فيروس كورونا المستجد ليس فقط، مرض غريب استعصى على العديد من دول العالم التعامل معه، بما فيها منظمة الصحة العالمية، وإنما غريب أيضا حتى في وقعه على المواطنين، والذين لازالت شريحة مهمة منهم غير مصدقة أصلا بوجود الفيروس، بل إن بعضها لازال يؤمن بنظرية المؤامرة، وأن الفيروس خدعة كبيرة سيطرت على العالم، ومنها المغرب، وأثناء أحاديثهم المشككة يسألون بعضهم: "هل أصيب أحد من عائلتك بكورونا؟"، السؤال الذي غالبا يلقى جوابا بالنفي، غير أنه لو توجه السائل والمجيب إلى المستشفى لوجدا عشرات الحالات والمخالطين، وعلما مدى الرعب والحصار الذي صار يضربه الفيروس التاجي على المغاربة والبيضاويين على الخصوص. مستعجلات و"خيمة" مباشرة من مدخل باب المستعجلات المطل على مساحة واسعة لفضاء مسجد سيدي عثمان التاريخي بالدارالبيضاء، تطالعك خيمة مؤقتة جرى نصبها في الحائط الخلفي على جانب قسم المستعجلات، وتلفت انتباهك حشود كبيرة من المواطنين، الأمر الذي صار مألوفا مع ارتفاع الإصابات بفيروس كورونا في الدارالبيضاء، وتضخم أعداد المخالطين وحتى المرتابين في أمر إصابتهم بالفيروس اللعين. عشرات المواطنين أغلبهم يضع الكمامات الواقية، بينهم أطفال صغار وشباب وشيوخ وعجائز ومسنون أيضا بالكاد يتململون مستندين على عكاكيزهم، لغط وغضب وإرهاق، وتوتر على المحيا، بعضهم مخالط لإحدى الحالات التي تأكد إصابتها بفيروس كورونا، وحضر بناء على اتصال من خلية اليقظة الوبائية بالمندوبية، في إطار نظام الترصد الوبائي، وآخرون حضروا إلى المستشفى للنظر في إمكانية إجراء التحاليل المخبرية، بينما وجد العشرات أنفسهم في صفوف المصابين المحتملين بالفيروس اللعين، عن طريق الخطأ، لأنهم لم يجدوا من يوجههم إلى قسم المستعجلات بالداخل من يقوم بالفحوصات العادية، وليس بين نار كورونا التي تتجول بين المخالطين. "اتصل بنا الطبيب مساء أمس وأخبرنا بأن نأتي إلى المستشفى لإجراء التحاليل، ولا ندري كيف سيتم ذلك"، تحدثت سيدة تبدو في بداية الخمسينات من عمرها، وهي متوترة، لتجد شبابا ينتظرون بدورهم إجراء التحليلات، وشرعوا في استفسارها عن مجموعة معلومات حول طريقة الاتصال وطبيعة المعلومات التي زودت بها الطبيب، ليخبروها أنها من المخالطين وسيتم توزيع أكياس بلاستيكية عليها وعلى المخالطين برفقتها، كما هو معمول به في بروتوكول التعامل مع فيروس كورونا. حاملون ومخالطون تائهون مؤشر الساعة يتجاوز الواحدة والنصف زوالا بقليل، ظهرت ممرضة وهي ترتدي لباسا واقيا من الفيروس التاجي، مصحوبة بحارس أمن خاص، يحملان أكياسا بلاستيكية، واخترقا جموع المواطنين حول وداخل الخيمة المنصوبة على الجهة الشمالية لمدخل قسم المستعجلات، ووضعا الحمولة فوق طاولة خشبية في منتهى يمين الخيمة المحاطة بحواجز حديدية، وسط اهتمام بالغ وتتبع من عشرات العيون البارزة من فوق كمامات مختلفة، ثم رفعت صوتها معلنة للجميع :"المخالطون سيتم توزيع الأكياس عليهم الآن، أما من ينتظرون التسجيل، فعليهم التوجه إلى هناك مصحوبين بالبطائق الوطنية.." نبرتها الحادة توحي أنها اعتادت العمل بهاته الطريقة بصفة يومية، ثم خرجت قاصدة قسم المستعجلات، في حين اكتفى حارس الأمن الخاص