يستعد المسلمون في ربوع العالم الإسلامي للاحتفال بالمولد النبوي في شهر ربيع الأول، وتختلف أشكال هذا الاحتفال الديني من دولة إسلامية إلى أخرى، بل نجد في البلد الواحد أشكالا متعددة للاحتفال بالمولد النبوي، إلا أن المواقف الشرعية للعلماء المجيزة للاحتفال تعددت وتباينت مقاصدها من عالم لآخر، ما بين محبذ للاحتفال بمولده الشريف، لأنها مناسبة للتذكير بمناقب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وبين معترض على تخصيص يوم مولده الشريف باحتفال مخصوص، كالعالم المقاصدي، الدكتور أحمد الريسوني، الذي قال إن هذا الاحتفال “لم يرد في شأنه شيء من القرآن ولا من السنة”. ومن تم يرى الريسوني بأنه “لا يجوز تخصيص الذكرى بأي عبادة أو أي عمل تعبدي صرف… وأي شيء من هذا القبيل فهو مجرد بدعة وليس من الدين في شيء”، ومقابل هذا الرأي الفقهي، فإن “مجرد الاحتفال الطوعي الاختياري، ذي الطابع الاجتماعي أو الثقافي… جائز لا غبار عليه ولا مانع منه، ولاسيما إذا كان يحقق تقوية محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القلوب.. واستحضار شخصيته في الأذهان.. فما أجمل وما أعظم أن يصبح شهر ربيع الأول شهرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم تدرس فيه سيرته الشريفة وشمائله العطرة. فما هي دلالات الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف، وهل يجوز تخصيص هذه المناسبة باحتفال أو طقوس معنية؟ وما هي التأثيرات الإيجابية لهذه المناسبة في حياة وقلوب المسلمين؟ وفي حياة المغاربة خاصة؟.. أسئلة حملناها إلى لحسن بن إبراهيم سكنفل، رئيس المجلس العلمي المحلي لعمالة الصخيراتتمارة، ليجيبنا بأنه قد سن علماء الإسلام الاحتفال بذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم إحياء لسيرته العطرة، واستحضارا لجهاده في سبيل الله حتى أتاه اليقين، وربطا للمؤمنين بقدوتهم سيد الخلق وحبيب الحق عليه أفضل وأزكى السلام، وصرفا لهم عن الاحتفال بما يحتفل به أهل الديانات والملل الأخرى ممن كانوا يعيشون مع المسلمين في بلد واحد كما حدث لأبي العباس العزفي السبتي رحمه الله وقد رأى انبهار أبناء المسلمين في مدينة سبتة السليبة باحتفال النصارى بمولد المسيح عليه السلام، وسار على هذا الدرب ثلة من العلماء في المغرب والمشرق حتى أصبحت سنة حميدة يترأسها السلاطين ويحضرها العلماء ورجال الدولة، ويشارك فيها عامة أفراد الشعب فرحا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وصارت المساجد والزوايا والمدارس العتيقة خلال شهر ربيع الأول رحابا لمدارسة سيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم، ولإنشاد قصائد في مدحه عليه الصلاة والسلام كالبردة والهمزية للإمام البوصيري رحمه الله تعالى، وكذلك لمدارسة شمائله عليه الصلاة والسلام من خلال دراسة كتاب “الشفا بتعريف حقوق المصطفى” للقاضي عياض اليحصبي السبتي رحمه الله دفين مدينة مراكش وأحد رجالها السبعة، وتبلغ الاحتفالات ذروتها ليلة المولد، وهو يوم الثاني عشر من ربيع الأول فيحضر هذه الجلسات الإيمانية السلطان والوزراء والعلماء وعامة الناس في المساجد وفي المدن والقرى والمداشر. وقال سكنفل، وقد سارت الأمة على هذا المنوال وعملت بهذه السنة طوال عقود وقرون حتى طلع علينا من يدعي أن هذا الاحتفال بدعة ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. ورأينا من هؤلاء من يؤاخذ على من يقوم بإحياء هذه الأمسيات والليالي بالمساجد بإنشاد الأمداح النبوية وقالوا إن فيها إطراء للنبي صلى الله عليه وسلم يفوق قدره مشبهين المحتفلين بما يفعله النصارى وما قالوه في حق سيدنا عيسى عليه السلام، واستدلوا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله. والحقيقة يؤكد رئيس المجلس العلمي المحلي للصخيرات تمارة، أن المسلمين حين يحتفلون بذكرى مولد الحبيب صلى الله عليه وسلم فإنهم لا يخرجون عن السنة أبدا، بل يلتزمون بها فلا يقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما قاله الحق عنه فهو نبي الله، رسول الله خاتم النبيين وسيد المرسلين، خير خلق الله وقد قال تعالى: (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) سورة الأحزاب الآية 40. مدحه الحق تعالى فقال عز من قائل عليه (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) سورة القلم الآية 4. وقد رد الإمام البوصيري رحمه الله ما قاله هؤلاء ويقولونه: فقال في بردته: دع ما ادعته النصارى في نبيهم ******* واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم وانسب إلى ذاته ما شئت من شرف ****** وانسب إلى قدره ما شئت من عظم فإن فضل رسول الله ليس له ******* حد فيعرب عنه ناطق بفم إن المسلمين في مساجدهم وزواياهم لا يفعلون شيئا بهذه المناسبة سوى الصلاة في وقتها وقراءة القرآن الكريم ومدارسة السيرة العطرة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا كله منصوص عليه في كتاب الله تعالى. قال تعالى: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) سورة المزمل الآية 