من بين الضيوف الهاربين بمجرد ما نشبت المواجهات الأولى في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر حزب الأصالة والمعاصرة، الجمعة الفائت، كان هناك قياديان من حزب التجمع الوطني للأحرار: أنيس بيرو وتوفيق كميل. وهما الشخصان الوحيدان اللذان كانا يشكلان الوفد الرسمي لحزبهما في مؤتمر حليفهما لوقت طويل. لكن مع ذلك، وجود هذين الشخصين بالضبط، يوحي بما يجب، أي إلى تلك العلاقات المتوترة بين التجمع الوطني للأحرار والأصالة والمعاصرة. بيرو، الذي يجري تهميشه باستمرار في الحزب، وقد أوكلت إليه وظيفة داخلية تتعلق بمغاربة العالم، وهي أضعف مسؤولية في قائمة التوزيعات التي جرت بين أعضاء المكتب السياسي. بينما كميل، فهو رئيس الفريق النيابي للحزب، وهو شخصية بعيدة عن الضوء في هذا الحزب. الرسالة واضحة: صقور التجمع الوطني للأحرار- أو القياديون الأكثر تأثيرا- لم يهتموا بمؤتمر “البام”، ولقد كان رؤساؤهم باستمرار يتقدمون الوفود الرسمية بكل ابتهاج في كل مؤتمر يعقده “البام” طيلة سنوات عمره العشر. ولسوف يفهم عبداللطيف وهبي ما يوحي به ذلك دون شك. إن علاقة التجمع الوطني للأحرار بالأصالة والمعاصرة لم تكن على هذا القدر من التدهور منذ 2008. ولقد تشكل الاعتقاد بأن الأحرار يتصببون عرقا، وهم يراقبون ما يمكن أن يكون ملامح لسحب البساط من تحت أرجلهم، بعدما كانوا مرتاحي إليه لحوالي أربع سنوات. “مستقبل” مربك لنعد قليلا إلى الماضي. لم يكن التجمع الوطني للأحرار يوما ندا لحزب الأصالة والمعاصرة، بل كان عبارة عن ملحقة بالنسبة إليه. رئيسه كان يخضع لشروط الأمين العام ل”البام” باستسلام. وإذا لم يفعل ذلك، فإن مصيره قد حدد سلفا. المصطفى المنصوري دفع ثمن محاولة المقاومة. لقد خاطب أعضاء مكتبه السياسي في 2009 بنبرة متحدية، وهو يشدد على ولائه لمصلحة حزبه قبل أي شيء آخر، ثم شرع في كيل الانتقادات إلى إلياس العماري وحزبه. سيسرب تسجيل لمناقشات ذلك الاجتماع، وسيجري تأديب المنصوري. ومنذ ذلك الحادث، لم يكن لخلفه، صلاح الدين مزوار بد من الطاعة، ولسوف يسلم حزبه إلى “البام” ليفعل به ما يشاء، ولقد فعل به ما شاء. النتائج الهزيلة للأحرار في 2016، كانت النتيجة الطبيعية لعملية الامتصاص الهائلة التي نفذها “البام” ضده: نوابه في البرلمان الذين أجبروا على الترشح باسم “البام”، وأعضاؤه من الأعيان الذين كانوا مكرهين على فعل ذلك أيضا، ناهيك عن الطرق الأكثر مكرا، حيث دُفع أفضل المرشحين لدى الأحرار إلى النأي عن التقدم بالترشح، وفي بعض الأحيان، طُلب من الحزب نفسه ألا يقدم منافسا. إن تلك ال102 من النواب الذين شكلوا كتيبة رهيبة لحزب الأصالة والمعاصرة ليسوا في واقع الأمر سوى المظهر المذهل لأعمال الجزارة التي مُورست على حزب التجمع الوطني للأحرار. ولسوف يقر مصطفى بيتاس، وهو قيادي في الأحرار، في وقت لاحق، بأن ثلث أعضاء الفريق النيابي للبام هم تجمعيون، ولقد طالب باسترجاعهم. كان المشهد شبيها بالطرق التي استُعمِلت في عهد تصفية الاستعمار. وبالفعل، فإن الطريقة التي استُخدم بها التجمع الوطني للأحرار في معارك حزب الأصالة والمعاصرة لم تكن لها سوى أن تولد أحقادا. في نونبر 2016، وقد أخفق “البام” في تنفيذ ما كان يسعى وراءه، أي المرتبة الأولى في الانتخابات، جرى