عندما نتابع الضجة الكبيرة التي أثيرت حول التعيينات "الحزبية" الأخيرة لرئيسي مجلس النواب والمستشارين في "الهيئة الوطنية لضبط الكهرباء"، نعتقد لأول وهلة أن مثل هذه الممارسات تبقى طارئة على الحياة السياسية والحزبية، وأن الأصل هو أن مثل هذه التعيينات دائما ما تراعى فيها معايير الكفاءة قبل أي معيار آخر يتعلق بالقرب الحزبي، وأن رئيسي المجلسين انحرفا بمخالفتهما هذا المنطق، ولهذا قامت القيامة ضدهما وتحركت الفرق البرلمانية لتنتقد وتشجب وتندد. مع الأسف معظم التعيينات التي تتولاها الشخصيات الحزبية، تعطى فيها الأولوية للمقربين، هذا أمر واقع. فلننظر كيف تدبر الأحزاب اللوائح الوطنية البرلمانية للنساء والشباب. فهناك من يرشح ابنه، وهناك من يقدم زوجته، وهناك من يفضل مقربيه من العائلة أو القبيلة، وحتى الوزير في الحكومة يحرص على أن يختار المسؤولين من الكاتب العام إلى المديرين من ضمن المقربين، فرغم أن مسطرة الترشيح والمقابلة، خففت من حدة المنطق الحزبي في التعيين إلا أن الاختيار الأخير في التعيين يكون للوزير، حتى أن الأحزاب التي انتقلت إلى المعارضة إما مكرهة أو بإرادتها، باتت تواجه ضغوطات داخلية للعودة إلى الحكومة قصد "الاستفادة" من التعيينات أو التوظيفات. لكن الجديد في تعيينات بنشماش والمالكي أنها أولا، جاءت فجة من حيث حجمها، فكلاهما عينا ثلاثة أعضاء دفعة واحدة من أحزابهما في هيئة ضبط الكهرباء، سيحصلون على تعويضات مغرية تفوق 6 ملايين شهريا، ولو أنهما اكتفيا بتعيين عضو حزبي واحد لكل منهما له كفاءة، إضافة إلى شخصيات أخرى كفؤة، لما أثيرت كل هذه الضجة. ثانيا، أنها تعيينات بعيدة عن شعارات الحكامة الجيدة وخارقة للقانون، وصادرة عن شخصيات في أعلى هرم الدولة، وثالثا، لأنها تبعث رسائل سلبية للرأي العام عن المؤسسة البرلمانية وتكرس الصورة النمطية عن الأحزاب والسياسيين كمجرد جماعات مصلحية. صحيح أن بعض القوانين المتعلقة ببعض المؤسسات تعطي الحق لرئيسي المجلسين لتعيين ممثلين عنهما، في مجالسها المسيرة، وهو تعيين يجري بطريقة "شخصية"، لكن النظام الداخلي لمجلس النواب، حرص على تقنين هذه العملية، عبر المادة 347، التي نصت على أن رئيس المجلس "يسهر في التعيينات الشخصية الموكولة له قانونا في المؤسسات الدستورية وهيئات حماية الحقوق والحريات والحكامة الجيدة والتنمية البشرية والمستدامة والديمقراطية التشاركية، على مراعاة مبادئ التمثيلية والتناوب والتنوع والتخصص والتعددية". هذه المادة عندما أحيلت على المحكمة الدستورية للبت في دستوريتها، اعتبرتها في القرار الصادر في 2017، "غير مخالفة للدستور"، لكنها أضافت إليها العبارة التالية: "شرط إجراء رئيس المجلس لاستشارات مسبقة مع أعضاء المكتب ورؤساء الفرق والمجموعات النيابية". وبذلك أصبح هذا القرار ملزما للبرلمان بمجلسيه. الغريب أنه رغم وضوح هذا النص، فإنه لا الحبيب الملكي، رئيس مجلس النواب ولا حكيم بنشماش رئيس مجلس المستشارين، احترما النظام الداخلي وقرار المحكمة الدستورية. فلماذا لم يستشيرا مع الفرق والمجموعات البرلمانية والمكتبين؟ هل أرادا أن يستأثرا لحزبيهما بهذه التعيينات؟ هل لأنهما يعرفان مسبقا أن الاستشارة ستؤدي إلى مراعاة "مبادئ التمثيلية والتناوب والتنوع والتخصص والتعددية"، حسبما جاء في قرار المحكمة الدستورية؟ يبدو أن استبعاد الفرق والمجموعات البرلمانية جرى عن قصد، وما يزكي ذلك هو أن تعيينات سابقة لم تراع فيها الاستشارة. ففي مارس 2019، عين المالكي، رئيس مجلس النواب، لحسن لعسيبي الصحافي الاتحادي، عضوا في لجنة الحق في الحصول على المعلومة، فيما عين حكيم بنشماش، زميله في الحزب حسن التايقي، عضوا في اللجنة عينها، وهو أيضا مدير الفريق البرلماني للبام في مجلس المستشارين. وفي دجنبر 2018، عين رئيس مجلس النواب، زميلته في الحزب بديعة الراضي عضوا في المجلس الأعلى للسلطة القضائية، فيما عين حكيم بنشماش، زميله عضو المكتب السياسي للبام عضوا في الهيئة عينها. وفي جميع هذه التعيينات لم يتم استشارة لا الفرق والمجموعات ولا المكتب. وحسبما يروي مصدر برلماني، فإن هذه التعيينات سبق أن أثارت ردود فعل رغم أنها لم تصل إلى حد إصدار بلاغات واستنكارات، وعقد اجتماع تعهد فيه المالكي بأنه لن يكرر خطأ عدم الاستشارة، بل إنه اعتذر.. لكن ها هو يعود من جديد للتعيينات الحزبية دون أن يقدم أي توضيحات. فهل أصبح رهينة لحسابات وترضيات داخل حزبه؟.. أما بنشماش، فيمكن توقع أي شيء منه..