تشكل لغة السياسيين حقلا دائما لإنعاش سوق الكلام، خاصة حينما يتعلق الأمر بسياسيين في بلدان يسمح لهم فيها بإنتاج الكلام أكثر من الفعل، وليس أي كلام طبعا، فهناك خطوط وحدود تسيج المتكلم في ما ينتج من خطاب. هذا ليس تبخيسا لقوة الكلمة، فالكلام شكل من أشكال إنتاج سلطة رمزية، سواء كانت سلطة معارضة أو موالية، والكلمة قد تقول كل شيء عن المتفوه بها، وقد تغلفه بغموض أكثر. اللغة عموما بقدر ما تظهر تخفي، ولغة الصمت كذلك، وإذا تكلمت نبيلة منيب، فهي تظهر ما تخفيه، وإن حاولت عكس ذلك. الكثيرون من المعجبين بكاريزما المرأة التي تقود حزبا يساريا، وحتى غير المعجبين، ينتظرون من السيدة دائما شيئا مفاجئا، قد يكون موقفا قويا تجاه السلطة، وهو الأمر الذي يتسم به خطابها عموما، أو قد يكون انتقادا لاذعا لأحد السياسيين، أو تضامنا صادقا مع معتقلي الرأي، أوصمتا مطبقا تجاه آخرين، وقد يكون زلة لسان لا تغتفر. المقربون من السيدة في قيادة الحزب يضعون أياديهم على قلوبهم كلما تحدثت، والخروج الأخير ليس الأول الذي تتحرر فيه السيدة من عقال ضرورات التواصل السياسي خاصة، فتسقط ربما دون رغبة منها في بعض ما يحظر على السياسي السقوط فيه، خاصة إذا كان ينتمي إلى هيئة سياسية تجعل من الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان شعارا لها، وتنهل من قاموس توحيد القوى لا تشتيتها. وحين تكون الظرفية ظرفية وباء عالمي، وضعف حيلة بلد يعد موتاه جراء فيروس كورونا المستجد، ويتخبط بين فتح وإغلاق، وما لذلك من تداعيات اقتصادية واجتماعية ونفسية، ولا يملك من قدرات المواجهة غير تعزيز إرادة الاحتراز لدى المواطنين، فما جدوى الجهر بالشكوك حول الفيروس؟ ألا تعلم منيب أن نظرية المؤامرة الكبرى المترسبة في لاوعي ووعي الكثيرين تدفعهم إلى الشك في وجود كورونا من الأصل، فيعرضون حياتهم وحياة الآخرين للخطر؟ هل هو تماهٍ مع أفكار الناس، وإن كانت خاطئة، فقط لتكون قريبا منهم، وإن كان الأمر على حساب الواجب الأخلاقي في ظرف استثنائي لا يتحمل إطلاق الكلام على عواهنه، ويقتضي الخوف على الأرواح. نعلم أنه في لحظات التشكيك الكبيرة، إن لم يقل الرمز السياسي أو المخاطب الذي له جمهور من المستمعين «ويل للمصلين» وكفى، وإن أكمل حجته كاملة، فالكثيرون سيقفون عند حدود «ويل للمصدقين بوجود كورونا». نظرية المؤامرة حاضرة بقوة في تفكير منيب، ورأيها حول كورونا، الذي يُحترم على كل حال وما كان ليثير الجدل لو صدر عن عالم أو مختص يتحدث لغة العلم أكثر من لغة السياسة وليس العكس، ليس هو الرأي الأول الذي يفصح عن غلبة هذا النوع من التفكير في ذهنيتها، فقد سبق أن صرحت بأن هناك «مندسين ربما أرسلهم المخزن ليخربوا الحزب، كل شيء ممكن»، لكن الظاهر أن «الجراثيم»، على حد وصفها، التي اندست في حزبها لا تختلف عن كورونا التي قالت عنها قبل الخروج الأخير إنها صنيعة مؤامرة، وتعتز بكونها من الأوائل الذين اكتشفوا ذلك، وكأنها اكتشفت لقاحا غير ذلك الذي تشكك في محتواه، والظاهر أنها أصابت الحزب بحمى