كما لو كان الراحل استعاد أنفاس الحياة وقفز من لحده في مقبرة الشهداء، حاملا محفظته العتيقة، وتوجّه عبر شارع عبد المومن متجاوزا باب الرواح ليتجه نحو مدرّج الشريف الإدريسي لإلقاء إحدى محاضراته الدسمة في علم السوسيولوجيا. الجميع كان بكلية الأداب بالرباط، عشرات الطلبة المتزاحمين في مدخل المدرّج، وجلّ أساتذة ومسؤولي الكلية، وهم بدورهم مجرّد طلاب للراحل محمد جسوس. هذا الأخير كان حيا يطلّ بنظرته الباسمة على الحاضرين، مساء أول أمس، لحفل تأبينه وإلقاء كلمات العرفان تجاهه وتجاه ما أسداه من خدمات للعلم والسياسة. «سأحدّثكم بالدارجة.. فقد مرّت الآن 17 سنة على مغادرتي المغرب وإقامتي في الخارج.. الدارجة كانت مهمة عند بابا أيضا، لأنه كان يريد أن يفهمه الناس»، يقول عمر جسوس، نجل «أب السوسيولوجيا» المغربي بدون منازع. جسوس الإبن بدا شديد التأثر لدرجة لم تفارق ابتسامة الهارب من البكاء ملامحه، «أنا وأختاي نادية وليلى، نتذكّر كيف كان الطلبة يترددون على بيتنا طيلة الأسبوع، ونتذكر أن بيتنا كان يعرف دائما التحليل والمناقشة، بابا كان أستاذا، لكنه كان يتعلم من طلبته يوميا، لم يكن « sens interdis »، عمل طلبته كان كلّ حياته، وهذه الكلية كانت بيته الثاني.. كان يقرا في كل ليلة ويكتب، وأكثر ما كان يقرؤه هو ما يعطيه إياه الطلبة من بحوث، لم يكن ينام كثيرا، وكان يقرأ وبموازاة مع ذلك يشاهد الأفلام، خاصة أفلام «الوستيرن» والحركية والخيال العلمي، الأفلام الإيطالية تحديدا». الدواي: سألته هل سنلتقي مجددا فأجاب بابتسامة استعادة شريط الذكريات مع فقيد العلم والسياسة، افتتح مجاله عمر ليتبعه في ذلك باقي المشاركين في التأبين. «التقيت بجسوس وزوجته شهرا قبل موته، بداية يناير الأخير»، يقول الباحث والكاتب المغربي عبد الرزاق الدواي، ليسترسل قائلا: «التقينا في يوم مشمس في حي الرياض بالصدفة، فقلت له أنا سعيد لرؤيتك، لأنني لم أرد أن أزعجك في المنزل، وهذه فرصة للقاء بك. كان يمشي ببطء فأمسكته من ذراعه، وأخذنا نتحدث عن المرض والعمليات الجراحية، ومن غادرنا، ومن في الانتظار، فأخبرته أنني أجريت عملية جراحية، فقالت لنا زوجته: «لقد وصلنا إلى مرحلة تغيير قطع الغيار»، وفي الأخير ودعته، وقلت له هل سأراك قريبا؟ فابتسم وابتسمت، وكان هذا هو الجواب على السؤال». الصف المقابل لمنصة الحفل التأبيني، خصّص بالكامل لقيادة حزب الاتحاد الاشتراكي، يتقدّمهم الكاتب الأول إدريس لشكر. هذا الأخير وبعدما غاب عن جنازة الراحل، حضر هذا المساء ليقول، إنه تعرّف على محمد جسوس سنة 1973، «وأنا طالب في كلية الحقوق، وعرفته في سنوات كان ممنوعا علينا دخول مقرات الاتحاد الاشتراكي، لأنها كانت مغلقة بالشمع الأحمر، واخترنا معه أن نشتغل في ربوع الوطن من خلال الجمعيات، ولم نكن حينها نعتبرها مجتمعا مدنيا، وكان أول لقاء له في جمعية «أعن أخاك» في اليوسفية، وكان كل الطيف اليساري المقموع يشتغل من داخل الجمعيات». لشكر قال، إن جسوس هو الذي حافظ على صلة الوصل بين الاتحاد وبين الأقاليم والجهات: «كان يعمل رفقة من لم يشملهم الاعتقال، وكان أكثرهم تحركا في الأقاليم، وفي مختلف الفضاءات. هذا التحرك كنت قريبا منه، لأن جسوس كان لا يقود السيارة، لذلك كنا دائما مكلفين بنقل الأخ محمد جسوس إلى كافة الفضاءات الجمعوية، وفي بناء الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في