كان ركام المباني لم يزل يغطي شوارع وساحات من المدينة حين بدأ سماسرة العقار تحرّكاتهم. زار مضاربون أسرة غلاممرتين مقدمين عرضا لشراء منزل محطم في أحد أشهر شوارع بيروت. ظلوا يتصلون برجل من الأسرة عدة أيّام قبل أنيتوقف عن إجابتهم. حين أخفق الأسلوب المباشر، لجأ المضاربون إلى أساليب ملتوية من قبيل إرسال زوار مجهولينليشيعوا بين ملاك المنازل أن بيوتهم غير قابلة للإصلاح وتستدعي الهدم. مر شهران منذ الانفجار القوي الذي هز ميناء بيروت في رابع غشت الماضي، والذي أودى بحياة حوالي 200 شخص. لميزل مركز المدينة على حال الدمار مع مباني مكشوفة يتكتل الحطام والركام على شرفاتها. أحصى الجيش اللبناني أزيدمن 85 ألف منزل وشركة أتلفها الانفجار. ويقدر حجم الضرر الذي لحق المباني وحده بما بين مليارين و800 مليون دولارو3 ملايير و400 مليون دولار، حسب البنك الدولي. ومع بدء أشغال إعادة إعمار المدينة، يبدي كثير من اللبنانيين قلقهم مما سيخرج من رحم الأنقاض. فقد أفسدت عقود منالتنمية العشوائية الجمال الطبيعي والهندسي لبيروت. التهمت الحيتان العقارية الشريط المتوسطي للعاصمة، تاركةسكانها بلا ولوج لشواطئها العمومية. هدمت الجرّافات البيوت والقصور التقليدية لفسح المجال أمام مجمعات سكنيةقبيحة. رغم ذلك، ظل جمال المدينة حيا ببعض الأحياء. بالجميزة ومار مخايل، جرى ترميم بيوت تعود إلى المرحلة العثمانيةبواجهاتها ذات الأقواس الثلاثية، وتحويلها إلى أروقة فنية وحانات للموسيقى والسمر. بحي الكرنتينا القريب من الميناء،تحولت بعض هذه المباني إلى متاجر وكنائس... ثم وقعت واقعة الانفجار. تسببت الكارثة في أضرار لحقت أزيد من 640 مبنى تاريخيا وفقا لليونسكو. ومع تردد المضاربين وسماسرة العقار على هذه المناطق، يخشى سكان العاصمة أن تختفيتلك الأحياء والمباني التاريخية إلى الأبد. ويجد هذا الخوف تبريره في تجربة مشابهة حصلت قبل عقود بالعاصمة. خلال الحرب الأهلية، تعرض مركز مدينة بيروتلأضرار كبيرة، لأنه كان حينها الخط الأول للمواجهة المسلحة. بعد الحرب، شكل رئيس الوزراء رفيق الحريري شركة تدعي«Solidere» للإشراف على إعادة الإعمار (كانت أسرته أحد أكبر المساهمين فيها). استعملت الحكومة مسطرة نزعالملكية للتحكم في هندسة مركز المدينة. محا المنعشون العقاريون مئات المباني التاريخية. وفي مكانها ارتفعت شققومحلات فخمة بأسعار تتجاوز القدرة الشرائية لمعظم اللبنانيين، ليظل معظمها فارغا. وحاليا، يأمل معظم سكان العاصمة المتضررون من الانفجار البقاء وإعادة إعمار، لكن هناك من يجدون صعوبة شديدةحتى في إصلاح نوافذهم المكسرة. فقد أحصى الجيش 550 ألف متر مربع من الزجاج المكسر على طول المدينة. العامالماضي بلغ سعر المتر المربع من الزجاج حوالي 15 دولارا أو ما يعادلها بالليرة اللبنانية (1500 ليرة =دولار). غير أنأزمة البنوك التي بدأت في أكتوبر من العام الماضي دفعت قيمة السوق السوداء لليرة ب80 في المائة تحت معدلالتعاملات الرسمي، ووصل معدل التضخم إلى 120 في المائة في غشت. مع ارتفاع الطلب، تندر الإمدادات، ويصبح معدل الصرف محل تأويل، حيث يفرض الباعة الأسعار التي يريدون (أقلّهاضعف سعر المادة أو ثلاث مرّات سعرها). ويزيد تكلفة استصلاح الزجاج سعر الإطارات الخشبية وتلك المصنوعة منالألومينيوم المتصلة به. طلبت الدولة من المقاولين الالتزام بسعر 750 ليرة للمتر المربع من الزجاج وأطر الألومينيوم. وهذاالسعر يبقى رغم ذلك أكبر من الحد الأدنى الشهري للأجور. فسعر باب أمامي يكلف ما يعادل أجرة شهرين. هذا الوضع هو ما يجعل المضاربين يحومون بحثا عن استغلال الأزمة عبر عرض مئات آلاف الدولارات مقابل المنازلالمتضررة من الانفجار والمنهارة. كان العقار يمثل نسبيا ملاذا آمنا خلال أزمة البنوك، أما حاليا فقد بلغت الأسعار عنانالسماء. خلال الأشهر الخمسة الأولى من 2020، ارتفعت أسعار المعاملات العقارية ب53 في المائة مقارنة بالعامالماضي، وفقا لبنك عوده (بنك لبناني). إذ إن إزاحة مبنى تاريخي واحد تعني إمكانية بناء برج من الشقق الفاخرة باهظةالثمن مكانه. يقاوم كثير من السكان كل هذا بالإصرار على أن منازلهم ليست للبيع. لكن، مع تواصل انهيار الاقتصادوبرد الشتاء والمطر، قد يتعرض هذا الإصرار لزلزلة قوية.