كالتي يصيب بها كورونا جسد المصاب به، فاختراق الأحزاب والمنظمات والنقابات ليس أمرا غير وارد، لكن أن تصير مواجهة المختلفين والمنتقدين بهذه التهمة أمرا سهلا وجاريا على اللسان، فالأمر يشي بوجود عقلية التنميط التي لا يسلم منها حتى دعاة الديمقراطية، خاصة حينما يصدر على لسانهم كلام مثل: «الإنسان لي كيسب ما عندي ما ندير بيه، خاصو يمشي فحالاتو، يمشي فين يتربى»، تقول هذا الكلام وكأن كلمة «جراثيم» ليست سبة، وليست مسا بكرامة الإنسان، وليست قذفا وتشهيرا، وتسترسل مشبهة هذا السلوك بسلوك الدولة، وهي تقول إن حزبها كذلك له قضاء. تذكر عبارة «يمشي فين يتربى» المغاربة بما نطق به عزيز أخنوش في حق المغاربة الذين لا تعجبه طريقة انتقادهم للسلطات. نعم، منيب كانت تخاطب جزءا صغيرا من حزبها، لكن لها طموح أن تكون في مرتبة قيادية أعلى، وهو الطموح الذي على أساسه تتشكل الأحزاب. وإذا كانت تخاطب فئة قليلة ممن اختلفت معهم بهذا الكلام، فأي كلام ستستخدمه إذا اختلفت معها وانتقدتها شريحة من الشعب الذي يضم المتعلمين وغير المتعلمين، وهي التي تعطي ل«القاري» مكانة أعلى، وتقول: «نحن ناس العلم والقراية». سقراط الذي خلده التاريخ وسيظل كذلك، كان معلما معروفا بتوليد الأفكار من محاوريه، ورغم ذلك فالعلم الوحيد الذي يدعيه هو أنه لا يعرف شيئا. سقراط صاحب مقولة «تكلم كي أراك» التي واجه بها شخصا مختالا، وكأنه يقول له أنت لست هذا المظهر، أنت كلمتك.. الكلمة مرآة المتكلم وقنطرة مرور للمتلقي.. سقراط كان يتقن فن ضبط النفس، وهي خاصية لا بد أن يتميز بها السياسي أكثر من الفيلسوف، وقديما قال علي بن أبي طالب: «الرجال صناديق مغلقة مفاتيحها الكلام»، وصندوق منيب يظهر خلفية سلطوية تقفز من الكلمات، وهو ما لا يبرأ منه صف الديمقراطيين في هذا البلد. الديمقراطية ليست فقط معارضة النظام، وبرنامج وخطاب منتقد، إنها كذلك سيكولوجيا، ولا أخطر على الديمقراطية من الديمقراطيين ذوي النزعة السلطوية المترسبة في نفوسهم، الذين ينادون بالتعدد ولغتهم تنحو إلى التنميط.. يدعون إلى احترام الكرامة ويهينون الناس، بل قد يشهرون بهم في الأحاديث الخاصة وأحيانا العامة. «ماعندي ما ندير بالناس لي ما عندها أخلاق، ستؤخر مسيرتي»، هذه جملة كافية ليكشف ضمير المتكلم ما يواريه الكلام.. «خاص الناس المخلقين هوما لي يكونو معايا»، ضمير المتكلم المتملك للحزب يظهر ما لم يقله بشكل مباشر في ثنايا الكلام، وليس إجحافا في حق منيب أن تكون موضع نقد انطلاقا من لغتها، لأن خيبة الأمل لا تكون إلا في من كانت تعلق عليهم الآمال في إنتاج ممارسة سياسية مختلفة يعد الخطاب بوابتها التي تبني فضاء النقاش والاختلاف، وهو الفضاء الغائب في ظل سيادة منطق الاصطفافات، معي أو ضدي، وإن انتقدتني فأنت في صف المناوئ. إنه منطق واحد وعقل واحد، وإن اختلفت المواقع. الكل يريد مصفقين ومساندين دون «لكن»، ومريدين، لا عقول تناقش وتشكك وتجادل. لا ثقافة ديمقراطية دون احترام المختلف قبل المساند، ولا ديمقراطية في النقاش دون «لكن».