تَضمّنت جولة الحوار الاجتماعي بتاريخ 30 أبريل 2022 عدة مُخرجات/ التزامات من بينها العمل على إطلاق الإصلاح الشامل لأنظمة التقاعد عبر حوار مفتوح مع الفرقاء الاجتماعيين بغاية وضع نظام مُوحد خاص بالقطاع العمومي وآخر خاص بالقطاع الخاص. وتفعيلا لهذا الالتزام انطلقت الجولة الثانية من الحوار الاجتماعي يوم 14 شتنبر 2022 حيث تم الاتفاق على تشكيل لجان مشتركة لمعالجة المواضيع ذات الأهمية القصوى من قبيل إصلاح منظومة التقاعد والتي بخصوصها تم إنشاء لجنة إصلاح أنظمة التقاعد تحت رئاسة وزيرة الاقتصاد والمالية التي ذكّرَت في إحدى تدخلاتها بالبرلمان خلال الدورة الثانية من السنة التشريعية الأولى من الولاية التشريعية الحادية عشرة باقتراحٍ يروم رفع سن الإحالة على التقاعد لبلوغ سن التقاعد إلى 65 سنة، سبق أن أدلى به مكتب الدراسات المُعتمَد من لدُن اللجنة الوطنية لإصلاح منظومة التقاعد إبَّان مخاض الإصلاح المقياسي. وغَنيٌّ عن البيان أن الإصلاح المقياسي لنظام المعاشات المدنية لسنة 2016 اقْتَضَى إعادة النظر في مقاييس عمله المتعلقة أساسا بالتخفيض من القسط السنوي لاحتساب المعاش لِيَضْحى 2 % بدلا من% 2,5 و %1,5بدلا من 2 %، والزيادة في نسبة المساهمة لتبلغ 28% بدلا من 20 %، وتوسيع قاعدة احتساب تصفية المعاش إلى متوسط الراتب خلال الثمان سنوات الأخيرة من الخدمة الفعلية ، وكذا الرفع التدريجي لسن الإحالة على التقاعد من ستين (60)سنة إلى ثلاث وستين(63) سنة مع إمكانية التمديد والتجديد، و تحديد سن التقاعد في خمسة وستين (65)سنة بالنسبة للأساتذة الباحثين وللموظفين والمستخدمين المعينين سفراء. ومن نَافِلة القول بأن التصور المُعتمد لإصلاح منظومة التقاعد المغربية يَعْتبِر الإصلاح المقياسي فترة انتقالية وقنْطَرة تأسيسية لاعتماد نظام تقاعد من قطبين عمومي وخاص في أُفُق إرساء نظام تقاعد مُوحد على المدى الطويل، غير أن غياب إرادة سياسية قوية، لإتمام هذا الورش الاجتماعي الهام والحلقة القوية ضمن منظومة الحماية الاجتماعية، طيلة المساحة الزمنية الممتدة من 2016 إلى حين مأْسَسَة الحوار الاجتماعي في أبريل 2022 حَالَت لِحَدّ الآن دون إرساء القُطْبين المذكورين. وتَرتب عن هذا التقصير في معالجة وضعية أنظمة التقاعد أنها أَصبحت مُهددة باختلال توازناتها المالية والتوقف عن تقديم خدماتها، لاسيما نظام المعاشات المدنية الذي يَعرِف عجزا إجماليا ومن المُنتظر أن يَستنزِف احتياطاته سنة 2027 (التقرير السنوي للمجلس الأعلى للحسابات 2019-2020، جريدة رسمية/ ج. ر/ عدد 7073 مكرر بتاريخ 14 مارس 2022 الصفحة/ص/1244)، مما أجبر أصحاب الشأن للحديث عن إصلاحٍ يَقترح إعادة النظر في مقاييس عمل أنظمة التقاعد لاسيما رفع سن الإحالة على التقاعد إلى 65 سنة. غير أن هذا الاقتراح قد يكون مَوضِع اعتراضٍ بقوةٍ من لدن الفرقاء الاجتماعيين، مما قد يؤدي إلى مزيدٍ من الاحتقان الاجتماعي في غِنًى عنه بلدنا الذي هو أَحْوَج إلى تعزيز التضامن والتماسك الاجتماعي المتين. كما أن هذا الاقتراح يُسَائِلنا عن قابلية تساوق هذه السن مع أمد الحياة من المنظور الديمغرافي؟ لمعالجة إشكالية رفع السن سنقتصر في حديثنا على نظام المعاشات المدنية باعتباره أكثر الأنظمة المهددة باستنفاذ احتياطاتها في القريب العاجل، علاوة على أن ما يتم اعتماده بشأن نظام المعاشات المدنية ينسحب على أنظمة التقاعد الأخرى وإن بدرجات متباينة. وهكذا سنتطرق إلى مدى ارتباط السن المقترحة للإحالة على التقاعد مع أمد الحياة وإمكانية أجرأة هذا الاقتراح (أولا) وإبداء رأي قانوني بهذا الخصوص في الختم (ثانيا). أولا: مدى فعالية السن المقترحة وإمكانية أجرأة هذا الاقتراح بخصوص مدى فعالية وارتباط السن المقترحة مع أمد الحياة فإنه وِفْق الإحصاء العام للسكان والسكنى لسنة 2014 تُمثِّل نسبة الشيخوخة (الأشخاص البالغين 60سنة فأكثر) 9 % من مجموع السكان مقابل 8,1 % سنة 2004 ، كما أن إسقاطات السكان والأسر للمندوبية السامية للتخطيط تفيد بتزايد هذه النسبة ما بين 2014 و2050 بوتيرة تقدر ب 3,3 % كل سنة في المتوسط، حيث ستنتقل هذه الساكنة من 3,2مليون إلى 10,1 مليون لِتَبلغ هذه النسبة %23,2 من مجموع السكان(التقرير السنوي الأول الصادر عن المرصد الوطني للأشخاص المسنين حول الأشخاص المسنين لسنة 2018 ص 26) . وارتفاع نسبة الشيخوخة رهين ومرتبط ارتباطا بنيويا بتزايد أمد الحياة للسكان الذي ارتفع من 72سنة في 2004 إلى 75,6 سنة في 2014 لِيَستقِر حسب الإسقاطات الديموغرافية للمندوبية السامية للتخطيط عند 76,6 سنة في 2020 (النساء 78,3 مقابل 74,9 للرجال عند الولادة). ويَتضِح مما سلف ذكره أن الإحالة على التقاعد عند بلوغ 65 سنة، لن تُتيح للمتقاعد التمتع بالحياة إلا لِسنوات معدودة فقط مما يجعلنا نتساءل عن مدى تساوق الرفع من سن التقاعد مع أمد الحياة ببلادنا؟ وهل الزيادة في أمد الحياة ببلادنا تبرر الرفع من سن التقاعد؟ وفيما يتعلق بمدي قابلية الرفع من سن التقاعد للأجرأة، فَجَدِيرٌ بالذكر بأن الإحالة على التقاعد لبلوغ السن تتم حاليا في 63سنة (بغض النظر عن سن الإحالة على التقاعد لدى بعض الهيئات) مع إمكانية التمديد لمدة أقصاها سنتين والتجديد لمدة مماثلة بما يفيد بأن الإحالة على التقاعد يمكن أن يُصرح بها عند بلوغ 67سنة. والأخذ بالاقتراح الرامي إلى تحديد السن القانوني للإحالة على التقاعد في 65سنة مع إمكانية التمديد والتجديد ليبلغ المتقاعد 69 سنة قد تعتبره بعض الفعاليات الاجتماعية والهيئات المدنية المهتمة بالشأن العام إجراء غير مقبول وغير مستساغ وغير قابل للأجرأة مع المطالبة بالاكتفاء بحد السن الحالي المحدد في 63 سنة وإمكانية بلوغ 67 سنة أخذا بعين الاعتبار التمديد والتجديد. لكن رغم ما قد يعترض اعتماد هذا الاقتراح من معارضةٍ قويةٍ لتفعليه، فإن مقياس السن والرفع منه يظل من آليات ديمومة نظام المعاشات المدنية في ظل الوضعية المُقلِقة لهذا النظام. فهل الحكومة في حاجة ماسَّة إلى تفعيل الاقتراح الرامي إلى الرفع من سن التقاعد إلى 65 سنة مع إمكانية التمديد والتجديد؟ ثم أليست هناك آلية أخرى بديلة تُحقِّق نفس الأهداف المطلوبة دون الحاجة إلى الزيادة في سن التقاعد؟ هذا ما سَنلِم به في الختم المَمهُور برأي قانوني. ثانيا: الختم الممهور برأي قانوني وِفْق المادة الأولى من القانون رقم 72.14 الُمحددة بموجبه السن التي يُحال فيها على التقاعد الموظفون والمستخدمون المنخرطون في نظام المعاشات المدنية (ج. ر عدد 6495 مكرر بتاريخ 30 أغسطس 2016 ص 6445)، يُمكِن للموظف عند بلوغه سن التقاعد طلب التمديد لمدة أقصاها سنتان قابلة للتجديد مرتين بالنسبة للأساتذة الباحثين ومرة واحدة بالنسبة لباقي الموظفين والمستخدمين، وذلك بقرار لرئيس الحكومة يُتخَذ باقتراح من السلطة التي لها صلاحية التعيين بموافقة المعنيين بالأمر، وذلك إذا اقتضت حاجة المصلحة ذلك. ويُستَشف مما سلف أن طلب التمديد وكذا التجديد رهين بموافقة سلطة التعيين، مما يَشِي بإمكانية عدم الاستجابة لهذا الطلب بناء على المقتضى الآنف الذكر. رُبَّ قائل يقول بأن الهدف من منح سلطة التعيين حق الرفض يَكْمُن في تمكينها من الاحتفاظ فِيمَن تعتبرهم أطراً كُفْأة ليس إلا، غير أن أسئلة حارقة بهذا الشأن تطرح نفسها بإلحاح. فهل المقتضيات القانونية الواردة في القانون رقم 72.14 السالفة الذكر والهادفة إلى الرفع من سن الإحالة على التقاعد تَرُوم حصرا استخلاص مساهمات الهيئات المشغلة واشتراكات المنخرطين لسنوات إضافية بغاية تعزيز التوازن المالي لنظام المعاشات المدنية وديمومة تقديم خدماته أم أن الأمر يروم تحقيق أغراض غير مُضَمّنة ومُبَيّنة في صُلْب هذه المقتضيات؟ إن الجواب القطعي، في تقديري المتواضع، يَتجسّد في كَوْن المقتضيات المعنية تَتوخَّى أساسا العمل على ديمومة نظام التقاعد المذكور، وبالتالي نتساءل عن عِلّة ربط طلب التمديد والتجديد بموافقة سلطة التعيين؟ علما بأن كل رفض لأي طلب يُفِيد بحرمان نظام المعاشات المدنية من مساهمات واشتراكات إضافية مع تحميله صَرْف معاشات فورية لفائدة أصحاب الطلبات المرفوضة. وقد يُدْلي البعض بِمُبرر فتح المجال لتوظيف الشباب في المناصب المالية الشاغرة من لدن المتقاعدين برسم سنة مالية مُعيَّنة لرفض التمديد والتجديد، غير أن هذا الطرح كان من المُمكِن مناقشة أبعاده ودلالاته وآثاره المالية قَبْل اعتماد القانوني المالي للسنة المالية 1996-1997، أما بعد نشر هذا القانون الأخير وتفعليه لاسيما في الشق المتعلق بحذف المناصب المالية فإن مآل المناصب المالية للمحالين على التقاعد برسم كل سنة يكون الحذف، وبالتالي يتعذر استثمارها من جديد في التوظيف باستثناء المناصب المحتفظ بها لموظفي البلاط الملكي وإدارة الدفاع الوطني ورجال التسيير والصف بالقوات المساعدة(القانون رقم 8.96 للسنة المالية 1996-1997،ج.ر عدد 4391 بتاريخ فاتح يوليوز 1996 ص 1198). وحُجَّة أخرى، سبقت الإشارة إليها، يُلوِّح بها البعض للدفاع عن حق سلطة التعيين في رفض التمديد أو التجديد تتمثل في عدم كفاءة بعض الموظفين مما يُعرِّض طلبات التمديد أو التجديد المُقدمَة من لدنهم للرفض. فهل الموظف الذي اشتغل بأسلاك الإدارة إلى أن اشتعل رأسه شيبا، أو كاد، يُعوِزه الحد الأدنى من الكفاءة لمزاولة مهامه؟ وكيف يُعقَل أن الموظف إلى حدود سن 63 سنة يتمتع بالكفاءة وتُسحَب منه بمجرد طلب التمديد أو التجديد! وهَبْ أن هناك موظفين غير أكفاء فَهْل القانون رقم 72.14 جاء لمعالجة التوازن المالي لنظام المعاشات المدنية أم لمعالجة بعض الأمراض التي تشكو منها الإدارة؟ حَتْما القانون السالف الإشارة يختص بالعمل على تعزيز التوازن المالي للنظام المذكور عبر آلية رفع سن التقاعد والتمديد والتجديد بعيدا عن ورش إصلاح الإدارة. وبهذا الخصوص لا يسعنا إلا أن نترافع من أجل: * القيام بإحصائيات (لاحظ أن الإدارة موضوعة تحت تصرف الحكومة وفق الفصل 89 من الدستور) تروم الإحاطة بعدد طلبات التمديد والتجديد التي يتم رفضها منذ دخول القانون رقم 72.14 حيز التنفيذ بغاية تحديد النسبة المئوية للطلبات التي كانت موضوع الرفض مقارنة بالطلبات المقبولة من جهة، وبعدد الموظفين الذين أُحِيلوا على التقاعد منذ اعتماد الإصلاح المقياسي سنة 2016 من جهة أخرى، وفي تقديري المتواضع، بناء على انطباعات شخصية نابعة من التواصل المستمر مع كثير من الموظفين ليس إلا، أن نسبة الطلبات المرفوضة مهمة، ولو تم قبولها لن تكون هناك حاجة على المَديَيْن القصير والمتوسط، لرفع سن التقاعد إلى 65 سنة مع التمديد والتجديد، * إلغاء المقتضى الرامي إلى ارتهان طلبات التمديد والتجديد بقبول سلطة التعيين ليكون مآل كل طلب القبول بقوة القانون، * تجسيد التمديد والتجديد بقرار لسلطة التعيين بدلا من رئيس الحكومة، في إطار تبسيط المساطر، باعتبار ان هذه القرارات ليست بأهمية أكثر من قرار التوظيف أو الحذف من الأسلاك بسب عقوبة تأديبية من جهة، وتخفيفا عن كاهل رئيس الحكومة من جهة أخرى … ولاحظ أنه في هذا السياق تم تخويل وزير الداخلية اتخاذ قرارات التمديد والتجديد لفائدة موظفي الجماعات الترابية(مرسوم رقم 2.21.197 بتاريخ فاتح مارس 2021 بتفويض سلطة التوقيع على قرارات تمديد حد سن الإحالة على التقاعد لفائدة موظفي الجماعات الترابية، ج ر عدد 6973 بتاريخ 29 مارس 2021 ص 2047 ). وفي هذا المنحَى، وبناء على التعليلات المبينة أعلاه، يُقترح إعادة صياغة الفقرة المعنية بالتمديد والتجديد من القانون رقم 72.14 بالشكل الذي يجعل قبول كل طلب يتم بقوة القانون وبقرار من السلطة التي لها حق التعيين. وفي الختم، فإن هذا الرأي القانوني المتواضع يُفْضِي إلى: * تبسيط المساطر عبر تفويض التوقيع على قرارات التمديد والتجديد لسلطة التعيين، * تجنب احتقان اجتماعي جديد بدأت تلوح إرهاصاته في الأفق (لاحظ تصريح أمين عام لنقابة مشاركة في الحوار الاجتماعي بخصوص رفع سن التقاعد إلى 65 سنة)، * ارتفاع قبول طلبات التمديد والتجديد بنسبة مهمة مما يساهم حتما في تقوية التوازن المالي لنظام المعاشات المدنية وبلوغ الهدف المراد من رفع سن التقاعد إلى 65 سنة دون اقتراحه أو اعتماده.