مِن أجل مَن تتحرك الدبلوماسية الأميركية والأوروبية، بحثاً عن هدنة فورية في الحرب على غزة، وتحشر معها في هذا الرقص الهستيري أطرافاً عربية من هنا وهناك؟ هل يكون ذلك من أجل حقن الدم، وإنقاذ الشعب الفلسطيني الذي يواجه جرائم الحرب الإسرائيلية، بكل ما يملك من صبرٍ وكرامةٍ وقدرة على المقاومة؟ هل يكون من أجل تحقيق السلام، وإقرار الحقوق الوطنية الفلسطينية؟ لا هذا ولا ذاك. يبدو أن الهدف الملحّ والعاجل لهذا التحرك هو وقف معاناة إسرائيل، هو وضع حد لهذه المواجهة الفاضحة، والعودة إلى نقطة الصفر، أي إلى الموت البطيء الذي يقترحه العالم على غزة التي لم تكن أبداً في ذهن إسرائيل تراباً فلسطينياً محرَّراً، بل مجرد سجنٍ ضخم تديره آلتها العسكرية عن بعد، بالحصار والتجويع، وبطائرات الاستطلاع التي تقتل كل يوم من تشاء، متى تشاء. تعرف إسرائيل، ويعرف الغرب، أن أخطر ما في هذه المواجهة، هو أن تستمر، أي أن تحفر في هذا السطح المحترق، حتى تصل إلى ما يعتمل في العمق، إلى صلب القضية، لأن كل هذه "التفاصيل" حول غزة، وصواريخها وأنفاقها ومعابرها وضحاياها، ليست هي القضية، ليست القضية تحطيم المنصات، وفتح المعابر وتخفيف الحصار، فهذه أشياء مرتبطة بأعراض الاحتلال، وليس بالاحتلال نفسه. وهي قد يشرع في تطبيقها اليوم، ثم يتراجع عنها غداً. القضية حتى وهي تبدو، في السياق الحالي، ضرباً من الجنون، هي، ببساطة، حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة، وعاصمتها القدس الشريف. كل هذا العنف، وكل هذه المقاومة، لا يمكن أن تكون من أجل شاحنة إسمنتٍ، تمرّ من المعابر بدون عرقلة. طبعاً، كان الأمر سيكون أكثر بداهةَ، لو تغلبت الأطراف الفلسطينية على أهوائها، ورتبت شرعية سياسيةً واحدةً، لا تجعل من الاختلاف والتعدد وسيلة للتدمير الذاتي. ولكن، مهما يكن من أمر، فليس من حق كيانٍ مغتصبٍ أن يحدد بكل غطرسة ما هو "الصنف الفلسطيني" المنذور للإبادة، وما هو الصنف القابل "للتهجين". أولاً، لأن الفلسطينيين لن يقبلوا بذلك، وثانياً، لأن مسارات التحرر الوطني في كل بقاع العالم لم تُبنَ على اختيار جزء من الشعب لمشروع الاستقلال، في مقابل التخلص من جزءٍ آخر، لا يحبه المستعمر. من السهل أن نفهم قلق الغرب من استمرار هذه المواجهة، فهو يعرف أن العنف الأعمى الذي تواجه به إسرائيل شعباً محاصَراً في غزة لن يحل مشكلة أمنها الذي تدّعي أنها تحارب من أجله، فحتى في حربٍ غير متكافئة، وبخسائر لا يمكن المقارنة بين أهوالها، فإن الدولة الغاصبة هي أكثر عرضة للوقوع في فخّ العزلة والتأزم السياسي، وإسرائيل التي تلعب دائماً دور الضحية، وبمسرحيةٍ متقنةٍ، ستجد نفسها فريسةً للعبتها، فالجنازات التراجيدية لجنودها قد تُسيل في الغرب دموعاً تلفزيونية، لكنها في المجتمع الإسرائيلي ستحفر ندوباً لن تمحى، وستنتقل سريعاً من المقبرة إلى الشارع السياسي، و"الفوبيا المنظمة" من "صواريخ حماس" ستنتقل من التباكي على أمن إسرائيل إلى مقاطعة شركات الطيران الغربي مطارات بلد كل المخاطر، والحرب المزعومة على "الإرهاب" ستزجّ حتماَ بإسرائيل في جرائم حربٍ، لن ينجح أحد في إخفاء بشاعتها... نعم، من الممكن أن نفهم قلق الغرب من استمرار المواجهة، خصوصاً أن هذه الحرب الهمجية استدعت نفسها للشارع الغربي، وإلى رأيه العام، كما اتضح جلياً في مظاهرات فرنسا، المساندة للشعب الفلسطيني. ولكن، ما الذي يقلق العرب. لماذا كل هذا الإصرار على الوصول إلى اتفاق هدنةٍ بوجبة بنود يعاد تسخينها للمناسبة، لا شك أن هذا القتل المنهجي للمدنيين مرعب، ولا يحتمل، ولكن هدنة العودة إلى الصفر أشد من القتل. لماذا لا يتوجه العرب إلى تعبئة المساعدة الإنسانية، والتركيز فقط على إمداد الضحايا بالملاجئ الآمنة، والأغذية والأدوية ووسائل الإنقاذ، وترك المبادرات السياسية لأصحاب الشأن؟ هل حاول هؤلاء "المهدّئون المحترفون"، ولو مرة واحدة، أن يضعوا في كفَّتَي ميزان عددَ الضحايا الذين سقطوا حتى الآن، وبنود الهدنة المقترحة؟ هل يمكن لأي شعب أن يدفع كل هذا الثمن الدامي مقابل معالجة سطحية لجرح غائر؟ لا يتعلق الأمر، هنا، بمطالبة الشعب الفلسطيني بإطعام نفسه لآلة التقتيل الإسرائيلية في مقابل نصر مستحيل. ولكن، فقط بمطالبة السلطة الفلسطينية وحماس بابتكار انتفاضةٍ سياسيةٍ، تليق بهذه التضحيات الجسيمة، وتنقل التفاوض من تفاوض على الأوهام إلى تفاوض على الجوهر.