لم يجانب رئيس البرلمان الأوروبي، دافيد ساسولي، الصوابَ، حين اعتبر جائحة كورونا أسوأ أزمةٍ تعيشها أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وبحكم العولمة والاعتماد المتبادل في شتى مجالات الحياة، فقد أخذت هذه الجائحة منحى كونيا في فترة وجيزة جدا، إلى درجة أصبحت متابعة مؤشر الإصابات في قلب الحياة اليومية لملايين الناس. ولعل ما يزيد الوضع دراماتيكيةً حالة الغموض التي تحيط بمصدر هذا الفيروس، وطبيعته البيولوجية التي تطرح أسئلةً يشتبك فيها العلم بمعادلات السياسة والاقتصاد. وينبئنا التاريخ الاجتماعي للجماعات والشعوب بما تحدثه الأوبئة والجوائح من ارتجاجات وشروخ اجتماعية وثقافية كبرى، كما فعل ‘'الطاعون الأسود'' الذي اجتاح أوروبا وأجزاء واسعة من أفريقيا وآسيا، بين 1347 و1352، وفتك بملايين الناس، في واحدةٍ من أكثر المعارك ضراوةً في صراع الإنسان مع الأوبئة، حتى صار علامةً تاريخيةً فارقة، بالنظر إلى تداعياته الاقتصادية والاجتماعية والديمغرافية على مجتمعات تلك الحقبة. وعلى الرغم من الفجوة العلمية والثقافية الكبرى التي تفصلنا عن زمن الطاعون الأسود، إلا أنه قد لا يكون من باب الغلوِّ القول إن الخبرات البشرية تكاد لا تختلف كثيرا في التعاطي مع الأوبئة والجوائح الفتاكة، وبناء التمثلات والأفكار النمطية بشأنها. وتدل على ذلك مظاهر القلق والخوف والهلع البادية في بلدانٍ كثيرة، في تخطٍّ للتمايزات الجغرافية والثقافية والدينية والاجتماعية، سيما أمام الارتفاع المهول في الإصابات والوفيات التي باتت تُسجل يوميا، وظهورِ بوادر عجز تام عن احتواء هذا الفيروس، والحد من تفشيه الخطير. في ذلك كله، يحتل خطاب ‘'المؤامرة'' حيزا واسعا من الكيفيات التي تتعاطى بها شعوب الأرض مع هذا الفيروس. ومع ارتفاع أعداد المصابين، بات كثيرون يعتقدون أن ما يحدث فصل من حرب بيولوجية أميركية تستهدف المارد الصيني الذي يتطلع للعب أدوار ريادية في معادلات السياسة والاقتصاد الدوليين. ويُعزّز هؤلاء فرضية المؤامرة بما تم كشفه أخيرا من مساعٍ حثيثة تبذلها الولاياتالمتحدة لشراء حقوق ملكية لقاحٍ مضاد للفيروس، تعكف شركةُ أدوية ألمانيةٌ على ابتكاره. يتعلق الأمر بحالة كونية غير مسبوقة، تهدد الاستقرار الاجتماعي والأهلي للمجتمعات، وتُعطل الحياة العامة، وتنذر بانهيار اقتصادي مدوٍّ في قطاعاتٍ كثيرة. وتفتح، بالتالي، الباب أمام سيناريوهات مرعبة، تذكّر بمشاهدَ من بعض أفلام الخيال العلمي عن نهاية العالم، فالارتفاع القياسي الذي يسجل يوميا في عدد المصابين والمتوفين ينذر بتحوّل بلدان، بكاملها، إلى محاجر صحية مفتوحة، مع ما لذلك من تبعاتٍ يصعب حصرها على المدى البعيد. ولعل المُفارق فيما يحدث ما تقوم به وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، ففي وقتٍ كان يُنتظر أن تُخفف من الأعباء النفسية والاجتماعية لهذا الخطب الكوني الجلل، أصبحت مصدرا لصناعة الإشاعات والأخبار المضللة التي من شأنها أن تزيد من حالة الرعب والهلع لدى الأفراد والجماعات. من هنا، تطرح جائحة كورونا علامة استفهامٍ كبرى بشأن العولمة، ومستقبل أنظمة الاتصال التكنولوجية والثقافية المتفرعة عنها. وقد رأينا في الأيام الماضية كيف سارعت دول كثيرة إلى إغلاق حدودها، بعد أن تبين لها أن اتساع رقعة العدوى داخل أراضيها يعود إلى حركة تنقل الأشخاص بين البلدان، الأمر الذي يسائل بقوة منظومة العولمة. ففي لحظةٍ بدت الدول أكثر استجابة للاوعيها الجغرافي/ الوطني، من خلال سعيها إلى إنقاذ أنظمتها الاقتصادية من الانهيار، وتنامت مشاعر العداء والكراهية للآسيويين، خصوصا الصينيين، على اعتبار أنهم ‘'مسؤولون'' عن تفشي الوباء وانتشاره. سيكون لفيروس كورونا ما بعده على غير صعيد، فالأزمة الاقتصادية التي أصبحت تلوح في الأفق، والانهيار المحتمل للأنظمة الصحية بسبب عدم قدرتها على استيعاب المصابين، والتبعات النفسية والاجتماعية للحجر الصحي الإجباري، ذلك كله سيصب، بشكل أو بآخر، في مصلحة اليمين الشعبوي المعادي للأجانب، وحركات مناهضة العولمة والاعتمادِ المتبادل. أعاد فيروس كورونا إلى الواجهة تناقضات منظومة العولمة، وهي التناقضات التي كشفها تحوّل العالم، في فترة قياسية جدا، إلى محجر كوني، يلزم فيه ملايين الناس بيوتهم خوفا من انتقال العدوى إليهم.