قلت إن ويلفريد ميرت، وهو المسؤول رقم واحد عن الملتقى، كان سعيدا جدا بما حدث، مشيرا إلى أنه توقع قدرته على تحطيم الرقم القياسي العالمي. إلى أي حد كان توقعه قبل الحدث مطابقا لما وقع في الأخير؟ ما توقعه ويلفريد ميرت، وبناء على خبرته وتجاربه وحدسه، كان متطابقا مع ما وقع بالفعل، وإلى حد مذهل. وأؤكد، هنا، أنه هو الذي حدد للأرانب مواقيت العبور، توقيتا بتوقيت، حرصا منه على أن تمضي الأمور في الاتجاه الصحيح، آخذا بعين الاعتبار أحوال الطقس، وطبيعة المتنافسين في تلك الأثناء، وكل ما من شأنه أن يوصل العدائين المعول عليهم إلى الرقم العالمي الجديد. فلو كان الأمر يتعلق بشخص آخر، لا يمتلك تجربة وخبرات وحدس ويلفريد ميرت، لطلب، مثلا، من الأرانب أن يقطعوا الألف متر الأولى في دقيقتين و37 ثانية، والألف الثانية في دقيقتين و38 ثانية، غير أن ميرت رتب أمورنا كي ننهي ألفي متر الأولى بين 5 دقائق و18 ثانية أو 5 دقائق و20 ثانية، وليس أقل. لم اذا لم يكن يرغب في إنهاء الألفي متر الأولى من السباق في أقل من 5 دقائق و20 ثانية؟ لأنه، وببساطة، يدرك جيدا بأن المضي في توقيت أقل من 5 دقائق و20 ثانية في مسافة ألفي متر الأولى، من شأنه أن يفرغ شحنة الطاقة التي يتوفر عليها العداؤون المعول عليهم، وبالتالي، سيكون شبه مستحيل المضي في الألف متر المتبقية بالسرعة والقوة المطلوبتين لتحطيم الرقم العالمي، والذي هو الهدف في نهاية المطاف. وقد حاول بعضهم، بالفعل، تحطيم الرقم القياسي العالمي لسباق 3 آلاف متر موانع، من قبل، غير أنهم فشلوا، مع أنهم أنهوا الألفي متر الأولى بتوقيت 5 دقائق و15 ثانية أو 16 ثانية. ذلك أن ما تبقى من السباق مر عليهم بصعوبة، فإذا بهم ينهوا سباقهم بتوقيت قدره 7 دقائق و57 أو 58 ثانية. هنا يتضح لك ما الذي تعنيه الخبرة الكبيرة، وعلى مدى سنوات، في هذا المجال. فمن دون هذا العنصر، يستحيل الوصول إلى نتائج مهمة في المجال. في المرة السابقة كان اللقاء الصحفي مفاجئا لك، ويمكن القول إنه كان صادما، بحيث لم تكن مهيئا للمجازفة بإعلان محاولتك تحطيم الرقم القياسي. فكيف تراه مر اللقاء الصحفي بعد الإنجاز؟ ما الذي يمكنني أن أقوله لك؟ ما وقع أن كل السباقات الأخرى، التي جرت في تلك الأمسية الصيفية، طواها النسيان، ولم يعد من حديث يروج سوى عن سباق 3 آلاف متر موانع، والحدث هو تحطيم الرقم القياسي العالمي. فلم أسمع أي كلام مثلا عن موريس غرين، العداء الأمريكي الشهير، صاحب الاختصاص في السرعة، ولا عن هشام الكروج، الذي كان قاب قوسين أو أدنى من تحطيم رقمه القياسي العالمي في سباق 1500 متر، الذي كان هو 3 دقائق و26 ثانية وصفر جزء من المائة. وبطبيعة الحال كنت نجم تلك الأمسية، وكل الأجهزة الإعلامية في انتظار وصولي، والوجوه يعلوها الفرح بما تحقق. وسمعتهم يتحدثون عن العداء غير الكيني؛ أي العداء الذي جذب البساط من تحت أقدام الكينيين، وتمكن من تحطيم الرقم العالمي بأجزاء من المائة. كان مراسلو أكبر الصحف والتلفزيونات والإذاعات العالمية يطرحون أسئلة متشابهة، تدور في فلك واحد، وهو هل كنت تتوقع تحطيم الرقم العالمي؟ متى وكيف شعرت بأن الرقم العالمي أمر ممكن وأنت في السباق؟ شعرت حينها بقيمة المنجز، وأنا أسمع الكلام يتكرر عن الرقم العالمي، وكيف أن الكينيين ظلوا يحتكرونه منذ سنة 1978، من دون أن يخطفه منهم أي عداء، إلى أن جاء شاب اسمه إبراهيم بولامي وانتزعه منهم. ألم تشعر حينها بأنك انتقمت لنفسك من خيبة بطولة العالم بإيدمونتون الكندية، حين دخلت عاشرا في النهائي، بفعل المرض المفاجئ؟ تماما. ولئن كنت قد ثأرت لنفسي في ملتقى زيوريخ من قبل، إلا أن لقب الرقم القياسي العالمي كان إنجازا يفوق الوصف، أنساني بالفعل إخفاقي في بطولة العالم. ثم تلهفت كي تطالع برقية التهنئة من القصر الملكي، أليس كذلك؟ بطبيعة الحال. فقبل حتى أن أصل إلى الفندق، وقع الاتصال بي، من قبل السفارة المغربية، لإخباري أن برقية تهنئة من صاحب الجلالة في انتظاري. كما وقع الاتصال بي من قبل الوزارة الوصية، للغرض عينه. ثم تحدث معي جلالة الملك، شخصيا، عبر الهاتف، حين بلغت الفندق، ليهنئني بنفسه على الإنجاز الكبير. وظل الاحتفال قائما لليال، أليس كذلك؟ أي نعم، فحين وصلت إلى المغرب وجدت عددا مهما من المسؤولين في الاستقبال، ليعبروا لي بدورهم، نيابة عن كل مغربي ومغربية، عن قيمة المنجز، ومدى ما خلفه من فرح لدى المغاربة. فماذا عن سيارة "فولسفاغن كوكسينيل ديكابوطابل"؟ (يضحك، ثم يقول) السيارة أخذت طريقها في تلك الأثناء، إذ لم يعد من إشكال بهذا الخصوص. كان الأمر يتعلق بعدد محدود من تلك الفئة المقدمة من قبل "فولسفاغن"، واحدة منها تقدم هدية للعداء المتفوق، والذي حطم الرقم القياسي العالمي، وأخرى، كما سبقت الإشارة، لمتفرج تسنى له أن يقدم التوقيت المتوقع لسباق 3 آلاف متر موانع. طبعا، لم تكن السيارة المعروضة في ملتقى فان دام هي نفسها التي أرسلت إليّ، بل أخرى غيرها. وبصدق، عندما انتهى السباق، وآل إلى ما آل إليه، صرت أنظر أكثر إلى الجوانب المعنوية. فما هو معنوي سيطر على غيره في تلك الأمسية، لا سيما أن ما هو مادي، وما وقعنا عليه في العقد المبرم بيننا، صار أمره محسوما. أي نعم، لم تكن حينها مواقع للتواصل الاجتماعي، وفورة رقمية، ولكن كان للمنجز صداه القوي في الإعلام المغربي على الخصوص. وسرني كثيرا ما سمعته وقرأته، خاصة أن الصلة بالإعلام المغربي، في تلك الأثناء، كانت قوية ووثيقة للغاية، وكان يهمنا، نحن العدائين، ما سيقوله إعلامنا، معبرا به عن الرأي العام، أكثر مما سيقال في الإعلام الدولي، وصداه عندنا خافت. قبل الختم، كانت حفاوة الاستقبال كبيرة جدا، غير أن الحفل الذي أقيم لك بمسقط رأسك، مدينة أسفي، كان له طعم مغاير، أليس كذلك إبراهيم؟ وأثناء ذلك الاحتفال ترسخ عندي المعنى الحقيقي لوصفهم للرياضيين بأنهم سفراء بلدانهم. وهو الشعور الذي قلت من قبل إنه كان يملأ نفسي كلما حظيت باستقبال ملكي. وأقول هنا إننا كنا محظوظين جدا، إذ حظينا، على عهد المغفور له جلالة الملك الحسن الثاني بالكثير من الاستقبالات، بما جعلنا نخشى على أنفسنا من أي إساءة قد نتسبب فيها للبلد. "كتولي تعرف راسك راك معروف. حيت ولينا بحال رجالات الدولة. وأي حاجة تديرها توصل". (يضحك). جلالة الملك محمد السادس، حفظه الله، بدوره كان مهتما أشد الاهتمام برياضتنا، وكنا ندرك، باستمرار، أنه يتابع سباقاتنا، ويبادرنا بالتهاني. وأذكر هنا، للمناسبة، أنه في سنة 2000، وكنت أدركت أفضل توقيت عالمي في ملتقى روما الإيطالي، فإذا بي أتوصل ببرقية تهنئة من صاحب الجلالة نصره الله. وهو ما يدل على مدى الاهتمام، ومستوى المتابعة. فماذا عن الاحتفاء بك في مسقط رأسك أسفي؟ أذكر، هنا، أنني حين عدت إلى المغرب، حظيت باستقبال خاص في مدينة أسفي. وفيها سأحصل على برقية التهنئة الرسمية من والي المدينة، والذي كان هو الشيخ بيد الله حينها. فبينما حصلت على برقية في بروكسيل، توصلت، وأنا بأسفي، بالوثيقة الرسمية، متضمنة لرسالة من صاحب الجلالة. وأنت تعرف مدى الرمزية الكبيرة لأشياء كهذه، لا سيما عندما تقع بحضور مسؤولي المدينة، وأمام الأصدقاء والزملاء، الذين أشكرهم مجددا على حضورهم ذلك. فلا يمكن إيجاد كلمات تصف الفرح بتلك الحفاوة، وسط الأهل والأحباب في مسقط الرأس. أذكر هنا، أيضا، أن المحتفين رافقوني حتى بيت الأسرة، وهو ما جعلني أشعر بفخر لا يوصف. كانت أجواء جميلة جدا. أجواء تبقى في الذاكرة إلى الأبد.