بالاعتذار عن الإجابة عن أسئلة المواطنين، مخبرا أنه فقط "مجرد رجل أمن خاص" ولا علاقة له بتحاليل كورونا. بادرت سيدة ترتدي جلبابا أحمر، الممرضة، بعد أن استوقفتها، وأخبرتها أنها كانت قد التزمت الحجر الصحي لمدة 14 يوما، وأنها حين توجهت إلى مستشفى "موريزكو" بعثوها إلى مستشفى سيدي عثمان لإجراء التحاليل، وأخرجت ورقة من حقيبتها اليدوية وفردتها أمام أعين الممرضة، غير أن الأخيرة بمجرد ما علمت فحوى الموضوع أشاحت بظهرها، وسارعت نحو باب قسم المستعجلات، وهي تجيب بصوت عال: "نحن لا نجري التحليلات التأكيدية بعد 14 يوما"، ثم اختفت. تسمرت السيدة في مكانها لثوان قبل أن تستوعب الأمر، وطوت الورقة، ثم اتجهت نحو باب الخروج وهي تسب وتلعن. هل حقا قدموا لإجراء تحليل كورونا؟ دخل شخصان الخيمة المخصصة للمخالطين والمشكوك في إصابتهم بفيروس كورونا، بعد حوالي 10 دقائق، وشرعا في استعراض الأسماء وتسليم أكياس بلاستيكية للمعنيين بالأمر، تكدست الأجساد أمام الحاجز الحديدي، وأرهفت الآّذان لسماع أسماء المعنيين بالأمر، في حين دخل شخص يبدو أن له حظوة خاصة، أو امتياز معين، وشرع في انتقاء أكياس لأسماء تخصه، بمعاونة مع الشخصين داخل الخيمة. الوضع لا يبشر بخير، أنفاس ترتفع من خلف الكمامات، ورائحة العرق تختلط مع الخوف والارتباك، والمواطنون مصرون على التدافع والتزاحم أمام خيمة كورونا، كأن الأصحاء منهم يرتمون في أحضان كورونا طوعا ويبحثون عنها في أنفاس وحركات وأجساد الآخرين، كل ذلك بهدف الحصول على كيس بلاستيكي جرى تجهيزه أصلا باسمه، ولن يستفيد منه غيره، لكن عادة الازدحام والتدافع لا زالت سمة تميز العديد من المغاربة في مثل هاته المواقف رغم التهديد الكبير لفيروس كورونا وانتشاره المستند أصلا على الاختلاط والتقارب. كانت الأكياس البلاستيكية تضم قنينة صغيرة مرفوقة بورقة معلومات مفصلة عن صاحبها، تتضمن الاسم الكامل والسن والعنوان ورقم الهاتف والبطاقة الوطنية، إضافة إلى رقم خاص، وطريق إدراجه في اللائحة الغالب ارتباطه باسم الشخص المريض بفيروس كورونا، والذي صنف صاحب الورقة ضمن مخالطيه. تحدث أحد الرجلين اللذين كانا يوزعان الأكياس البلاستيكية على المخالطين والأشخاص الذين سيجرون التحليل المخبرية، مجيبا عن استفسار أحد المواطنين عن الاكتظاظ الحاصل أمام الخيمة: "أمر عادي جدا، لقد اعتدنا على إجراء بين 200 و300 تحليلة يوميا". توسطت الشمس كبد السماء، واشتدت درجة الحرارة، وظهر العرق متصببا من أغلب الحاضرين، عيون تائهة كأنها تنظر لاشيء، أجساد منهكة، تبحث عن ظل شجيرات أو حائط يقيها لفحات الشمس، حتى الأطفال لا يلعبون أو يمرحون، فقط بين فترة وأخرى يتحسسون الكمامة على وجوههم الصغيرة، ويحاولون أن يستوعبوا الموقف الشبيه بقدر كبير يغلي بعشرات المواطنين دون رحمة أو شفقة. مشاهد صارت مألوفة على بعد أمتار قليلة من باب قسم المستعجلات حيث خيمة كورونا، توقفت سيارة إسعاف تابعة للوقاية المدنية، وترجل منها شخصان بلباسهما الأبيض المعروف في مواجهة فيروس كورونا، وشرعا في تعقيم السيارة وتعقيم أنفسهما في حركات استعراضية أكثر منها جدية. المواطنون من جهتهم لم يجدوا ما يمضون به وقت الانتظار