تغيير سريع على الخريطة، أوتي بعزيز أخنوش على عجل لقيادة الأحرار، ولقد كانت بيده خطة واضحة. “البام” الآن، بوصفه القوة الثانية في البلاد، كان في الواقع مهلهلا، وعلى ضعف شديد، ولسوف يُقالُ أمينه العام، إلياس العماري بسرعة، وهو لم يمض أكثر من عام ونصف في منصبه، فيما سيظهر التجمع الوطني للأحرار وكأن عقاقير البروتين التي تناولها قد أعطت مفعولها بسرعة على شكله وحجمه. حكيم بنشماش، وقد بات أمينا عاما ل”البام”، غرق في مشاكل حزبه، بينما كانت الشائعات قد كثرت حول أعمال استقطاب كثيفة يمارسها الأحرار ضد قواعده. ولئن كان بنشماش يبدو متخاذلا إزاء الطريقة الجديدة التي ينظر بها الأحرار إليه، فإن تيار “المستقبل” لم يكن يصور نفسه سوى ك”حركة مقاومة” تحاول الحد من سيطرة أخنوش عليه. محمد الحموتي، الرجل الأكثر خبرة في آلة التنظيم داخل “البام”، قالها بشكل صريح: “لقد طلبوا مني الخضوع.. لقد أرادوا مني ألا أكون موجودا عندما يسلم حزب الأصالة والمعاصرة إلى حزب التجمع الوطني للأحرار. بشكل ملخص، فقد طلبوا مني الموافقة على تسليم الحزب، والانصياع لأمر مقدر، ولكني رفضت”. سيؤسس الحموتي بمعية قادة بارزين في الحزب تيارا داخل الحزب، ولسوف يكون التنديد بخذلان بنشماش شعارا رئيسا في أعماله. وكي تكتمل الصورة، فقد أوكلت مهمة الخطابة في هذا الصدد إلى أكثر الشخصيات انتقادا إلى التجمع الوطني للأحرار: عبداللطيف وهبي. وهبي كان باستمرار، ينتقد محاولات سيطرة أخنوش على مقدراته الانتخابية. وهو على وعي بأن أخنوش إن كان يخطط لتحقيق نتائج كبيرة في عام 2021، فإن عليه أولا، أن يقضم من “البام”. ولقد بدأ في فعل ذلك في مناطق الشمال، حيث القوة الرئيسة لحزب الأصالة والمعاصرة. وهبي قال إن “هذه الأعمال لا يجب السكوت عنها، وعلى أخنوس أن يحترس من قدرتنا على مواجهته”. لكن أخنوش على ما يبدو، لم يهدأ، فقد واصل ما كان يفعله، وسيستمر وهبي تبعا في ذلك، في مطاردته. وفي حقيقة الأمر، كان وهبي يقاوم الاعتقاد الشائع بأن حزبه لم يعد من ورائه طائل بعد الآن، وهي الصيغة المقابلة للقول بأن حزب التجمع الوطني للأحرار هو الرهان المستقبلي. ولسوف يخفف وهبي نبرته إزاء أخنوش قبيل مؤتمر حزبه، وهو يخرج منتصرا من صراع طويل مع أمينه العام، غير أن مشكلة “الأحرار” كما باتت تسمى داخل الحزب، ليست سوى في بدايتها. ووهبي وهو أمين عام الآن لحزب الأصالة والمعاصرة، عليه أن يستعد للمواجهة النهائية. لمن الغلبة؟ وهبي أمينا عاما لحزب الأصالة والمعاصرة، هي الحقيقة التي يكرهها عزيز أخنوش دون شك. لم يعد لوهبي أصدقاء كثر في ذلك الحزب كما كان لإلياس العماري، أو حتى لحكيم بنشماش. لكنه يعول على حظوظه في النجاة. يقول وهبي: “إن الأحرار لا ينبغي أن يعامل “البام” وكأنه جسد مُستباح، وإذا توقف عن فعل ما كان يخطط إليه، فإننا دون شك، سنراجع الموقف كله.. إننا لا نسعى سوى إلى أن نكون طبيعيين إزاء ما هو حولنا، وعلى الآخرين أن يكونوا طبيعيين إزاءنا”. سيكون على وهبي عبء ثقيل: أن يثق في قدرته على الحفاظ على مكتسبات حزبه في الانتخابات. ورغم كثير من المراقبين يستبعدون أن يتكرر ما حدث في 2016 مجددا، إلا أن وهبي يبشر بإمكانية حدوث ذلك. يذهب محللون، وهم قليلو العدد، إلى أن التغييرات التي حدثت على مستوى