قطاعاته، وفي أقاليمه وجهاته». الكاتب الأول لحزب الوردة قال، إن أقاليم كثيرة كان الفضل في تأسيسها يرجع إلى «الأخ جسوس»، «فالقمع جعل بعض الأقاليم شبه فارغة، ففي تازة –مثلا- كان أخونا عزوز الجابري من خلال الجمعيات الشبابية وفرع جمعية «أعن أخاك» قد أسس الشبيبة، وذهبنا إلى عزوز قصد التحضير للمؤتمرات في إطار إعادة بناء الحزب، وكثيرة هي الأقاليم التي أعيد بنيانها بعد المؤتمر الاستثنائي». وخلص لشكر إلى أن لجسوس بصمة في كل واحد من أبناء جيله، «وفي كل وثيقة صدرت عن الاتحاد الاشتراكي، مؤتمرات نسائية وشبابية وقطاعية، عند عقد المؤتمر كان تخصصه في علم الاجتماع ومنهجه العلمي يجعلنا ننتبه إلى الجزئيات الصغيرة والأمور التي قد تبدو بسيطة، لكن أثرها كبير». باينة: لم يجعل الثقافة مطية للارتزاق ثلاث خصائص تجعل محمد جسوس حاضرا رغم وفاته، حسب رفيقه عبد القادر باينة. الأخير لخّص هذه الخصائص في كل من «المثقف المتميز، والمفكر الممارس، والسياسي الزعيم». وأوضح باينة، أن جسوس كمثقف، كان نموذجا للمثقف العضوي الذي يجعل من الثقافة مصدرا لتدعيم المعرفة الجيدة والرصينة، «من خلال مجهوده الشخصي للتلقي وتعميق التكوين الذاتي. كان يربط الثقافة والعلم بالهموم اليومية للمواطنين، ولم يجعل من الثقافة مطية للربح المادي أو الارتزاق أو التملق أو إلباس الثقافة بلباس «النخوة على الخوا»، بل جعل الثقافة وسيلة لرفع الوعي لدى المواطنين والدفع بالمؤسسات الثقافية والعلمية لتكون أداة لتوسيع المدارك، وتجنيب الأفراد والجماعات معارك التجهيل والتضبيع، كما كان يقول بكل جرأة». وإلى آخر أيام حياته، ظل الراحل محمد جسوس، حسب باينة، يوصي بعدم جعل السياسة مطية لتحقيق مصالح شخصية، «كان صوفيا في السياسة، ولم يكن سباقا ومزاحما إلى المناصب والامتيازات، لكنه سباق ومنافس في التطوع والمبادرة في تقديم الخدمات الفكرية والإشعاعية، وتقلد المهام الصعبة في الميدان والجهر بقول الحق، وكان لا يخشى في ذلك لومة لائم. كانت سمته التواضع، وهو تواضع العلماء الكبار الذي يجعله يحترم آراء المخالفين، ويحث على الدفع بالتي هي أحسن». رئيسة جامعة الحسن الثاني بالمحمدية، والأستاذة السوسيولوجية الشهيرة رحمة بورقية قالت، إن حضورها لحفل التأبين ليس مجرد استجابة لطقس يفرضه الحزن والفقدان أو استحضار لمناقب رجل «كنا نقدره ونعتز بصحبته»، بل اعتراف أجيال من الطلبة «تعاقبوا على هذه الكلية بتميز أستاذ ترك من خلال أفكاره وسلوكه ومواقفه ورسالته للأجيال، والتي ستجعل منه أستاذا يحيى دائما بيننا»، قبل أن تكشف رحمة بورقية عن علاقة القرابة التي تربطها بالراحل جسوس، وهي قرابة التعليم والمعرفة. «فهو الذي ساهم في تكويني، وفي مساري المهني، ورافق مسيرتي منذ السبعينات عندما دخلت الكلية كطالبة أتلمّس طريقي بتردد، وهو في ذلك الوقت الأستاذ المغربي المتميز بحضوره وجودة دروسه بين مجموعة من الأساتذة المؤطرين في شعبة الفلسفة بالقسم الفرنسي، وتلقيت على يده المعارف وأنا حديثة الالتحاق بالكلية كأستاذة مساعدة». بنسعيد: هكذا درس السوسيولوجيا بدل الشريعة «عشرتنا تفوق ال44 سنة»، يقول عملاق آخر من عمالقة السوسيولوجيا المغربية، إدريس بنسعيد. هذا الأخير قال، إن جسوس كان رجل اختيارات، «بعضها اختارها بنفسه، وبعضها يندرج في ما يسمى بمكر الصدف». ثم غاص بنسعيد بعيدا في