20. وقال تعالى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ) سورة العنكبوت الآية 45. وقال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) سورة الأحزاب الآية 21. وقال صلى الله عليه وسلم عن نفسه: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) رواه البخاري ومسلم. وقال الإمام البوصيري رحمه الله: محمد سيد الكونين والثقلين ****** والفريقين من عُرب ومن عجم نبينا الآمر الناهي ***** فلا أحد أبر في قول (لا) منه ولا (نعم) هو الحبيب الذي ترجى شفاعته ***** لكل هول من الأهوال مقتحم دعا إلى الله فالمستمسكون به ***** مستمسكون بحبل غير منفصم ومن هنا فإن سكنفل يعتقد أن هذا الاحتفال الديني دليل على محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدحه عليه الصلاة والسلام دليل على محبته، ونصرته دليل على محبته، وأكبر دليل على محبته وإتباعه والسير على هديه، ولا يمكن أن نعرف هدي النبي صلى الله عليه وسلم إلا بمدارسة سيرته العطرة، فإن الاحتفال بذكرى مولد الحبيب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم له آثار إيجابية في قلب كل مسلم مؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى حياته ومن ذلك: 1- تقوية صلته برسول الله صلى الله عليه وسلم. 2- غرس محبة الرسول صلى الله عليه وسلم في قلوب الناشئة. 3- التذكير بجهاده صلى الله عليه وسلم حتى بلغنا هذا الدين واضحا ميسرا. 4- ذكر شمائله وخصائصه ومقامه عند ربه في الدنيا وفي الآخرة. 5- التأسي به في أخلاقه وسلوكه مع المؤمنين وغيرهم. 6- الارتقاء الروحي باستحضار نسبتنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم باعتبارنا من أمته التي خصها الله تعالى بالخيرية في قوله عز وجل: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ) سورة آل عمران الآية 101. 7- استحضار مقامه عند ربه فقد ارتقى ليلة الإسراء والمعراج إلى مقام لم يبلغه أحد من الخلق لا نبي مرسل ولا ملك مقرب. يقول الإمام البوصيري رحمه الله تعالى: سريت من حرم ليلا إلى حرم ******* كما سري البدر في داج من الظلم وبت ترقى إلى أن نلت منزلة ****** من قاب قوسين لم تدرك ولم ترم 8- استحضار مقامه عند ربه غدا يوم القيامة فهو الشفيع المشفع. قال الإمام البوصيري: هو الحبيب الذي ترجى شفاعته ****** لكل هول من الأهوال مقتحم وأختم كلامي بما قاله الإمام البوصيري رحمه الله في بردته وهو يرد على المنكرين: وكيف يدرك في الدنيا حقيقته **** قوم نيام تسلوا عنه بالحلم فمبلغ العلم فيه أنه بشر ****** وأنه خير خلق الله كلهم وأردد قول الإمام البوصيري رحمه الله في همزيته محتفيا بليلة المولد الشريف : ليلة المولد الذي كان للد ****** ين سرور بيومه وازدهاء وتوالت بشرى الهواتف أن ******* قد ولد المصطفى وحق الهناء كما أردد قول أمير الشعراء رحمه الله في همزيته: ولد الهدى فالكائنات ضياء ******* وفم الزمان تبسم وثناء وفي سياق متصل بالذكرى العطرة لمولده صلى الله عليه وسلم، فإن تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي يذكر الإمام أبو شامة أن أول من احتفل به بشكل منظم هو معين الدين الإربلي المعروف بالملاء شيخ الموصل في عصره، (ت: 570ه) وقيل: إنه كان يحتفل بها سنويا بحضور الشعراء والأمراء في زاويته. ويذكر الإمام السيوطي أن أول من احتفل بالمولد النبوي هو حاكم أربيل (شمال العراق) ابن بكتكين. ولكن الأشهر هو عناية الدولة العبيدية الشهيرة بالفاطمية بالمولد النبوي، حيث كانت تحمل صواني الحلوى إلى الجامع الأزهر، ثم إلى قصر الخلافة، حيث تلقى الخطب ويدعى للخليفة. كما كانت الدولة الأيوبية تحتفل بالمولد النبوي وينفق فيها أموال طائلة على الفقراء وغيرهم، ويجتمع الصوفية والفقهاء والوعاظ والشعراء، فتنحر الإبل والبقر والغنم وتطبخ ويأكل الناس. هذا واتخذ الاحتفال في الخلافة العثمانية شكلا آخر، حيث كان يحتفل بالمولد كل عام في مسجد معين، ولما كان عهد السلطان عبد الحميد الثاني اقتصره على الجامع الحميدي، ويخرج العلماء والناس في ليلة الثاني عشر من ربيع الأول فيدخلون المسجد، مع السلطان، فيقرؤون القرآن ثم يقرؤون قصة مولد النبي ثم كتاب دلائل الخيرات في الصلاة على النبي ثم ينتظم بعض المشايخ في حلقات الذكر فينشد المنشدون وترتفع الأصوات بالصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام، ثم في صبيحة يوم 12 من ربيع الأول يجيء كبار الدولة لتهنئة السلطان. وفي المغرب الأقصى اتخذ الاحتفال شكلا قريبا من احتفال الخلافة العثمانية، حيث يجمع المؤذنون ويخرج السلطان فجر يوم المولد فيصلي بالناس ثم يجلس على أريكته ويدخل الناس حسب طبقاتهم، ثم يتقدم أحد الوعاظ لسرد جملة من فضائل النبي ومعجزاته، ثم يقوم الشعراء والمداح، فإن انتهوا، بسطت موائد الطعام للناس. لقد انقسم العلماء إلى فريقين، فريق يرى أن الاحتفال بالمولد النبوي بدعة منكرة، وفريق آخر يرى أنه جائز، لكن أحدا من الفقهاء لم يقل بجواز ما تقوم بعض الاحتفالات من محظورات شرعية، أجمع جلهم على إنكارها وعدم جوازها.