية ويثقون في الرهان عليه مستقبلا. إن الأسرة لديهم هو ذلك الواقع الذي لازالوا يتحكمون فيه أكثر، ويحظى فضاءه بثقتهم أكثر عكس المواضيع الأخرى التي تعد مجالاتها تبتعد عنهم أكثر وغامضة، وأدوارهم فيها ضعيفة إلى منعدمة. فالأسرة ومع قدرتها على التكيف والمرونة مع ظروف العيش المتبدلة باستمرار والتي خلقتها مقتضيات سيطرة الاقتصاد والمال على كل المناحي الأخرى للحياة، ظلت هي الفضاء المحبب أكثر لدى المغاربة. لأن الجميع فيه يجد ذاته، وهو الفضاء الذي نثق في أفراده ونعول عليهم عند الحاجة ونطمع في تحقيق راحتنا داخله. على عكس المجالات الأخرى كالمقاولة أو الإدارة أو الحزب الذي تسيطر عليهم العلاقات العمودية وتطغى المنافسة والجهد والاجتهاد لا يضمن دائما النجاح والاعتراف. وإذا كانت هذه الرؤية للأسرة عند المغاربة ليست دائما واقعية ولا هي متحققة بالكامل، فإن ما يعزز اهتمامهم بالأسرة وخوفهم عليها أحيانا هو كونها مجالا للعلاقات التي تعيد إنتاج النسل وتضمن بقاءه وتنظيم نسبه. وبهذا الاعتبار فإن المغاربة مثلهم مثل باقي شعوب العالم، حيث ما فتئت تتمتع عندهم بمكانة بارزة رغم كل المحاولات الإيديولوجية التي عرفتها بعض مناطق العالم كالشيوعية بالأمس والنيوليبرالية اليوم. إن الاهتمام الكبير للمغاربة بالأسرة، وميلهم الدائم إلى تمجيد ماضيها والتعبير عن حنين جامح له مما يجعلهم يعبرون بهذا الشكل أو ذاك عن مخاوفهم وشكوكهم إزاء عملية إصلاح واقعها، هو ليس تعبيرا عن تشبثهم بتقليد أو بمحافظة، بل هو في العمق تحصن بما يعتبر أخر قلاع الخصوصية المغربية، وأخر جذوة دفء عاطفي تبعث الشعور بالاستقرار والاستمرارية. فمع انتشار تقنيات التواصل الاجتماعي وزحف النموذج الغربي في فهم الفرد والمجتمع، وما ترتب عن سيطرة السوق على كل المناحي الاجتماعية والثقافية، أصبح التشبث بما يعتبر أسرة مغربية نوعا من الدفاع عن النفس ضد انجراف ثقافي تغريبي. فالأسرة المغربية بالنسبة للمغاربة أو على الأقل بالنسبة للأغلبية الشعبية هي المؤسسة الاجتماعية المعاشة بوضوح رغم الصعوبات والمشاكل، عكس المؤسسات الأخرى التي تبدو لهم غير مستقرة، وتخضع باستمرار بفعل الاكراهات الخارجية إلى ما يسمى بال فرنسيةLA désinstitutionalisation. أما فيما يخص كون اهتمام المغاربة بالأسرة المغربية يأتي مطبوعا في مجمله بتعبيرات تشير إلى ظاهرة الخوف من إصلاح مدونتها رغم الوعي بضرورته. فإننا نعتقد أن العوامل التي تخلق هذا الخوف من إصلاح مدونة الأسرة قد يصل أحيانا إلى مقاومته أو التشكيك في مراميه، هي التي تحملها خصائص خطاب الإصلاح نفسه الذي يتبناه مختلف الفاعلين داخل المجتمع المدني المغربي. إن طبيعة هذا الخطاب في كل مرة تطرح فيه الدولة الدعوة للنقاش العمومي حول إصلاح مدونة الأسرة، هي التي تجعل هذا الأخير محط نزاع حاد وتحوله إلى موضوع إيديولوجي سياسي يصعب تحقيق توافق حوله بالنقاش العقلاني الديمقراطي. إننا نرى أن عوائق خطاب الفاعلين المدنيين والسياسيين حول إصلاح مدونة الأسرة يمكن تلخيصها في ثلاثة عوائق أساسية مترابطة. أولا: الرؤية المتمركزة على الذات الممجدة. بفعل الطبيعة السوسيوثقافية لانتماء جل الفاعلين المدنيين والسياسيين لأوساط الطبقات الوسطى، يأتي خطابهم حول قضايا الأسرة المغربية محملا بالعديد من تأثيرات وسطهم الاجتماعي، خاصة مواقفهم الثقافية التي تنطلق من وضعهم العائلي الخاص كوضع نموذجي للتعامل مع أي واقع أسري في المجتمع المغربي. فرغم التعدد والاختلاف اللذان يخترقان الطبقات الوسطى، فإن قواسم مشتركة عامة تجعل مواقف هؤلاء الفاعلين الذين