طفولة جسوس، موضحا أنه ينتمي إلى أسرة حرفية فقيرة، «أدخله والده إلى الكتاب القرآني وحفظه فيه، فخلف لنا خطا مغربيا جميلا، وبعد انتهاء مرحلة المسيد ألحقه والده بمدرسة من مدارس الحركة الوطنية التي لا تدرس إلا باللغة العربية، وحصل فيها على الشهادة الابتدائية، وبدأ يستعد للالتحاق بالقرويين، لكن بعض أصدقاء والده نصحوه بإلحاقه بالمدرسة العصرية، فتم إعفاؤه من بعض السنوات نظرا لنبوغه، قبل أن ينتقل إلى ثانوية مولاي إدريس. ورغم أنه كان متفوقا في الرياضيات، لكن شباب المنطقة الكبرى لمكناس وفاس يلتقون في دير بمدينة آزرو، وفيه تعرف جسوس على السوسيولوجيا من خلال مكتبة الدير، فرحل إلى مونريال وفي جيبه 300 درهم بمساعدة من بلا فريج، وهناك درس السوسيولوجيا، وحين عاد التحق بالجامعة عن قناعة، وبهذه الكلية تحديدا، والتي كان يعتبرها بيته الثاني، حيث شارك في تأسيسها وتأسيس تقاليدها». «أول مرة التقيت به كانت سنة 1974»، يقول كبير آخر من كبار السوسيولوجيا، المختار الهراس. «كنت طالبا لديه في السنة الثالثة، وحينها تم استقدام مجموعة من الأساتذة من خارج المغرب للتدريس في كلية الآداب لمحاربة المد التحرري في الجامعة المغربية، وكان هو في نظر الطلاب يمثل شمعة مضيئة في مناخ مظلم إلى حد بعيد، كان يبعث الأمل في نفوس الطلبة، ويحثهم على الاستمرار في الانتماء للجامعة»، يضيف الهراس، موضحا أنه أنجز بحثه للإجازة تحت إشراف جسوس، ثم دبلوم الدراسات العليا، ودخل مساعدا عبر لجنة كان جسوس عضوا فيها. «كنت شابا باحثا عن الطريق فأخذ بيدي ووضعني في السكة وأنار سبيلي، ولم يترك الأستاذ المساعد الجديد يتخبط لوحده في إعداد محاضراته أو الإشراف على البحوث، بل أخذ بيدي وكان ينظم حلقات جماعية لتحضير الدروس والتحاور حول البحوث التي كنا نحضرها، وكل واحد كان يقترح مضمون الدرس الذي يود القيام به ونناقشه سويا». تلاميذ جسوس هم أساتذة السوسيولوجيا اليوم، تناوبوا على الاعتراف بكونه هو من غرس فيهم حس البحث الميداني، «وكانت مادة البحوث والمناظرات بأهمية خاصة لديه، وكان مناضلا في الجامعة أيضا، كان له اهتمام كبير بتعليم أبناء الشعب، وكم طُرحت عليه بدائل مهنية، وكان بإمكانه أن يختار بدائل أخرى، خاصة بعدما صار في فترة ما علم الاجتماع مهددا في المغرب، وتبين أن الدولة لم تكن راغبة في مد هذا الحقل بالإمكانات الضرورية، لكنه لم يتخلى عن طلابه، وما رأيته يوما يرفع صوته على طالب من طلابه، يتكلم بلطف مع الناس ويعاملهم معاملة طيبة». لشكر: احتضننا يوم اعتقل بوعبيد اعتراف آخر صدر من كبير الاتحاديين حاليا، إدريس لشكر قال: «عرفناه قائدا ارتبط بالمناضلين حتى الأصغر شأنا، وفي مواقعهم البسيطة، كان متواضعا جدا، وبيته كان مفتوحا لنا ونحن شباب، وحتى لما جاءت الحملة القمعية في 1981، واعتقل إخواننا في ميسور، وأغلقت في وجوهنا بعض أبواب إخوتنا، حيث احتضننا واحتضن برنامج عملنا في غياب الأخ بوعبيد ومن اعتقل معه، هو جسوس، رغم بعض الصد من طرف البعض، استقبلنا في بيته دون خوف أو تردد.. رحمة الله على الأخ الأكبر لنا جميعا كجيل». «تعلمنا منه أن المهم أن يكون الإنسان بسيطا، وليس مهما مع من تتحدث»، يقول نجل الراحل، عمر جسوس: «كان يقول، إن عليك أن تحافظ على الإحترام، سواء كان طفلا أو شابا أو شيخا، رجلا أو امرأة، عندو الفلوس ولا ما عندوش، المهم دائما الاحترام».