قيادة حزب الأصالة والمعاصرة، قد تشير إلى حدوث تحول على مستوى التدبير السياسي الاستباقي لانتخابات 2021، بما ليس فيه مصلحة لحزب التجمع الوطني للأحرار، ولرئيسه عزيز أخنوش. مصطفى اليحياوي، أستاذ الجغرافيا السياسية، ليس من الذين لديهم هذا التحليل، ويقول: “ما أعتقد أن نتائج المؤتمر الوطني لحزب الأصالة والمعاصرة سيكون لها مفعول إيجابي على مساره السياسي والانتخابي الذي اتسم بالتراجع ما بعد استحقاقات أكتوبر 2016”. كيف ذلك؟ بالنسبة إليه، فإن الأمر “لن يسعف الحزب، على المدى القصير، في تجاوز الصورة النمطية السلبية التي ارتبطت بنشأته أو بمساره التنافسي مع الأحزاب الأخرى، كما لن تسعفه التغيرات التي طالت قيادته في نسج علاقات مصلحية مع نخب محلية جديدة، خاصة الأعيان من ذوي المصالح الاقتصادية، لأن عرضه السياسي وشبكة علاقاته المركزية لم تعد تغري أحدا من هؤلاء”. ثم يضيف، وهو يكاد يحسم الصورة التي سينظر بها التجمع الوطني للأحرار إلى حزب الأصالة والمعاصرة: “لا أعتقد، أيضا، أن “الأحرار” حاليا بحاجة إلى الاهتمام بما جد في البام بعد مؤتمره الأخير. في اعتقادي، لقد كانت مرحلة السنتين الأخيرتين كافية للأحرار لإعادة كسب ثقة الأعيان الذين يتوفرون على الجاهزية الضرورية للمنافسات الانتخابية المقبلة. وقد أسعفته في ذلك عدة عوامل، أذكر منها على وجه الخصوص، الظروف المحيطة بالتجربة الحكومية الحالية، والنتائج المحدودة للتجربة الجماعية للمجالس التي يشرف عليها البيجيدي، والدينامية الاقتصادية والبرامج التنموية الجارية، والنقاش الذي تؤسس له تجربة تحيين النموذج التنموي”. يعتقد اليحياوي، وهو الذي يعمل باستمرار على الاستبيانات والخرائط الانتخابية، بأن مرحلة حزب الأصالة والمعاصرة قد ولّت، ولو لم يكن وهبي هو أمينه العام. وفي هذا الصدد يقول: “في ظل تراجع الاهتمام بالشأن الحزبي والعزوف الانتخابي المرتقب واحتمال فقدان البيجيدي لجزء من القاعدة الانتخابية المحسوبة على المتعاطفين، لا أظن أن هناك حزبا مؤهلا (تنظيميا وموارد وعلاقات مصلحية) اليوم، لمنافسة البيجيدي انتخابيا أكثر من الأحرار، علما بأن جاهزية هذا الحزب ستتقوى بدنو موعد 2021، حيث من المرتقب أن ما ستسفره عملية تحيين النصوص المنظمة للانتخابات المقبلة لن يزيد هذا الحزب إلا حظوظا لأن هامش مراجعة التقطيع الترابي للدوائر تبقى لصالح بروفيلات المرشحين التي عبأها الحزب استباقا للاستحقاقات المقبلة”. لذلك، فإن أي مواجهة محتملة بين حزبي التجمع الوطني للأحرار والأصالة والمعاصرة تبدو مستبعدة. ولليحياوي قراءة في ذلك: “في اعتقادي – ومن الناحية الجغرافية- لن يكون بمقدور “البام” المنافسة بشكل كاف في غير محور مراكش- آسفي وجزء من الجهة الشرقية وبني ملال خنيفرة وجزء من محور الشمال الغربي ووسط جهة طنجةتطوانالحسيمة؛ لأن ما تبقى من تنظيماته الترابية ستتأثر بشكل ملحوظ بالصراعات بين تياري “المستقبل” و”الشرعية” وتبعات تراجع “أسهم” إلياس العماري”. أمر آخر، وفقا لتحليل اليحياوي، لن يخدم حزب الأصالة والمعاصرة في المرحلة المقبلة، “إنه المدلول السياسي الذي قامت عليه أطروحته المبنية على شعارات مرحلة العشرية الأولى للعهد الجديد، أي تراث هيئة الإنصاف والمصالحة، وما يسميه تيار “الشرعية” المصالحات