هل جعلتك مشاركتك في أولمبياد سيدني تخرج بخلاصة مفادها أن التنافس في سباق 10 آلاف ليست الأمثل بالنسبة إليك، أم العكس تماما؟ في واقع الأمر، كان سباق 5 آلاف متر أفضل بالنسبة إلي. ومع ذلك، فالحكم على نوع السباق يعود إلى المستوى المستخلص من الموسم الرياضي، بحيث إن كنت جيدا في سباق ما يستحسن أن يكون هو مادة المشاركة ومجالها. فلنفترض أنني جريت ثلاثة إلى أربعة سباقات لمسافة 5 آلاف متر في الموسم، وكلها انتهت بزمن أقل من 13 دقيقة، في تلك الأثناء، معناه أن المشاركة في هذا السباق ستكون بناءة، وستفضي إلى نتائج جيدة. وما وقع في الألعاب الأولمبية، التي جرت بأتلانتا سنة 1996، هو أنني شاركت في سباق 10 آلاف متر من دون أن أكون مهيئا له بقوة. ثم إن المنافسة كانت تجري بين نصف نهائي ونهائي، بحيث كان كل منهما يحتاج إلى تدبير خاص. مباشرة بعد المشاركة في أولمبياد أتلانتا، ستكون على موعد مع الحدث الكبير والتاريخي، المتمثل في تحطيم الرقم القياسي العالمي لسباق 10 آلاف متر. ترى كيف دبرت المرحلة بين الأولمبياد وملتقى بروكسيل ليوم 23 غشت 1996؟ أول شيء حدث بعد المشاركة في أولمبياد أتلانتا أنني عدت، برفقة خالد السكاح ورشيد لبصير، إلى المغرب. كنت قد نزلت بالدار البيضاء، ومنها إلى بني ملال، ثم إلى إيفران، حيث أجريت بعض التمارين الخفيفة. فحتى أكون واضحا معك، لم يكن معقولا، في تلك الأثناء، إجراء تداريب مكثفة، مادام الأمر يبنى على أساس سنوات من التدريب والاستعداد، بحيث تحمل معك زبدة ما وصلت إليه، وتنطلق منه إعدادا لليوم الموعود. ثم إن الضغط الذي كان يثقل الكتفين قبل المشاركة في دورة أتلانتا للألعاب الأولمبية صار في خبر كان، وبالتالي كنت قد تحررت، عند العودة إلى المغرب، من كل الأثقال. فقط حتى يفهم الناس، ما هي طبيعة التداريب التي أجريتها في تلك الأثناء؟ كانت التداريب خفيفة على العموم، على اعتبار أنني وصلت مستوى جيدا جدا قبل الذهاب إلى الأولمبياد، فضلا عن أنني بلغت مواقيت ممتازة في سباق 5 آلاف متر، ونلت الميدالية النحاسية في أتلانتا. ونحن حين نتحدث عن التداريب، نقصد سنوات طويلة، بأيامها ولياليها، وهي التي تؤثر على الأداء العام للعداء. وكما يقال شعبيا "قطرة قطرة، كيحمل الواد". أعطني مثالا عما قمت به في تلك الفترة كي نقرب الأمور لأفهام الناس. كنت أركض، مثلا، مسافة 2000 متر خمس مرات، كل منها بمعدل خمسة دقائق و18 إلى 20 ثانية، على أن يكون الفاصل الخاص بالاسترجاع خفيفا. وأتحدث هنا عن تداريب ترجى في إيفران، التي تعلو سطح البحر بما يزيد عن ألف متر، بما تعنيه من حاجة إلى الأوكسجين، وما تتطلبه من جهد كبير. وعرف عني، حينها، أنني "مكنتش كنحن في الفوتينغ.. بداية من راسي.. منين كنلبس الشورط والسبرديلة، وكنخرج للغابة، صافي.. مكاينش اللعب". لقد كان الإيقاع هو نقطة قوة حيسو، بحيث لم يكن يجاريني فيه أيا كان. شيء آخر لا بد أن أشير إليه هنا، لأن له أهمية كبيرة جدا. وهو الطموح. فحين يكون لديك طموح قوي، فلا شيء يقف في وجهك، متى أراد الله. قبل المشاركة في ملتقى بروكسيل، ترى هل خططت لتحطيم الرقم العالمي أم جاء بالصدفة، ولأنك كنت جاهزا تماما؟ حتى أكون واضحا معك، فقد كنا نخطط لإنجاز كبير. نعم، كنا نعد لمحاولة تحطيم الرقم القياسي العالمي لسباق 10 آلاف متر في ملتقى بروكسيل. فقد كنا إزاء نهاية الموسم، وبالتالي إزاء آخر سباق في المسافة. وأذكر، بالمناسبة، أن كلا من عبدالقادر قادة، مدربي، وعزيز داودة، المدير التقني الوطني، حينها، قالا لي، حين كنا في مضمار التسخينات، بأنني مؤهل لتحطيم الرقم العالمي، وأنها فرصتي. وقال داودة: "بإمكانك أن تبرز على المستوى العالمي، والدليل أنك تميزت في الأولمبياد، وكان بالإمكان أفضل من ذلك أيضا". وبينما كنت، ومن معي، قد خططنا لمحاولة تحطيم الرقم القياسي العالمي، فقد كان كل من بول تيرغات وبول كوش، ومن معهم، خططوا هم أيضا لمحاولة التحطيم من جانبهم. لندخل الآن إلى السباق، ولنبدأ بالألف متر الأولى. كيف جرت من الزاوية التي كنت فيها أنت؟ يحتاج عداء العشرة آلاف متر إلى أن يركض 25 دورة حول مضمار الملعب، لينهي سباقه. وحين كنا بصدد الدخول إلى المنافسة في ذلك المساء من يوم 23 غشت 1996، قررت ألا أغامر بالتقدم إلى الأمام، بل كنت مصمما على أن أراقب الآخرين، ثم أتقدم كلما تعب أحدهم، كسبا للمسافة والوقت. فالوضع العادي في بداية السباق أن جميع العدائين يكونون في حالة لياقة جيدة، وبالتالي ستفشل كل محاولة للانسلال والابتعاد مع البدء. وما يحدث أن الأقوياء، المستعدون جيدا، هم من يحافظون على حظوظهم في الفوز بعد عبور 5 آلاف إلى 6 آلاف متر، لا سيما إذا عبر المعنيون مسافة 5 كيلومترات في زمن قدره 13 دقيقة و20 ثانية؛ أو أقل أو أكثر بقليل، وهو الزمن الذي تربح به المسافة في الملتقيات الكبرى. بكلمات أخرى، لا يمكن لأي عداء، في سباق لمسافة 10 آلاف متر، أن يتم التنافس، ويراهن على الفوز، ما لم يكن قويا ومستعدا. ولهذا بالضبط ظللت تراقب السباق من الوسط، ثم حين تبين لك بأن العدائين الذين يراهنون على الفوز صاروا قلة قلية جدا، قررت المغامرة. أليس كذلك؟ في وقت من الأوقات، وكنا قطعنا نصف المسافة أو أكثر، لم يبق معي سوى بول تيرغات وبول كوش؛ أي كينيان ضد مغربي واحد. وإذا بالجماهير تصيح بقوة، والمذيع بدوره يعلي الصوت، معلنا عن إمكانية تحطيم الرقم القياسي في حال ظل إيقاعنا جيدا. في تلك الأثناء، شعرت بأنني أزداد قوة على قوتي. "وليت واحد آخر" (يضحك، ثم يواصل). وفي لحظة من اللحظات قال لي عبدالقادر قادة، وكان يراقب العدائين الآخرين، إن بول تيرغات انتهى أمره، بحيث ظهرت عليه علامات الإنهاك واضحة لا شك فيها. أي أن الطريق صار معبدا حينها نحو الفوز والرقم القياسي؟ بالفعل. فقد كانت الإشارة من عبدالقادر قادة مهمة جدا، وقررت معها أن أحاول الانسلال، كي أختبر مدى ما وصلت إليه لياقة كوش. فإن هو تبعني، سأغير الخطة حسب الوضع الجديد، وإن لم يفعل، فلن أتوقف حتى النهاية. وغامرت فعلا. نعم، غامرت. فلم يكن ما بقي من مسافة السباق، في تلك الأثناء، سوى كيلومترين ونصف؛ أي خمس دورات فقط. وهي مسافة ليست بالبسيطة في سباق العشرة آلاف متر. ترى كيف كنت تشعر بلياقتك في تلك اللحظات بالذات؟ "كنت الطوب". بكل صراحة. ولم يسبق لي أن قلت هذا الكلام في تصريح صحافي. شيء آخر أبوح لك به، وهو أنني شعرت، في الدورتين الأخيرتين، كما لو أن أحدا ما يدفعني. سبحان الله العظيم. "أقسم لك بالله العظيم. حسيت بحال إلى شي واحد دافعني، وكيقول لي سير أولدي الله يرضي عليك". ولله الحمد، فقد كان دأبي عند كل سباق أن أصلي ركعتين، وأسأل الله التوفيق. "وهذاك هو الدوباج ديالنا حنا اللي كيهضرو عليه. مكايدوم غير المعقول، والصبر الصبر الصبر". كنت أشعر بأنني مرتاح في خطواتي، ومما زادني خفة ورشاقة ورغبة في العطاء أنني سمعت المذيع في الملعب يعلي الصوت بحماس، قائلا إن هناك إمكانية جدية ومعقولة لتحطيم الرقم القياسي لسباق العشرة آلاف متر.