الحمد لله الذي زيّن شهر ربيع الأوّل بمولد قمر الجود والوفاء. سيّدنا ومولانا محمّد المختار المصطفى. فسبحانه من إله رحيم. شرّف مولد هذا النبيّ الكريم. فجعله للمؤمنين سرورا، وللمحبّين ربيعا، وكان صلى الله عليه وسلم لأمّته في الدنيا رسولا. وفي الآخرة رحيما بهم وشفيعا. أمره ربّه بإظهار شرفه عليهم. فكان لقوله سميعا، ولأمره مطيعا، فقال له في سورة الأعراف:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً}. نحمده تعالى ونشكره أن جعل أرواحنا وقلوبنا تستروِح بذِكْر حبيبِنا في جميع الأحوال. وتنشرح بسماع مَدْحه وما له من خصال الكمال، ورغم أنه في مثل هذا الشهر المبارك، وهذه الأيام المباركة، إظهارُ الحفاوةِ والتّرحيب المكلَّلةُ بالزّهور والعطر والطِّيب لقدوم شهرِ ربيعٍ الأنورِ الحبيب شهرِ ميلاد سيِّدِنا محمّد صلَّى وسلَّم عليه.. إلا أنه آلمني أشد الألم ، حال بعض المشايخ في مشرقنا الإسلامي خاصة، الذين لا يحسنون الا التحريم و “التكريه” بل وتنفير الناس من الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، مشددين على أنها بدعة وظلال مهما كان أسلوب الاحتفال، كيف انقلبوا من عشية لضحاها إرضاء لسياسات وافدة وأوامر نافذة، فتراجعوا و أباحوا ما كانوا قد حرموه منذ سنوات قريبة، بل منذ أشهر فقط، لما كانوا يرسلون لخطباء المساجد وللمسلمين عامة منشورات وخطب جاهزة لبعض المشايخ و الدعاة في مسألة تحريم ذكرى الاحتفال بالمولد النبوي الشريف على أنها بدعة منكرة، وتوصية القوم بالتمسك بالسنة واجتناب البدع، خاصة منها – حسب زعمهم – “بدعة المولد النبوي” وانتشارها في صفوف الجالية المسلمة، مذكرين فيها بأدلة “بِدعية” الاحتفال بذكرى مولد رسول الله، مذيلة بأصناف المحتفلين بذكرى المولد النبوي وبعض شبهات أصحاب هذه البدعة والرد عليهم، مختومة بنداء إلى أهل البدع ليتوبوا !!.. وغيرها من الأمور، و الغريب أن هذه النداءات، لا تأتينا الا في مثل هذه المناسبات، مناسبات فرح المسلمين بمولد خاتم الأنبياء، عليه الصلاة و السلام.. لكن حمدا لله، أن الأمة لا زالت بخير حتى في غربة بلاد المهجر، فهي تحتفل بالمولد النبوي بالطريقة الشرعية اللطيفة النظيفة العفيفة، بعيدا عن كل جنون و مجون، ولها مراجعها الموثوق بها في ذلك، مما حمل احد المشايخ، بقوله لنا “نحن في هذا الباب، أي الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، نأخذ عن علماء المالكية”، أي يقصد دول المغرب الإسلامي، مذكرا اياي أنه نظمت عدة ندوات في فرنسا وبلجيكا في السنوات الأخيرة، بل و وزعت منشورات تبصيريه تنويرية، تشرح للمسلم و ترد على أسئلة عديدة منها: ما معنى الإحتفال؟ ما هي البدعة وماهي الضلالة؟ ما هو المُحدَث؟ هل في الشرع بدعة حسنة؟ هل القرآن يعظم أيام ميلاد الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام؟ هل هنالك شك في تاريخ ميلاد النبي ﷺ؟ هل كان النبي ﷺ يعظم يوم ميلاده؟ هل النبي ﷺ كان يترك الصدقات والذكر والعلم في يوم الأثنين، يوم ميلاده ﷺ؟ هل ذبح النبي ﷺ في ذكرى ميلاده بعد أن أتته الرسالة وجمع الصحابة للطعام؟ هل نخالف اليهود والنصارى في تعظيم الأنبياء والرسل عليهم السلام؟ هل الإجتماع للعلم والذكر ثابت شرعاً؟ هل الصحابة رضي الله عنهم مدحوا رسول الله ﷺ في المسجد النبوي الشريف؟ كل هذه الأسئلة و غيرها، مذيلة بنصوص لمشايخ أجازوا الاحتفال بالمولد بل و دعوا للاستفادة من نفحاته، نقتبس من منشورهم، بعض ما جاء فيها من اجتهادات رجالات جمعية العلماء المسلمين خاصة شيخيها العلامة بن باديس والبشير الابراهيمي رحمة الله عليهما، عن “مجالس التّذكير من حديث البشير النّذير” للشيخ عبد الحميد بن باديس، قوله : ” بسم اللّه الرّحمن الرّحيم، وعلى اسم الجزائر الرّاسخة في إسلامها، المتمسّكة بأمجاد قوميتها وتاريخها أفتتح الذّكرى الأولى بعد الأربعمائة والألف من ذكريات مولد نبي الإنسانيّة ورسول الرّحمة سيّدنا ومولانا محمّد بن عبد اللّه عليه وعلى آله الصّلاة والسّلام … لسنا وحدنا في هذا الموقف الشّريف لإحياء هذه الذّكرى العظيمة، بل يشاركنا فيها نحو خمسمائة مليون من البشر في أقطار المعمور كلّهم تخفق أفئدتهم فرحا وسرورا وتخضع أرواحهم إجلالا وتعظيما لمولد سيّد العالمين.. . شارحا أن الدّاعي إلى إحياء هذه الذّكرى هي محبة الرسول، وإنّ الشّيء يحبّ لحسنه أو لإحسانه وصاحب هذه الذّكرى قد جمع على أكمل وجه بينهما”. معلقا بقوله:” فمن الحقّ والواجب أن يكون هذا النّبيّ الكريم أحبّ إلينا من أنفسنا وأموالنا ومن النّاس أجمعين ولو لم يقل لنا في حديثه الشّريف : “لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ إليه من ولده ووالده والنّاس أجمعين” وكم فينا من يحبّه هذه المحبّة ولم يسمع بهذا الحديث ؟ فهذه المحبّة تدعونا إلى تجديد ذكرى مولده في كلّ عام، استثمارا لهذه المحبة” خاتما بقصيدة للإمام بن باديس، بعنوان : تحية المولد الكريم، في عدة أبيات، مطلعها: تحييت يا جمعَ الأدب *** ورقيت ساميةَ الرتبْ وَوُقِيتَ شرَّ الكائدي *** ن ذوى الدسائس والشغبْ ومُنِحْت في العلياء ما *** تسمو إليه من أربْ أحييت مولد من به *** حييَ الأنام على الحِقَبْ أحييت مولوده بما *** يُبرى النفوسَ من الوصبْ بالعلم والآداب و ال *** أخلاق في نشءٍ عجبْ أما عن الشيخ محمّد البشير الإبراهيمي، نقل لنا عنه قوله رحمه الله : “إحياء ذكرى المولد النبوي إحياء لمعاني النبوة ، و تذكير بكل ما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم من هدى ، وما كان عليه من كمالات نفسية، فعلى المتكلمين في هذه الذكرى أن يذكّروا المسلمين بما كان عليه نبيهم من خلق عظيم، وبما كان لديهم من استعلاء بتلك الأخلاق. لهذه الناحية الحية نجيز إقامَ هذه الاحتفالات، ونعدّها مواسم تربية، ودروس هداية، والقائلون ببدعيتها إنما تمثلوها في الناحية الميتة من قصص المولد الشائعة.” فكيف بعد هذه الرحمة. وهذا العطف والحنان والمحبّة، نغفُل عنه، أو نُحَوِّل قلوبَنا عن دوام التوّجه إليه؟ أيّها المسلمون، فكيف بعد هذا كلِّه لا نحتفي بشهر مولده، ولا نفرح بليلة قدومه، وسطوع نوره، صلى الله عليه وسلم؟! كيف لا نملأ الدنيا فرحاً وسروراً بمولد مَنْ جعله الله لنا سراجاً منيراً؟! فبِمَنْ يكون فَرَحُنا إنْ لم يكن برسول الله صلى الله عليه وسلم؟! عروسُ مملكة الوجود.. والسبب الأعظم لكل موجود، وما الذي يُدْخِل البهجة على قلوبنا إلا ذِكْرُ الحبيب المحبوب، الذي بذكره والصلاةِ عليه تستنير القلوب، وتُغْفَر الذنوب، وتُجَلَّى الكروب. وإذا كان جَبَلُ أُحُدٍ قد اضطرب فرَحاً، واهتزَّ وُجْداً وطرَباً، تحت قدميه، صلوات الله وسلامه عليه، فرحاً به، وحبّاً له، فكيف لا نفرح نحن ونحتفي بشهر مولده، ونعتزّ بأن جعلنا الله من أمّته، صلى الله عليه وسلم.