مثل تعويذة، كرر، خلال خطابه مساء الاثنين، لازمة «نحن في حرب» ست مرات. إيمانويل ماكرون، الذي يدين بوصوله إلى الإليزي لسياسته التواصلية أكثر من سياسته الاقتصادية والاجتماعية، عرف، من جديد، كيف يقنع الفرنسيين، في ثاني خطاب له بعد انتشار فيروس كورونا، بقبول إجراءات «الخنق» في بلد تعتبر «الحرية» أول أقانيمه الثلاثة، قبل المساواة والإخاء. لقد كان ماكرون يجيب، ضمنا، كل فرنسية وفرنسي قد يتساءلان: وما قيمة الشانزليزي وبرج إيفل وقوس النصر وساحة لاكونكورد ومتحف اللوفر وكنيسة نوتردام… دون فرنسيين أحرار في تحركاتهم وتجمعاتهم؟ بأنه لا قيمة للفرنسيين دون حرية، لكن، لا قيمة لهم، أكثر، إن لم يكونوا سالمين معافين. لذلك، صفق الفرنسيون، بمختلف حساسياتهم، لرئيسهم حتى وهو يقيد حريتهم، أو وهو يرجئ الدورة الثانية من الانتخابات البلدية، أو وهو يعلن غلق حدود دول الاتحاد الأوروبي الخارجية، ويتوعد من ينتهك إجراءات السلامة بالعقاب… لقد توسل ماكرون بأسلوب الخطابات الملحمية القديمة لكي يرسخ في أسماع متابعيه أن فرنسا، ومعها دول الاتحاد الأوروبي، تخوض حربا صحية، لذلك تقصد أن يكرر لازمة «نحن في حرب»، لكي ترسخ في أذهان الناس ويحفظوها بسهولة، حتى إذا نسوا تفاصيل الخطاب، لم ينسوا أنهم يواجهون عدوا خارجيا، إما أن يقضوا عليه، وإما أن يقضي عليهم. وفي حمأة هذه الحرب التي يخوضها ماكرون بوطنية زائدة، خاطب المسؤولين المغاربة كما لو كانوا موظفي شرطة في مقاطعة باريسية: «إلى مواطنينا العالقين في المغرب؛ يجري تنظيم رحلات جوية لنقلكم إلى فرنسا. أطلب من السلطات المغربية الحرص على القيام بما يلزم لتحقيق ذلك في أسرع وقت». هكذا نجح ماكرون في تحويل غضب المواطنين عليه إلى شحنات وطنية، ومن يدري، فقد ترفع أسهمه، بعدما أظهرت آخر استطلاعات الرأي أن شعبيته في الحضيض. غير بعيد من فرنسا، وفي وضع أسوأ منها بسبب كورونا، لم تختر الحكومة الإسبانية تأجيل النظر في قضايا تشغل الرأي العام، بالقول: «لا صوت يعلو على صوت الحرب على الفيروس القاتل»، بل بالموازاة مع الوضع المقلق الذي يعيشه البلد مع حالة الطوارئ، خرج الملك فليبي السادس، الأحد، يعلن أنه تنازل عن ميراث والده، وأنه أوقف مخصصات الدولة لخوان كارلوس. لماذا؟ لأن الصحافة نشرت معلومات عن شبهات فساد تحوم حول الملك السابق، منها تلقيه أموالا من الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز. لقد ترك الملك فليبي السادس حكومة بيدرو سانشيز تواجه الوضع الصعب، وقد قفزت إسبانيا إلى المركز الرابع عالميا في عدد إصابات فيروس كورونا، بعد الصين وإيطاليا وإيران، وتجند لإنقاذ صورة الملكية، ليس بمعاقبة الصحافة التي فضحت فساد والده، بعدما فضحت فساد أخته وزوجها، فتسببت لها في غرامة ثقيلة ولزوجها في السجن، حيث تجاوب الملك الإسباني، بشكل إيجابي، مع ما نشرته الصحافة، واتخذ إجراءين لا أعرف، شخصيا، ملكا سبقه إليهما غير عمر بن عبد العزيز، إذ تنازل عن إرث والده المالي، وقطع مخصصات الدولة عنه. عندنا في المغرب، لم تصل الأمور إلى الحد المقلق، كما أن أغلب الإجراءات المتخذة، رسميا، لمواجهة الوباء، كانت جدية ومعقولة، رغم تأخير بعضها، غالبا بفعل الإكراهات الاقتصادية للدولة، ورغم بعض الارتباك في التواصل. وبقدر ما أبرزت الأزمة مواطنين، أغلبهم شباب، تمثلوا مفهوم المواطنة بكل ما يحمله من معنى، وأعلنوا تطوعهم لمساعدة الدولة في مواجهة الفيروس، فضحت الأزمة، أيضا، حجم الأنانية المستشرية وسط جزء من طبقتنا الوسطى، قال، بملء الفم، إنه يبحث عن خلاص فردي داخل بيوت مليئة بمؤونة من الأسواق الممتازة التي ملأها لهفة و«لهطة»، في مشهد كاريكاتيري ظهر فيه الداعون إلى إقفال بيوتهم عليهم، خشية كورونا، وهم يتدافعون، في شروط غير صحية، لنقل السلع ونقل كورونا أيضا. من حسنات كورونا، عندنا، أنها أبانت عن أن الأصوات الدينية المتطرفة أصبحت معزولة ونشازا، حيث إن مواقف بعض السلفيين من قرار إغلاق المساجد، واتهامهم العلماء الذين أفتوا بذلك بأن بهم مسا من العلمانية، لم تثر سوى ما أثارته تصريحات وزير الأوقاف المصري، محمد مختار جمعة، حين قال إن «جماعة الإخوان اختل توازنها العقلي، وفاق إجرامها كل التصورات الإنسانية، وصارت خطرا يهدد العالم بأسره، وندعو العالم كله إلى التعرف على حقيقتها الضالة، فبعض عناصرها المجرمة تدعو إلى نشر فيروس كورونا بين الأبرياء». ختاما، كورونا واحدة ومواجهتها تختلف من بلد إلى بلد، ومن نظام سياسي إلى آخر؛ فإذا كان ماكرون يريد من خلال محاربتها أن يعود بقوة إلى ساحة سياسية دحره منها خصومه في البرلمان والمحتجون عليه في الشوارع، وإذا كان فليبي السادس يريد، في ظل التضامن الذي أحدثته كورونا بين الإسبان، أن ينقذ الملكية بعملية تقطع مع إرث والده المادي والرمزي، فإننا نريد من مواجهة كورونا أن نبني جسما مدنيا يعوضنا عن أحزاب وجمعيات أصابتها كل أمراض الفساد والسلطوية، واستنهاض طبقة وسطى تخشى على الوطن، قبل أن تخشى الجوع والمرض.