الذي طال، سوى متابعة ما يجري أمامهم. مع اقتراب وصول الطبيب لأخذ العينات بدأ الازدحام داخل الخيمة المخصصة لذلك، وشرع الموظفون في إخلاء الخيمة الأولى التي تتوسطها طاولة خشبية، استعدادا لانطلاق العملية، وأثناء ذلك ارتفع احتجاج سيدة غاضبة، قبل أن يتركها الموظف وينصرف، ليترك لها مجالا للسب، تطاير الغضب من عينيها وهي تصرخ أمام انتباه الجميع، لتجيبها فتاة من فوق درج مقابل، يبدو أنها من عائلتها: "نعم أنت أول من حضر، ولا يهمنا من أرسله فلان أو علان، أو من أعطى الرشوة، حقنا سنأخذه بالسلم أو بالقوة.."، وفي تلك الأثناء تواصلت الاستعدادات لإجراء التحليلات، وبدأ الجميع في الاصطفاف والتدافع أمام الخيمة. ساعة الحسم دخل شاب يرتدي لباسا طبيا مخصصا لمواجهة فيروس كورونا رفقة الممرضة التي ظهرت في بداية الأمر خيمة كورونا، كما دخل أيضا الشخص الذي أشرف على توزيع الأكياس الصغيرة، وطلب من الجميع الاصطفاف، الرجال لوحدهم والنساء كذلك، لتنطلق عملية التحليلات، ليس كما يظهرها التلفزيون الرسمي، أو القنوات التلفزية وحتى قنوات المواقع الإلكترونية، والتي تتضمن الكثير من الحركات والإجراءات، يكفي أن تفتح الكيس البلاستيكي وتخرج القنينة الصغيرة، وتمسك بها في يدك وأنت في صف طويل بأجساد ملتصقة، وتنتظر أن يصلك الدور، تدافع وتوتر كبير، زاده أصلا الضغط النفسي عقب احتمال الإصابة بفيروس كورونا الذي أرعب العالم، وهو ما ألقى بضلاله على جموع المواطنين داخل خيمة كورونا، ليرتفع صراخ أو مشادة كلامية هنا أو هناك بين شخصين، في حين يحاول البعض الآخر تهدئة الأوضاع ولملمة المشكل، إلى أن يجري الجميع التحليلة التي انتظر إجراؤها لساعات. جرى الاتفاق على تقسيم العمل بين الشاب والفتاة لإجراء التحليلات لجحافل المخالطين والمشكوك في إصابتهم بالفيروس، وانبرت الممرضة للنساء بينما وقف الشاب على أول صف الرجال، أمسك قطعة بلاستيكية رفيعة، بها مفصل في الوسط، وتنتهي بقطعة قطن في رأسها، يطلب من الشخص نزع الكمامة عن الأنف فقط، ويدخل القطعة في الأنفس عميقا، لتلامس نهاية التجويف، يمررها قليلا قبل أن يسحبها، في تلك الأثناء يكون الشخص قد فتح القنينة البلاستيكية الصغيرة التي تحتوي سائلا يميل إلى الحمرة، ويضع فيه القطعة، ويضغط عليها لتنفصل عن بعضها بطريقة مجهزة في الصنع، ثم يغلق القنينة ويضعها في الكيس البلاستيكي الذي يضم المعلومات الكاملة عن الشخص، ثم يتوجه إلى الشخص الموالي. العملية ككل لا تتطلب أكثر من ثوان قليلة، ولكن كم الرعب والخوف من دس القطعة في الأنف أكبر بكثير من العملية نفسها، ويبدو ذلك من علامات الفرح والإحساس بالنجاح في العملية من خلال وجوه الذين خرجوا للتو من خيمة كورونا: "أحسست كأنه أدخلها من أنفي إلى دماغي، وإن كانت مؤلمة قليلا، فالأمر سريع لدرجة لا تترك لك مجالا للألم.." هكذا فسر أحد المواطنين العملية، وانصرف مبتسما. أثناء إجراء التحاليل واستعدادا للانصراف، سأل أحدهم الموظف عن الإجراءات بعد هاته العملية، وتاريخ الحصول على المعلومات، ليبادره الموظف بحزم ممزوج بتهكم غريب: "لا تخف يا صديق، فإذا تأكدت إصابتك بكورونا، هم من سيبحثون عنك، فلا تبالي بالأمر".