ينتمون لها يشتركون في خطاب واحد إزاء واقع الأسرة المغربية. فكون أفراد الطبقات الوسطى بالمغرب توحدهم خصائص تتمثل أولا في استقرار مهني عبر شغل ذي طابع ذهني في الغالب يذر أجرا قارا ومحترما إلى هذا الحد أو ذاك. ثانيا، عيشهم داخل الأسرة النووية وفي المدن الكبرى. ثم ثالثا مستوى من الاستهلاك للبضائع الغربية مرتفع ومرفوق بطموحات لحياة شبيهة بالحياة في المجتمعات الغربية. هذه الخصائص تجعلهم يرون جل مشاكل الأسرة المغربية تعود إلى أسباب ثقافية (الأمية، ضعف التمدرس، عقلية قروية، ضعف تطبيق تعاليم الدين، غياب العقلانية…. الخ). تنتج نمطا من العيش الاجتماعي لا يتلاءم مع مقتضيات الحداثة والتمدن (كثرة الولادات، غياب تنظيم بالعلاقة مع المدرسة، سيادة الأسرة الممتدة والمختلطة…. الخ). على هذا الأساس يتم فهم وتفسير واقع الأسرة لعامة المجتمع المغربي بمقياس ثقافة خاصة بنموذج الأسرة التي تسود في الفئات المتوسطة والعليا للطبقات الوسطى، وهو المقياس الذي يرى مشاكل الوسط العائلي لعموم المغاربة ناجمة إما عن بعدها عن القيم والمبادئ التدينية كما يفهمها الفاعلون الذين يبحثون عن الحلول في الماضي، أو ناجمة عن بعدها عن القيم الكونية الحداثية التي جاء بها الغرب الصناعي كما يفهمها الفاعلون الذين يبحثون عن الحلول في المجتمع الغربي. وتصبح مشكلة الأسرة المغربية بالنتيجة هي مشكلة ثقافية أخلاقية. بناء على هذه الرؤية المتمركزة على الذات يتم فرض حلول معينة على واقع ومشاكل الأسرة المغربية. حلول هي في الغالب تلائم مشاكل الفئات الحضرية للطبقات الوسطى التي تسقط مشاكلها الخاصة على واقع الأسرة المغربية برمته. وبالتالي يتم اختزال واقع هذه الأسرة في جانب واحد محدد دون الجوانب الأخرى. ثانيا: الإخلاص الأعمى للمرجعية على حساب الواقع. عائق التمركز على الذات الاجتماعية في رؤية واقع الأسرة المغربية بما انه يغيب التعدد والاختلاف الاجتماعيين اللذان يطبعان المجتمع المغربي، ينتج تغييبا آخر هو تغييب الواقع كتركيبة معقدة من العلاقات الاجتماعية والثقافية تبنى وفق إكراهات سوسيو اقتصادية تحدد أوضاع الأسرة المغربية. فالمهم والأساسي عند جل خطابات الفاعلين السياسيين والمدنيين التي تشتغل على موضوع الأسرة هو المرجعية الأيديولوجية التي يتم اعتبارها مرجعية قادرة وحدها على تقديم الحلول. فالأساسي هو أن نبقى حداثيين مخلصين للمواثيق الدولية، أو أن الأساسي هو أن نبقى متشبثين بماض ما. وفي الحالتينّ، لا يتم بذل أي جهد بحثي تاريخي للتأصيل وفق أوضاع خاصة وثقافة متميزة، هما وليدا حاضر مغربي يتشكل وفق تاريخه الخاص. رغم أن كلا المصدرين لهما أهميتهما النظرية التي تحتاج إلى اجتهاد لاستلهام ما يفيد واقع حي له تفاعلاته المتميزة مع ماضيه كما مع المعطيات العصرية المتاحة للبشرية. فخطاب الفاعلين المدنيين والسياسيين حول الأسرة يتمحور أساسا حول مطالب قانونية جاهزة، ولا يستحضر الواقع الثقافي الحي الا كمعطيات إحصائية خالية من كل دلالات تاريخية. صحيح أن للقانون دور مهم في تحقيق الإصلاحات، وأن الإحصائيات معطيات تفيد التقرب للواقع، لكن الاستعمالات الأيديولوجية للقانون وللإحصاء هي التي تسيء لهما. إن الارتكان لثنائية حداثة / تقليد في التعاطي مع قضايا الأسرة المغربية هو الذي يقود إلى مصادرة الواقع المحلي للمواطنين كتجربة ثقافية واجتماعية تتفاعل وتتنازع مع معطيات العصر، وكعلاقات اجتماعية تعبر عن صراع من أجل تحسين الأوضاع وإيجاد حلول واقعية لتقلبات الحياة اليومية. ثالثا: الرؤية الاختزالية لواقع الأسرة المغربية. يترتب عن العائقين