سيبقى يوم 24 غشت 2001 مشهودا في مسيرة إبراهيم بولامي، ومسيرة ألعاب القوى الوطنية والعالمية، إذ شهد تحطيم الرقم القياسي العالمي لسباق 3 آلاف متر موانع. بولامي، العداء الذي لم يكن مغمورا حينها، كيف استعد لذلك الحدث بدنيا ومعنويا وشعوريا؟ كي نفهم ما حدث في ذلك اليوم المشهود، الذي سيبقى في الذاكرة، يتعين علينا أن نسترجع ما حدث قبله بأسبوعين، وما وقع قبله بسنة. هذا ليس لغزا، بل هي الحقيقة. فلكل حدث سياقه التاريخي، الذي لا يفهم إلا في إطاره. وذلك الحدث يفهم بالرجوع إلى شيئين، سيوضحانه جيدا. لنبدأ بما حدث قبل سنة، فما هو بالضبط؟؟ الذي حدث قبل سنة من ذلك الموعد هو وصولي إلى توقيتات بين 8 دقائق وصفر ثانية و8 دقائق وثانيتين في مشاركاتي ضمن سباق 3 آلاف متر موانع؛ أي أنني صرت ضمن الدائرة الضيقة للعدائين العالميين الكبار من المختصين في السباق. أي نعم، فقد كنت أنافس الكينيين وغيرهم من الكبار، غير أنني وصلت، في سنة 2000، وبفعل الخبرة والعمل الدؤوب، إلى الدائرة الضيقة للأوائل. وهكذا، فقد صار الحديث عني يخص أحسن توقيت عالمي للسنة، أو ثاني أحسن توقيت عالمي. كنت، حينها، قد حطمت الرقم القياسي الوطني بفارق كبير. ثم انضممت إلى نادي الكبار، وأخص هنا بالذكر موزيس كيبتنوي وبيرنار بيرمساي، اللذين كانا مسيطرين على المسافة على المستوى العالمي. فماذا عن الأسبوعين من قبل؟ لأنه، ورغم كوني صرت ضمن الدائرة الضيقة لكبار المختصين عالميا في سباق 3 آلاف متر موانع، فلم يكن تحطيم الرقم القياسي العالمي من المفكر فيه عندي. فهذا لم يكن من انشغالاتي، أو لنقل إنه لم يكن في مفكرتي، أو في برنامج عملي. وللحق، فسواء قبل بطولة العالم لسنة 2001، التي جرت في إيدمونتون، بولاية ألبيرتا الكندية، أو بعدها، لم أكن أفكر أبدا في تحطيم الرقم القياسي. صحيح، ففي بطولة العالم وقع ما لم يكن منتظرا عندك. أليس كذلك؟ تماما، ففي بطولة العالم بإيدمونتون، وكان مفترضا أن أكون من بين المتوجين، وأصعد منصة التتويج، وهو ما لم يحدث. فقد كنت صاحب توقيت عالمي ممتاز، في حدود 8 دقائق وثانيتين، حسبما أذكر، ما يعني أنني كنت مرشحا لصعود منصة المتوجين. ولكن "ما كتدي غير اللي مكتب ليك الله، كما يقال". ففي مثل تلك الظروف بالضبط توقن بأن هناك قدرا، وحظا، وأمورا من هذا القبيل، لا يمكنك التحكم فيها، بينما تتحكم هي فيك. فبينما كسبت سباق نصف النهائي بسهولة، إذا بي أصاب بزكام في يوم الراحة الذي يسبق النهائي. كان صباحا صعبا للغاية، فلم أقدر على النهوض من الفراش. وانتهى بي المطاف محتلا للمركز العاشر، لتهوي كل الآمال التي كنت بنيتها على تلك الدورة. وعدت بحسرتك. كانت عودة بمشاعر مؤلمة. عدت أحمل غضبي في صدري على أمل لم يتحقق. ثم غادرت نحو زيوريخ، حيث السباق دائما ما يكون أصعب بكثير جدا مما هو عليه الأمر في بطولة العالم. لأن الملتقى كان يجمع أفضل العدائين العالميين، ما لا تستطيعه البطولة العالمية التي تجمع أفضل ثلاثة من كل بلد. بحيث تجد نفسك منافسا من قبل 8 أو 9 عدائين كينيين من الطراز الرفيع، فضلا عن 8 أو 9 عدائين آخرين من بلدان متعددة، وكلهم من أصحاب الأرقام الجيدة. بالمناسبة، هناك فروق بين سباق نهائي ضمن بطولة العالم وسباق في ملتقى خاص. فالوضع مختلف. ولكن كيف كان بالنسبة إليك؟ أي نعم، لكل ظروفه وخاصياته، ولكنها فروق بسيطة نوعا ما. فبالنسبة إلى الملتقيات دائما ما يحضر "العداؤون الأرانب"، بحيث لا يمكنك المواصلة وإنهاء السباق ضمن الأوائل ما لم تكن مستعدا وبجاهزية قوية. أما بالنسبة إلى بطولات العالم، فيمكنك أن تكسب سباقا تكتيكيا في حال كنت صاحب "فينيش" ممتاز. وللتاريخ، فملتقيات بروكسيلوزيوريخ وبرلين وموناكو، مثلا، كان كسب سباق ضمن سباقاتها يعد إنجازا في حد ذاته. وما لم تكن جاهزا، فانس شيئا اسمه الفوز. كان حضورك في ملتقى زيوريخ مميزا. ولكن هل كان مؤشرا، عندك، لإمكانية تحطيم الرقم القياسي العالمي لسباق 3 آلاف متر، الذي هو اختصاصك، في ملتقى فان دام ببروكسيل؟ أنهيت السباق، في ملتقى زيوريخ، بتوقيت 7 دقائق و58 ثانية و72 جزءا من المائة. وكانت تلك هي المرة الأولى التي أنزل فيها تحت حاجز 8 دقائق، وأول عداء عالمي غير كيني ينزل تحت ذلك السقف. وأظن أن عداءين اثنين، هما بيرنار بيرماساي وموزيس كيبتانوي، اللذين كانا قد تمكنا من الوصول إلى توقيت تحت 8 دقائق. كان إنجازا كبيرا جدا حينها. أليس كذلك؟ كان شيئا فوق الوصف، وفوق التصور. وقد شعرت شخصيا، في نهاية السباق، بإرهاق شديد. كان سباقا لا ينسى، فتوقيت 7 دقائق و58 ثانية شيء رائع. فهل كان ذلك كله مؤشرا لاقترابك من الرقم القياسي العالمي؟ عندما أنهينا السباق، وذهبنا إلى اللقاء الصحافي، فوجئت بمنظم ملتقى فان دام، ويلفريد ميرت، يستبق ويقترح علي بأن نعلن عن محاولة لتحطيم الرقم القياسي العالمي في ملتقى بروكسيل، الذي كان مبرمجا إجراؤه بعد أسبوعين. "هذي هي ضرب الحديد ما حدو سخون"؟ (يضحك) تماما. فهؤلاء، بخبراتهم وحدسهم ومعرفتهم بالرياضيين والأجواء وغيرها، يدركون أمورا لا يمكن حتى للعداء أن يدركها، وإن كانت تعنيه شخصيا، وربما حتى بالنسبة إلى المدرب نفسه. كيف كان رد فعلك في تلك الأثناء؟ شعرت بأنه "كيحضك علي". فضحكت. لماذا؟ كنت حينها مرهقا، وأرغب فقط في أخذ قسط من الأوكسجين، وإذا بشخص يقترح علي تحطيم الرقم القياسي العالمي. فلك أن تتصور الوضع. "واش أنا ما قادرش حتى نتنفس، وواحد كيقول لي نحطمو الروكور". (يضحك مجددا). وبصدق، ففي تلك الأثناء كان يبدو لي العبور من 7 دقائق و58 ثانية إلى 7 دقائق و55 ثانية مثل جبل شاهق يتعين صعوده. ولهذا كان رد فعلي الوحيد هو الضحك. هكذا، الضحك، ولا شيء غير الضحك. فماذا حدث أثناء اللقاء الصحفي؟ طُرح علي السؤال نفسه من قبل العديد من الصحافيين. وكنت أخمن: "ترى هل حدثهم في الموضوع؟ أم أنه من وحي الحدث؟". واستوقفني سؤال أحدهم وهو يقول لي: "ترى ماذا تقول بشأن محاولة لتحطيم الرقم القياسي العالمي؟ هل يمكنك ذلك؟". وكيف كان الرد؟ هل ضحكت مجددا؟ كنت أبتسم حينها، مفكرا في الرد، فإذا بمدير أعمالي يسبقني إلى الرد، ويقول له: "نعم". كيف تصرفت إذن؟ وهل شعرت بالحرج؟ لم يعد، حينها، بإمكاني أن أقول أي شيء. فقد ألقى الرجل على عاتقي بالمسؤولية كلها، وتركني في المواجهة. لا شك أن الثقل ساعتها كان عظيما؟ أي نعم، بينما رحت أسأل نفسي: "واش هذو كيخممو؟ واش كيعرفوا أش كيقولو؟". وقلت أيضا ربما هم مشغولون بالماركوتينغ، ويرغبون في التحضر لملتقى فان دام، ببروكسيل، بما أن المناسبة رهن أيديهم الآن. ومع ذلك، فشخصيا لم أفكر في الموضوع. فأنا الذي كنت أشعر بجسمي، وبالعياء، وبوضعيتي اللياقية. ومن تم، ارتأيت ألا أجاريهم في ما يقولونه، واتخذت الضحك وسيلتي كي أعبر عن موقفي مما يقع من حولي. مع كلمات عامة، وغير دقيقة. فلا يعقل أن أتحدث عن شيء بعينه لا وجود له في ذهني، ولا موقع له في برامجي. ثم عدت إلى المغرب، لفترة قصيرة. أليس كذلك؟ كان قد وقع الاتصال بي من قبل القصر الملكي، كي أحضر استقبالا ملكيا في مدينة طنجة. كان الاستقبال لمناسبة عيد الشباب، وكنت من بين المدعوين لأجل توسيمهم. وبالفعل، فقد تدربت لبعض الوقت في الرباط، ثم انتقلت إلى مدينة طنجة حيث حظيت بالاستقبال الملكي، ومن هناك إلى بروكسيل كي أشارك في ملتقى فان دام. حينها فقط، شعرت بأنني إزاء حقيقة الوضع. فقد كان يتعين علي أن أحاول تحطيم الرقم القياسي العالمي، ذلك أن الأمر حسم في اللقاء الصحافي، وصارت "نعم" التي تلفظ بها مدير أعمالي وعدا على عاتقي يفترض في أن ألتزم به. ويا له من التزام صعب للغاية.. بالفعل، لا سيما في ظل وجودي ضمن وفد مكون من هشام الكروج وعلي الزين ونزهة بيدوان، فضلا عن أن الاتصال من القصر، والتوسيم، كلها عوامل ضاعفت المسؤولية الملقاة على عاتقي، وجعلتني ملزما ببذل كل ما في الوسع لإدراك المستحيل. ألم يكن لتلك الإشادة، وذلك التوسيم، في تلك اللحظة بالذات، وقع إيجابي على إبراهيم بولامي المقبل على تحد كبير وخطير أيضا؟ بطبيعة الحال، ذلك أنك وأنت تنهي السباق، فتخبر من مقر إقامتك بأن رسالة وصلت باسمك من القصر الملكي؛ ومن صاحب الجلالة شخصيا، ثم يكملك القنصل، ليخبرك بأنه مفوض كي يبلغك تهنئة من جلالة الملك. ذلك يشعرك بالفخر، ويعطيك حافزا معنويا كبيرا، وجرعة من الطمأنينة. وكنا في تلك الأثناء نعرف مدى التتبع الذي تحظى به ألعاب القوى المغربية من قبل جلالة الملك، فضلا عن أن الملتقيات كانت تنقل، على الهواء، في المغرب، ويشاهدها كل المغاربة؛ في البيوت وفي المقاهي، وفي كل مكان. كل ذلك كان يشعرنا بالفخر، ولكنه يزيد الضغط الذي نحس به. "كنتي كتعرف راسك راك متبوع". (يضحك). والدليل أننا كنا نسأل بعضنا "واش منقولين مباشرة؟". فكل الملتقيات كانت تحظى بعناية التلفزة المغربية، مما جعلنا لمرات نتساءل عن النقل، حتى حين يتعلق الأمر ببعض الملتقيات البعيدة جدا. وما أن نتلقى الجواب بنعم، نعي معنى أن المغاربة سيشاهدوننا، وعرف أن علينا "نحمرو ليهم وجههم". ****** يعد إبراهيم بولامي، من مواليد 20 أبريل 1972، بمدينة أسفي، أحد أبرز العدائين الذين أهدتهم ألعاب القوى المغربية إلى العالم، بفعل ما قدمه لها، طيلة سنوات، لا سيما تحطيمه للرقم القياسي العالمي لسباق 3 آلاف متر موانع يوم 24 غشت 2001، بملتقى فان دام ببروكسيل، عاصمة بلجيكا. إبراهيم بولامي، الأخ الأصغر للعداء العالمي خالد بولامي، تخصص في سباق 3 آلاف متر موانع في وقت كان الأمر صعبا للغاية، بفعل السيطرة الكينية، على الخصوص، بل وتألق فيها، وصار وجوده بين الدائرة الضيقة لكبار العدائين المختصين فيها مزعجا للغاية. عندما اتهم بتعاطي مواد منشطة محظورة، سنة 2001، وبالتحديد مادة الإريثروبويتين (إيبو EPO)، دافع عن نفسه باستماتة كبيرة، وحتى حين جاءت نتيجة التحليلة الثانية تؤيد الأولى، وتؤكد الاتهام، قال لي، حينها، إنه متشبث بالبراءة، وسيبقى كذلك دائما. وهو ما لم يكن ممكنا إلا اعتباره، مادام التشبث بالبراءة عنصرا أساسيا في القضية كلها. حين غادر إبراهيم بولامي المضمار، وراح يشتغل لحساب وزارة الشباب والرياضة، سرعان ما اندمج في المجتمع، وأصبح موظفا نشيطا، وإداريا له مكانته، يثبت ذلك حضوره في عدة محطات ممثلا للوزارة، ضمنها الألعاب الأولمبية، وأولمبياد الشباب المغربي، ومحطات أخرى.