الكبرى والتصدي للإسلام السياسي، وغيره من الشعارات اليسارية غير المستميلة حاليا لأحد، على الأقل انتخابيا”. ويرى اليحياوي بالإضافة إلى ذلك، أن هناك سببا آخر للضعف، وهو “التوافق الذي دافع عنه بنشماش في المؤتمر الأخير، والذي يدفع في اتجاه استمرار الوجود الاعتباري في التنظيم – مركزيا- لجزء من اليساريين المحسوبين على الجناح الإيديولوجي “الاستئصالي”، المعروف تاريخيا بقلة حيلته على مستوى التعبئة الجماهيرية خلال اللحظة الانتخابية”. وليس هذا فحسب، بل إن “عاملا آخر سيُفقد حزب الأصالة والمعاصرة قوته الانتخابية، وهو فشله في لعب دور الوسيط بين الدولة والمحتجين سواء في الريف أو في جرادة. ومن المتوقع جدا أن جغرافية الاضطرابات الاجتماعية ستؤول لغيره من الأحزاب”. ماذا سيفعل وهبي إذن؟ هل سيستسلم للتوافقات المفترضة التي دافع عنها بنشماش ويزيد في إنهاك حزبه. يرى اليحياوي أن الدفع بأولئك اليساريين إلى قيادة الحزب هدفه “البحث عن الحفاظ على مكاسب لحظة التأسيس، ولحظة المواجهة الانتخابية مع البيجيدي ما بعد حراك 2011، وغايته نفعية مصلحية لأفراد محسوبين على لحظة العدالة الانتقالية”. والنتائج ستكون كارثية إن جرى التصديق على هذه الوصفة، بحسب اليحياوي، وهو يشرح ذلك قائلا: “في اعتقادي، لم يعد لهؤلاء ما يقدمونه للدولة على مستوى إدارة ميزان القوى داخل المشهد الحزبي. ففي نظري، أمكن لمرحلة سعد الدين العثماني على رأس الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية والحكومة الحالية، أن تبدد التوتر السياسي مع الدولة الذي نتج عن “الممانعة المزاجية” لبنكيران. ولم تعد أطروحة “أخونة الدولة” مصدر قلق جدي، علما بأن خلال الولاية التشريعية الحالية جرى إقرار اتفاق ضمني بين الدولة والبيجيدي على مراجعة طريقة التعيينات في المناصب العليا بشكل قلص من حظوظ العديد ممن يحسبون على الأطر الإدارية المقربين بالحزب”. وهكذا، كما يضيف المتحدث نفسه، “يبدو أن حزب العدالة والتنمية أصبح أكثر من أي وقت مضى مهيئا للقبول بمواضعات النسق السياسي المغربي، وما قول الحبيب الشوباني مؤخرا بأن البيجيدي حزب الدولة إلا رسالة سياسية لمن يهمه الأمر بأن القيادة الحالية للحزب مستعدة لأن تساير إرادة الدولة في ضبط حركية المشهد الحزبي، في أفق الأجندة الانتخابية ل2021”. وبطبيعة الحال، فإن مثل هذه التفاصيل لا تنفع الجهد المبذول من لدن وهبي لمقاومة الاندثار، لكنه قد يقلص من الخسائر. يتمسك الأمين العام الحالي بخطة عمل متوازنة، حيث لا يصبح الحجم الانتخابي مدعاة للتباهي السياسي. بشكل مبسط: لدى وهبي رؤية محددة تحد من آثار أي أخفاق انتخابي، أي أن يصبح مثل التجمع الوطني للأحرار، وحينها يمكن لحزبه وإن حل رابعا، أن يتصرف في المفاوضات وكأنه حل ثانيا. وفي غضون ذلك، يمكنه أن يقطع الطريق على الأحرار. بماذا؟ بالتسابق إلى حزب العدالة والتنمية. إن كل ما في جعبة “البام” حاليا، كما يبدو عليه الحال، هو هذه الوسيلة، لا غير. بيد أن السؤال الجوهري يبقى معلقا: هل يسمح له التجمع الوطني للأحرار بذلك؟ بتعبير أدق: هل الأحرار بالفعل يرون أنفسهم نقيضا لحزب العدالة والتنمية؟ الجواب عن هذين السؤالين سيحدد الطريقة التي سيبدو بها وهبي بعد عام ونصف: متصببا عرقا، أو مرتاح البال.