السابقين، عائق ثالث مرتبط بهما هو عائق اختزال الرؤية لإصلاح واقع الأسرة المغربية في أحد العناصر المكونة لها. فالفاعلون المدنيون والسياسيون الذين يدعون احتكار خطاب الحداثة يركزون أشد التركيز على الوضعية القانونية للمرأة داخل هذه الأسرة. وكأنها المفتاح الوحيد لما يسمونه التأخر التاريخي. والفاعلون المدنيون والسياسيون الذين يدعون احتكار خطاب التقليد يركزون أشد التركيز على بقاء الأسرة الأبوية كضمانة لاستمرار النمط الثقافي الماضوي للأسرة. وفي كلا الحالتين، يبرز نقاش مغلوط هو عبارة عن نزاع بين الرجل والمرأة داخل الأسرة المغربية بين من له حقوق أكثر وواجبات أقل، ويبقى واقع الترابطات بينهما دون اهتمام. والمؤلم أكثر هو عدم الاهتمام بالطفل الا بشكل ملحق بأحد هذين العنصرين: المرأة والرجل اللذان يتم التعامل معهما وكأنهما معلقان في الهواء، دون أرضية تاريخية واقتصادية تتحكم في مسار أوضاعهما وطريقة تفاعلهما الواقعية مع الحقوق والواجبات. والدليل على أن الطفل ظل ثانويا في خطاب إصلاح المدونة سواء عند دعاة الحداثة أو دعاة التقليد، هو ان الزيادات في التعويض على الأطفال تحقق بفضل الحوار الاجتماعي بين النقابات والحكومة سنة 2022، وليس مع إصلاح مدونة الأسرة سنة 2004. وظل الأب، في حالة الطلاق، غير مسؤول عن تربية الأطفال إلا ما يفرض عليه كنفقة مالية، مما جعله في كثير من الأحيان أب يوم الأحد فقط. إن الطبيعة السوسيوثقافية لانتماءات الفاعلين المدنيين والسياسيين المشتغلين على موضوع إصلاح مدونة الأسرة داخل المجتمع المدني المغربي، هي التي تتحكم في بناء أفق مطالبهم للإصلاح. هذه الطبيعة السوسيوثقافية التي تجعل أطفالهم لا يحتاجون إلى تعويضات أو مساعدات من طرف الدولة، هي التي منعتهم من رؤية أهمية هذا الجانب في استقرار الاسرة المغربية ومستقبل أبناءها. فالا مفكر فيه في خطاب اصلاح مدونة الأسرة هو عائق أساسي أمام جعل هذا الإصلاح رافعة حقيقية لإنجاز التنمية البشرية والاقتصادية التي يطمح لها الشعب لمغربي بمن فيهم دعاة هذا الإصلاح. إن ترابط هذه العوائق الثلاث هو الذي يجعل خطاب إصلاح المدونة في المجتمع المغربي، يخلق نقاشات مطبوعة بتقاطبات أيديولوجية على خلفية مصالح فئوية تؤدي أولا إلى عدم إدماج كل المكونات الاجتماعية للمجتمع المغربي في عملية الإصلاح، لأن الكثيرين داخل هذا المجتمع لا يجدون واقعهم في هذا الخطاب. ثانيا، تؤدي إلى دفع الدولة الى تبني حلول ترضي فقط منتجي خطاب الإصلاح. وبالتالي حسم النقاش بأنصاف الحلول. فالكثير من القرارات التي تتخذها الدولة في مجال الإصلاح والتي يتبين فيما بعد عند تحققها كقوانين ومؤسسات على أنها إصلاحات منقوصة، يكون سببها ضغط فئات معينة داخل المجتمع في هذا الموضوع أو ذاك. وتصرفها كلولبيات أكثر من تصرفها كقوى اجتماعية داخل تاريخ معين. إن اصلاح مدونة الاسرة المغربية هو عملية ديمقراطية تؤثر على مسار التنمية الشاملة للبلاد، وتحتاج إلى خطاب عقلاني تاريخي ينطلق من معرفة بالمحلي الوطني في تعدديته واختلافه من جهة، وفي راهنيته وحاضره من جهة ثانية حتى يجترح حلولا من داخل مقتضيات تناقض هذا الحاضر، وباعتماد دعامات ملموسة تدفع أبناءه إلى الانخراط الثقافي لإنجاحه على أرض اليومي والاجتماعي. إن واقع الاسرة المغربية هو وضع ناجم عن تاريخ خاص وليد منظومة من علاقات السيطرة واللامساواة المهيكلة للمجتمع المغربي برمته. وعملية إصلاحه وتنميته في أفق التقدم الاجتماعي، تحتاج إلى رؤية شمولية تتمتع بأقصى درجات الموضوعية، وبإرادة وطنية تحلم بمستقبل أفضل وعينها على الواقع العيني.