سألني زميل صحافي على الهاتف: «لماذا عندما تعالت أصوات حكيمة، مع انتشار فيروس كورونا، مطالبةً بالإفراج عن معتقلي الرأي والمعتقلين السياسيين، ضمنهم الصحافي توفيق بوعشرين، خرج اثنان من المحامين يتصارخان رافضين؟». ضحكت وأنا أقول: «بداية، أنا أفضل، بدل تعبير يتصارخان، استعمال يُغوِّثان، لأن هذه العبارة العربية، المستعملة في دارجتنا، تجمع بين الصراخ وطلب الاستغاثة. وهذان المحاميان، وأمثالهما، بعدما قبلوا استعمال كل الأسلحة القذرة، وأباحوا لأنفسهم التشهير بكثير من النساء اللواتي رفضن الانخراط في سلك «حريم تجريم بوعشرين»، وتطاولوا على قامات حقوقية يوقرها الجميع، واتهموا «قضاة الأممالمتحدة» بالارتشاء.. أصبحوا يعتبرون أي انفراج في هذا الملف هو إدانة إضافية لهم». وتابعتُ: «انظر، كيف أصبح هؤلاء منبوذين لدى زملاء لهم، رفضوا التنسيق معهم في ملفات معروضة على القضاء، مثل ملف الشهيد آيت الجيد، وكيف أن الصحافي حميد المهدوي، الذي لم يكن ينطق اسم أحد هذين المحاميين إلا مقرونا ب«القاضي الشريف العفيف»، فطن، متأخرا، إلى أدواره وارتباطاته المشبوهة، فتخلى عنه ورفض استقباله في السجن. بل حتى إن محامية بالدار البيضاء اصطفت مع هذين المحاميين في ملف بوعشرين، خرجت، قبل يومين، تتبرأ من إقحامهما اسمها، دون علمها، في دعوى رفعاها ضد نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي، فرفضت المحكمة الدعوى. إن أمثال هذين المحاميين حكموا على أنفسهم بالحجر الحقوقي والعزل الأخلاقي. فحتى الجهة التي انتدبتهم لتولي ملف الصحافي توفيق بوعشرين، وأدت أتعابهم، لم تتوقع أن يزيد حماسهم عن المطلوب منهم، ولم يخطر لها ببال أنهم سيصبحون عبئا عليها، عندما ستفكر في إيجاد حل لهذا الملف الذي تكاثرت الأصوات الحكيمة، حتى داخل الدولة، مطالبة بإيجاد مخرج له، يحفظ ماء وجه الجميع، بما في ذلك المطالبات بالحق المدني ومحاموهن. لذلك، فعندما تجد هذا النوع من المحامين يُغوِّثون، فاعلم أنهم يفعلون ذلك لإنقاذ أنفسهم، لكن بالمعنى الذي عبَّر عنه محمود درويش بقوله: «قد يَخْمِشُ الغرقى يداً تمتدُّ.. كي تحمي من الغَرَقِ». فهذا النوع من المحامين يفضلون إغراق الجميع، على إيجاد حل على قاعدة لا غالب ولا مغلوب، لأنهم غير واثقين في تغير نظرة المجتمع إليهم، وبالتالي، فصراخهم استغاثة سيكولوجية. لقد كان المسرحي الألماني الكبير، برتولت بريخت، يقول: «إذا رأيت أحدهم يصفق خلال مسرحية ما، فاعلم أنه يصفق لنفسه، لأنه لقي نفسه في ذلك المشهد». وهذان المحاميان، وهما يتصارخان، لا يفعلان ذلك من أجل «نساء ضحايا»، بقدر ما يعبران عن الورطة التي وضعا نفسيهما فيها، حين تحمسا أكثر مما طلب منهما، فأصبحا محرِجين للجهة التي كلفتهما وعبئا عليها. انتهت مكالمتي مع زميلي الصحافي، على قوله: «لقد كان على هؤلاء المحامين أن ينتبهوا إلى زوجة توفيق بوعشرين عندما كتبت، قبل أيام، تدوينة تقول فيها إنها تقدم اعتذارها إلى كل من رأوا أنهم تضرروا في القضية التي توبع فيها زوجها، وإنها تسامح كل من أساء إليها وإلى عائلتها الصغيرة… وأن يلتقطوا إشارة شقيقة بوعشرين التي كتبت تتمنى الشفاء للمحامي حاجي وعائلته. لقد كان على هذين المحاميين أن يقرآ هذا النضج الحاصل في محيط الصحافي توفيق بوعشرين، وأن يستغلا أجواء التلاحم والتسامح التي سادت مع ظروف الجائحة، لإيجاد مخرج يرضي الجميع، لكنهم لم يكونوا في المستوى». انتهى كلام الزميل. لنترك هذا الجانب الحقوقي والإنساني، ففاقد الشيء لا يعطيه، ولنحتكم إلى القانون. إن العبء الأكبر الذي يشكله هؤلاء المحامون على الجهة التي «وكلتهم»، يأتي من جهلهم بالمادة التي يشتغلون بها، أي القانون. فمرة أخرى يصر هذان المحاميان، اللذان يمثلان مطالبات بالحق المدني في الدعوى المدنية المرفوعة في مواجهة الصحافي توفيق بوعشرين، على أن يتصرفا خارج نطاق توكيلهما، ضاربين، من خلال هذا الفعل، عرض الحائط بأعراف مهنة المحاماة، وقانون المسطرة الجنائية، وحكم المحكمة التي حكمت ضد الصحافي توفيق بوعشرين. لقد قضى الحكم الاستئنافي المذكور، ضمن أول ما قضى به، بعدم قبول مطالب الأطراف المدنية في ما يتعلق بالدعوى العمومية، بناء على قاعدة بسيطة وأساسية في التقاضي، وهي انعدام الصفة والمصلحة، إذ لا صفة ولا مصلحة للمطالبات بالحق المدني للتدخل في الدعوى العمومية، التي هي ملك حصري للمجتمع، الذي تمثله حصريا النيابة العامة. ومن هذا الباب، فإن كلام هاذين المحاميين في قضية الإفراج عن الصحافي توفيق بوعشرين، المعتقل تعسفا، ليس له سند أخلاقي أو قانوني، خاصة أنهما يعلمان أن أحكام السراح المؤقت، التي تقضي بها المحاكم، لا يحق للأطراف المدنية استئنافها بناء على القاعدة المذكورة آنفا. إذن، لماذا هذا الإصرار على «كراء الحُنك»، والوقوف ضد حق طبيعي لصحافي بريء، إذ إن توفيق بوعشرين لم تثبت إدانته بعد بمقتضى مقرر قضائي مكتسب قوة الشيء المقضي به، كما ينص على ذلك القانون المغربي؟ ولماذا يتطاير بُزاق القاضي المعزول، والمحامي الذي تنقَّل، أسرع من فيروس كورونا، بين الأحزاب الإدارية، كلما تعلق الأمر بتمكين الصحافي توفيق بوعشرين من أبسط حقوقه الدستورية، ألا وهو المحاكمة في حالة سراح، علما أن تهديد كورونا لحياة السجناء تهديد جدي، خاصة من هم في أوضاع صحية تفاقم مخاطر الإصابة مثل الصحافي توفيق بوعشرين؟ فهل ما يقوم به «المعزول» و«المنبوذ» هو «فهلوة» ضد القانون، لتوفير سند لمن يكتب تقريرا عن جدوى الإفراج عن بوعشرين من عدمه، خصوصا من يُمسون ويصبحون على هاجس قرب صدور عفو ملكي يصحح الأخطاء المرتكبة في محاكمات الصحافيين والنشطاء؟