تجربة «أخبار اليوم» تستحق الوقوف عندها للاعتبار، ولمعرفة كيف تتعامل البلدان التي غادرت نادي المستبدين، وبقيتمترددة في حجز مقعد كامل ضمن نادي الديمقراطيين، مع صحافتها المستقلة. قصة «أخبار اليوم» تستحق، أيضا، أنتروى، بقليل من الأسى وكثير من الإمتاع والمؤانسة، مثلما هي قصة يوسف مع إخوة رموه في البئر، وَجاؤوا أباهم عِشاءًيبكون. فهذه الجريدة تلقت، طيلة أحد عشر عاما من تأسيسها، الطعنات تلو الطعنات، فلم تفعل النِّصالُ التي استهدفتهامن كل الجهات، سوى أن صلبت عودها ضد عوادي الزمن، بعدما فشلت في إسقاطها. وها هي الجريدة قد صارت مثلقلب المتنبي الذي قال: «رَماني الدّهرُ بالأرزاءِ حتى.. فُؤادي في غِشاءٍ مِنْ نِبالِ.. فَصِرْتُ إذا أصابَتْني سِهامٌ.. تكَسّرَتِالنِّصالُ على النِّصالِ». وإلى يوم الناس هذا، نجد أسرة «أخبار اليوم» تقدم لقرائها هذا العدد الذهبي بيد وتقاوم، باليدالأخرى، مُركَّب التجويع والتركيع. لسنا هواة شكوى، حتى نعود، في كل مرة، إلى سرد تفاصيل حصار هذه الجريدة، والمحاكمات الجائرة التي وجدتنفسها تواجه فيها الأمراء والوزراء، أو حكايات الاعتقالات التعسفية التي استهدفت ولاتزال صحافييها، أو كيف تطوعزملاء مصابون بالفشل المهني والأخلاقي لتنظيم حملات التشهير بزملائهم في هذه الجريدة وبعائلاتهم، فلم يكتفوا بنشرأراجيفهم، بل إن هؤلاء، الذين حباهم لله بكل المواهب إلا موهبة الكتابة، مازالوا، إلى يومنا هذا، يسعون، بكل الوسائلوالدسائس، في بث روح الفرقة وسط «أخبار اليوم» لتفجيرها من الداخل، حتى يقولوا: «بيد أبنائها، لا بيد أعدائها»، أوكما قال محمود درويش في «أحد عشر كوكبا»: «أهْلي يَخُونون أَهْلي». لن نعود إلى كل هذا، ليس فقط لأننا لسنا هواة شكوى، بل، أيضا، لأن «أخبار اليوم» ليست محاصرة في دهاليز تحتالأرض من لدن ملثمين، بل إن من يستهدفونها يفعلون ذلك تحت الشمس وبوجوه مكشوفة، ولا يضيرهم أن يكتب التاريخعن بعضهم: هؤلاء قتلة بالأصالة، وعن بعضهم الآخر: هؤلاء قتلة بالوكالة. ما يهمنا، والجريدة تصل إلى سنتها الحادية عشرة، هو استغلال هذه اللحظة لطرح سؤال: لماذا طيلة 200 سنة منظهور الصحافة في المغرب، لم نستطع ترسيخ علاقة سوية بين السلط الثلاث والسلطة الرابعة، حيث مازالت السلطةالتشريعية تسمح بتهريب القوانين السالبة للحرية من قانون الصحافة والنشر إلى القانون الجنائي. ومازالت السلطةالتنفيذية تجعل المقاولة الصحافية تحت رحمتها، بل تحت عبثها، وها نحن نرى كيف تحرم حكومة العثماني هذه الجريدةمن حقها من الدعم العمومي دون وجه حق، ودون أن تقوى حتى على تحديد من يستهدف «أخبار اليوم» ولفائدة منيشتغل. ومازالت السلطة القضائية تتعامل مع كثير من الصحافيين على أنهم مجرمون إلى أن تثبت براءتهم، وتقبلباعتقالهم تعسفا، وتتجاهل آراء وقرارات فرق ومجموعات العمل التابعة للأمم المتحدة، في تجاهل لدستور البلد. من المؤكد أن الكثير من المنابر الصحافية المستقلة اختفت في ربع القرن الأخير، وأحيانا بتوقيع ممن كانوا، قبل حكومةالتناوب، ثم بعد خروجهم منها –ويا للمفارقة– يدافعون عن حرية الرأي والتعبير. لكن تجربة «أخبار اليوم» هي العينةالمثلى لدراسة كيف استطاعت جريدة، كل هذه السنوات، «معايشة النَّمِرة»، بتعبير الروائي اليوناني نيكوسكازاننتزاكيس، دون أن تتركها تلتهمها، ودون أن تقفل أبوابها في وجهها، فكانت تقترب منها بمقدار وتبتعد بمقدار. «أخبار اليوم» هي العينة المثلى، أيضا، لقياس درجة وأنواع العسف الذي تعرضت له جريدة مستقلة، بدءًا من قرارالوزير الأول عباس الفاسي إغلاقها في 2009، قبل أن يصدر حكم قضائي بذلك، وصولا إلى الحكم على مؤسسالجريدة، توفيق بوعشرين، ب15 سنة سجنا في 2019، حتى بعد صدور رأي أممي يعتبر اعتقاله تعسفا، ويطالببالإفراج الفوري عنه وتعويضه، ومحاسبة المسؤولين الذين قرروا اعتقاله وهُم لم يطلعوا حتى على محتوى DVR الذيقالوا إنهم صادروه من مقر الجريدة، ليعرفوا هل كان يحتوي على فيديوهات أم مقالات أم مقابلة في كرة القدم! وطيلة هذه السنوات وجدت هذه الجريدة نفسها عرضة لأغرب المضايقات، نذكر منها واحدة فقط؛ وهي إقدام أخنوش –خلال حكومة بنكيران يا حسرة– على قطع إعلانات الشركة الوطنية لتسويق البذور، التابعة لوزارة الفلاحة، عنها، وبرر ذلكبالقول: «إن الشركة قررت تعليق جميع طلبات نشر الإعلانات الخاصة بها في جريدة «أخبار اليوم» بسبب عدم توافقالنظرة التجارية للشركة مع الخط التحريري للجريدة». لقد رد توفيق بوعشرين على هذا القرار بسخرية لا تنسى، حينكتب: «هل شركتكم الموقرة تبيع حبوب منع الحمل مثلا، فيما نحن نعارض سياسة تحديد النسل ونرفع شعار: تناكحواتناسلوا؟». ختاما، عندما أعود إلى الدرس الديني الذي ألقاه الحسن الثاني في رمضان الذي صادف سنة 1967، وقال فيه مخاطباالصحافيين: «لله يا أهل القلم، لله.. لله.. يأهل الصحف، اتقوا لله حتى تكونوا مسلمين، وإن كنا نعينكم في بعض الأحيانعلى هذه التقوى ببعض الرقابة، ولكن هذا لا يكفي»، أجد أن الرقابة القبلية التي قال الملك الراحل إنه كان «يعِين» بهاالصحافيين، تحولت، اليوم، إلى رقابة بعدية، حيث من ثبت خروجه عن الخطوط المرسومة، يحدث له ما يحدث ل«أخباراليوم» التي أصبحت «échantillon» لتخويف من قد تسول له نفسه ممارسة الصحافة، وليس فقط امتهانها.